لبنان: سبعة أسباب لماذا ينجو – وثلاثة أسباب لماذا قد لا ينجو

ما حدث في سوريا لم يبقَ في سوريا. في العام 2014، إجتاحت قوات تنظيم “الدولة الإسلامية” مرة أخرى العراق، وإنتشر الإرهاب، والتوتر الطائفي، والخوف في أنحاء كثيرة من الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن أحد الأخبار الجيدة أمكن العثور عليه في مكان غير متوقع: لبنان. الدكتور بول سالم، نائب الرئيس للبحوث السياسية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، يوضّح لماذا، حتى الآن على الأقل، نجا لبنان من الفوضى الناجمة عن الأزمة في بلاد الشام، وما هي المخاطر التي يمكن أن يواجهها بلد الأرز بعد أشهر أو سنوات.

مجلس الوزراء اللبناني: مشلول وغير كفؤ
مجلس الوزراء اللبناني: مشلول وغير كفؤ

بقلم الدكتور بول سالم *

نجت دولة لبنان الصغيرة، والمُقسَّمة، والضعيفة من التحديات الأمنية والسياسية وتداعيات اللاجئين التي حملها، وما زال، الغضب العارم السوري المجاور – على الأقل حتى الآن. لقد تعطّل النظام السياسي، وتباطأ الإقتصاد، وتدهور الأمن، وزادت التوترات الطائفية، ولكن الدولة والمجتمع والإقتصاد ثابرت وصمدت كلها، ولم يكن هناك إنهيارٌ كبير أو إنفجارٌ خطير. على هذا الأساس يُوجَّه إليّ دائماً السؤال التالي: ما هي أسباب هذه المرونة المفاجئة وبالتالي ما هي المخاطر الرئيسية التي يُمكن أن يواجهها لبنان في الأشهر والسنوات المقبلة؟
المصدر الأول لصمود لبنان هو إتفاق الطائف الذي وُقّع في العام 1989. لقد أنشأ الطائف وسيلة لتقاسم السلطة من خلال النظام السياسي؛ وعلى الرغم من عدم كفاءته الشهيرة في صنع القرار، فإن جميع الأفرقاء الرئيسيين تمتّعوا بنصيب وحصة في هذا النظام. ولا يسعى أي فصيل رئيسي إلى الإطاحة به من طريق العنف. كانت الحروب الأهلية في لبنان في العام 1958 والعام 1975 في مقياس كبير ضد هيمنة مجتمع واحد – الموارنة – على مقوّمات الدولة. والحروب الأهلية في سوريا، العراق، ليبيا، واليمن، كانت كلها أيضاً نتيجة لإنكار أساسي ورئيسي لحق بعض الأفرقاء في التمثيل وشموله في الدولة. من أجل إعادة صياغة وتغيير شعار سياسي شهير، عندما يتعلق الأمر بتمرّدات رئيسية أو حروب أهلية، ف”إنها السياسة يا غبي”. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدولة اللبنانية، في حين أنها “أوليغاركية” (تسيطر على سلطتها وخيراتها أقلية)، وطائفية، وفاسدة، فهي تشرف على مجتمع حر إلى حد ما، منفتح، وتعددي مع مستويات محدودة من القمع الرسمي. وفي حين أنه قد تم تأجيل الإنتخابات التشريعية والرئاسية لمدة سنتين، فإن جميع المناصب الرئيسية في الدولة قُرِّرت – وسيتم تقريرها – في نهاية المطاف بواسطة الإنتخابات. هناك حركة مجتمع مدني نابضة بالحياة حيث إحتجت من أجل إجراء إصلاح عميق للنظام، وبالتالي فهي قوة صحّية تحافظ على بعض الضغط على “الأوليغار”، كما أنها بالتأكيد لا تهدّد بإنهيار النظام أو حرب أهلية. إن النظام السياسي اللبناني يحتاج بالتأكيد إلى مجموعة من الإصلاحات السياسية، ولكن الشمولية الأساسية للنظام تبقى حصناً أساسياً على الأقل ضد حرب أهلية خطيرة من النوع الذي نراه في العديد من الدول العربية المجاورة. في الواقع، إلى أن تستطيع سوريا والعراق التوصل إلى بعض الترتيبات المتفق عليها للتمثيل وتقاسم السلطة في الدولة، مع قدر من المساءلة الديموقراطية، فليس من المحتمل أن يعرفا نهاية للصراع المدني.
ثانياً، لا تزال غالبية اللبنانيين تتمتع بذاكرة حية عن الحرب الأهلية 1975-1990 وهي ليست مستعدة للسير في هذا الطريق مرة أخرى. كانت الحرب الأهلية التي إستمرت 15 عاماً كابوساً وطنياً حيث خلّفت أكثر من 150,000 قتيل، وكثيراً من الجرحى والمُشرّدين، ودمّرت بلداً كان الأكثر إزدهاراً في المنطقة. إن إندلاع حرب أهلية مجاورة في سوريا، لم يكن سوى تذكير للبنانيين بصدمتهم الوطنية الخاصة، وضرورة تجنّب إعادتها.
ثالثاً، لدى “حزب الله” ترسانة أسلحة ضخمة تمنحه ميزة على الفصائل السياسية الأخرى في البلاد الأمر الذي أثنى المعارضين السياسيين عن محاولة حلّ الخلافات السياسية من طريق إستخدام السلاح. إن المناوشات التي وقعت في بيروت في أيار (مايو) 2008 بين “حزب الله” ومسلحين سنة من أنصار “تيار المستقبل” إنتهت بشكل حاسم لصالح الحزب. وبينما يستمر وجود “حزب الله” المسلّح في لبنان، فضلاً عن تورّطه الثقيل في سوريا، أحد الأسباب الرئيسية للخلاف بين الفصائل الرئيسية في لبنان، فقد جرى، ويجري، هذا الخلاف بعيداً من المواجهة المسلحة وبالعودة الى الساحة السياسية.
رابعاً، في حين أن إيران والمملكة العربية السعودية، الراعيتين الرئيسيتين للفصائل السياسية في لبنان، تشنّان حرباً بالوكالة في سوريا واليمن، فقد حثتا عملاءها عموماً في لبنان على تجنب حرب أهلية، والمشاركة معاً في الحكومة، والحفاظ على الوضع الراهن غير المستقر. بالنسبة إلى إيران، فإن أولوياتها الرئيسية هي أن يستمر “حزب الله” في القتال في هذه الفترة من أجل بقاء نظام الأسد في سوريا والحفاظ على الردع ضد إسرائيل؛ إن الغرق في صراع داخلي في لبنان لن يكون إلا إستنزافاً والهاءً خطيراً. بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية (وغيرها من الرعاة الخليجيين)، فإن السنة منذ إتفاق الطائف تمتعوا بوضع إيجابي في الدولة اللبنانية من خلال منصب رئيس مجلس الوزراء؛ وهي لا تريد أن تُعرّض الوضع الراهن للخطر من خلال مواجهة كبرى في لبنان والتي من المرجح أن يفوز بها “حزب الله” والتي قد تؤدي إلى إنهيار إتفاق الطائف وعكس المكاسب السنية.
خامساً، ساعدت الجغرافيا الطائفية لبنان على تحقيق الإستقرار في البلاد. تقع معاقل “حزب الله” والشيعة في بيروت والبقاع والجنوب. وفي حين أن أهل السنة لهم وجود ديموغرافي وسياسي قوي في بيروت، فإن معقلهم السكاني الكبير هو في الشمال — طرابلس، الضنية وعكار. ما بين الشمال وبيروت فإن غالبية المناطق مسيحية — البترون، كسروان والمتن. وبعبارة أخرى، لو كانت الجغرافيا الطائفية في لبنان مختلفة ومعاقل الشيعة والسنة متاخمة – كما هي إلى حد كبير في العراق، على سبيل المثال — وليست منفصلة بواسطة طرف ثالث، فإن إحتمال إندلاع حرب أهلية كبيرة بين السنة والشيعة في لبنان سيكون أعلى من ذلك بكثير.
سادساً، في حين أن النظام السياسي أصبح مشلولاً على نحو متزايد، فإن الجيش وقوات الأمن الداخلي اللبنانية صارا أكثر فعالية. لقد هزم الجيش تحدياً كبيراً من المجموعة الإرهابية “فتح الإسلام” في العام 2007 وقام ببناء خط دفاعي قوي ضد الغارات الإرهابية على طول الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا. ومن جهتها أصبحت قوى الأمن الداخلي أيضاً أكثر فعالية، ولا سيما في قدرات الإستخبارات والمراقبة. وقد جاءت هذه الزيادة في قدرة الفروع الأمنية للدولة بدعم كبير من الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى. ولأول مرة منذ عشرات السنين، صار لدى لبنان قوات أمن تتمتع بتأثير حقيقي في مجال الدفاع والأمن القومي وتؤخذ على محمل الجدّ داخلياً ودولياً. ويلعب الجيش، على وجه الخصوص، دوراً سياسياً وطنياً إذ أنه أصبح أكثر شمولاً على نطاق واسع، وعلى الرغم من بعض التوترات مع الطائفة السنية، فإنه لا يزال عموماً نقطة مشتركة للهوية الوطنية.
سابعاً، في حين أن الإقتصاد قد إهتزّ جرّاء تعطّل الإستثمار والتجارة وتدفق اللاجئين الثقيل (أكثر من مليون لاجئ سوري مُسجّل في بلد عدد سكانه 4 ملايين)، فإنه تجنّب الإنهيار وبقي صامداً مع إيجابية، على الرغم من بطء شديد، في نمو الناتج المحلي الإجمالي. ويرجع ذلك في جزء منه إلى قطاع مصرفي قوي، وإرسال التحويلات المالية الخارجية الكبيرة من المهاجرين اللبنانيين الكثر، وإقتصاد مرن إعتاد على الأزمات.
ولكن الضغوط على النظام كبيرة. إن البلاد ما زالت بلا رئيس منذ أكثر من عامين، وإنتهت ولاية البرلمان الشرعية قبل ثلاث سنوات. كما أن الحكومة مشلولة وغير كفوءة – جهودها لجمع القمامة انهارت في صيف 2015 — مما أدى إلى حركة إحتجاج من الشباب والمجتمع المدني أُطلق عليها إسم “حركة طلعت ريحتك”. وقد فجرت خلايا إرهابية قنابل في بيروت ومناطق أخرى من البلاد، وحافظ الجهاديون، الذين يتّخذون من سوريا مقراً لهم، على موطئ قدم في البلدة الحدودية عرسال في البقاع الشرقي. إضافة إلى أن وجود أعداد كبيرة من اللاجئين يؤثر بشكل خاص في المجتمعات المضيفة والمنخفضة الدخل في المناطق الريفية، وبطء النمو الإقتصادي بدوره يؤدي إلى مستويات عالية من البطالة والهجرة بين الشباب.
الواقع أن المشاكل والتحديات التي يواجهها لبنان كثيرة وخطيرة وتحتاج إلى أن تُعالج على وجه السرعة من خلال ترشيد الإدارة ومواصلة الدعم الدولي. ولكن معظمها لا يهدد بشكل مباشر بقاء الدولة أو النظام العام غير المستقر. ولكن المخاطر التي قد تؤدي في الواقع إلى إنهيار هذا النظام يمكن أن يكون واحداً مما يلي:
أولاً، تتقاتل إيران ودول سنية عدة في المنطقة في سوريا واليمن ولكنها تحث على الهدوء في لبنان. إذا قررت إيران أو أيّ من الدول السنية الرئيسية توسيع نطاق الحرب بالوكالة إلى لبنان، فإن النظام غير المستقر قد ينهار.
ثانياً، وجد الجهاديون المتطرفون والجماعات الإرهابية أرضاً خصبة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولكن حتى الآن لم يعثروا على حاضن لهم بين الطائفة السنية في لبنان أو مجتمع اللاجئين السوريين في لبنان. إذا تغيّر هذا بشكل كبير، يمكن حينها أن ينمو الوضع ويتطور أكثر من قدرة الدولة على التحمل والسيطرة الأمر الذي قد يؤدي إلى إنهيار الدولة وحرب أهلية.
ثالثاً، إن الهدوء المتوتّر بين إسرائيل و”حزب الله” الذي ساد منذ حرب العام 2006 لا يزال متمركزاً على ضغط زناد. من ناحية، تمحور “حزب الله” الى سوريا وغرق في نزاع مفتوح هناك. من جهة أخرى، يسيطر “حزب الله” الآن على أراضٍ في كل من لبنان وسوريا، وحافظ على كل قدراته الصاروخية التي من شأنها أن تؤثر في إسرائيل، وإكتسب المزيد من الخبرة في الإستيلاء والسيطرة والصمود على الإرض. لدى إيران أيضاً وجود مباشر الأن في سوريا؛ وبينما كانت إسرائيل عموماً “تثق” بنظام الأسد، الأب والابن، بعدم الدخول في حرب مباشرة معها، حتى عندما يدعم وكلاء مثل “حزب الله”، فلا يوجد مثل هذا التوقع و”الثقة” في العلاقة مع إيران. وبينما يركّز كلّ من “حزب الله” وإيران بشكل كبير على الحرب في سوريا وليست لديهما مصلحة في إشعال حرب مع إسرائيل، لكنهما يريدان إظهار التحدي وواقع الردع.
من جهتها تابعت إسرائيل التطورات في شمالها مع مزيج من الإرتباك والقلق، وأغارت طائراتها على ما تعتبره نقل أسلحة رئيسية من سوريا إلى لبنان، وعملت على منع “حزب الله” وايران من الحصول على موطئ قدم في هضبة الجولان. لكن الوضع مائع ولا يمكن توقع إتجاهه، كما أن مخاطر إندلاع حرب أخرى بين إسرائيل و”حزب الله” حقيقية. إن أيّ عدد من الحوادث الحدودية قد يؤدي إلى تصعيد، كما حدث في تموز (يوليو) 2006. وهذه المرة ستكون الحرب أكثر تدميراً.
إن المخاطر على بقاء لبنان وإستمراره في مواجهة تداعيات الغضب العارم في سوريا والعراق هي حقيقية. ولكن بمنع التطورات الرئيسية مثل واحد من الثلاثة المذكورة أعلاه، فإن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان، مع كل البثور والخلل، من المرجح أن تصمد. ما يمكن للولايات المتحدة وغيرها من أصدقاء لبنان القيام به هو الإستمرار في تقديم الدعم للاجئين، والضغط على السياسيين للإقدام أخيراً على إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والحفاظ على الدعم للجيش الوطني.

• الدكتور بول سالم هو نائب الرئيس للبحوث السياسية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
• كُتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في أسواق العرب”، كما كان نُشر أولاً في معهد الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى