هل باتت السرية المصرفية في لبنان في خطر؟
بقلم الدكتور عبد الله ناصر الدين*
عند صدور قرار وزارة الخزانة الأميركية الأخير رقم ٢٢٩٧ الذي يستهدف “حزب الله”، إستطاع مصرف لبنان (المركزي) ومعه القطاع المصرفي اللبناني إمتصاص العواقب الأولية المباشرة للقرار عبر قطع الطريق على أي إلتباس في ما يتعلق في مدى إلتزام بيروت بالقرار، وعمدت حاكمية المصرف المركزي اللبناني إلى إصدار التعميم ١٣٧ حول المراسيم التطبيقية للقرار لتستبق الزيارة المتوقعة لمساعد وزير الخزانة الأميركي ديفيد غلايزر إلى العاصمة اللبنانية في الاسابيع المقبلة. لكن هذا المشهد سرعان أن تغيّر مع خروج كتلة الوفاء للمقاومة (كتلة نواب “حزب الله” في مجلس النواب) عن صمتها في تحرك غير متوقع يدين إنصياع القطاع المصرفي ومعه مصرف لبنان للقرارت الأميركية المالية المتكاثرة من دون “أخذ مصلحة لبنان” بعين الإعتبار حسب ما أعربت الكتلة. والسؤال هنا: ما هي مفاعيل القرار الأميركي الإقتصادية والمالية ولا سيما تلك المرتبطة بالسرية المصرفية وما هي هذه التداعيات بعد دخول مصرف لبنان و لو مرغماً على خط التشابك السياسي في لبنان؟
إستطاع القطاع المصرفي اللبناني وعلى رأسه مصرف لبنان التأقلم مع القرارات الأميركية و الدولية المتكررة في السنوات القليلة الماضية. لقد أقرّ مجلس النواب في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت ثلاثة قوانين أصدرها مصرف لبنان تتعلق بتبيض الأموال ومحاربة الإرهاب، والتهرب الضريبي، إضافةً إلى نقل الأموال عبر الحدود البرية، كما سبق أن إلتزم القطاع المصرفي بقانون الإمتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (فاتكا) المرتبط بالتصريح الضريبي للمواطنين الأميركيين خارج الولايات المتحدة. وهذه القوانين لم تُفرَض على لبنان فحسب بل على دول العالم أجمع، ولكن مفاعيلها إختلفت بين دولةٍ وأخرى.
لقد أثارت تلك القوانين تساؤلات مالية و إقتصادية مهمة خصوصاً في تلك الدول التي تعمل بالسرية المصرفية في العالم كسويسرا ولوكسمبورغ وسنغافورة ولبنان. بموازاة ذلك، ولكي يزيد المشهد تعقيداً، أتت قضية تسريبات أوراق بنما، ولاسيما الضجة الدولية العارمة التي تبعتها للقضاء على الجنات الضريبية والملاذات الأمنة، لتزيد التساؤلات حول قدرة هذه الدول على الجمع بين الشفافية كمطلب دولي والسرية المصرفية.
رضخت الدول الرائدة في السرية المصرفية للتوجه الدولي، فسويسرا مثلاً التي اقرت السرية المصرفية في العام ٢٠٢٤ قررت التخلي عنها مع نهاية العام ٢٠١٨، و أعرب رواد القطاع المصرفي فيها عن إستحالة ألإستمرار بها في ظل التغيرات الحاصلة والمطالب الدولية الحاسمة. ومن جهته، لم يُعلّق لبنان بشكلٍ رسمي على موقفه من السرية المصرفية التي يعمل بها وقرر كما يبدو الإلتزام بالقرارات الدولية من دون ربطها بالسرية المصرفية. أما إجابات المصرف المركزي وجمعية المصارف اللبنانية حول تداعيات هذه القرارات على السرية المصرفية فقد بقيت غامضة مع الميل حول الإبقاء عليها. وكانت السرية المصرفية في لبنان أُقرّت في العام ١٩٥٦ بعد ضغوطات كبيرة من أصحاب النفوذ الإقتصادي حينها كرجل الأعمال والمصرفي اللبناني – الفلسطيني يوسف بيدس مؤسس ومالك بنك “إنترا”.
تتجاوز السرية المصرفية في لبنان السرية المهنية المقبولة دولياً لتشمل سرية المعلومات المصرفية وحجبها حتى عن السلطات ولا سيما وزارة المال، وهي لا تُرفَع عن أي حساب إلا بإيعاز من هيئة تحقيق خاصة. وقد ساهمت السرية المصرفية في نمو القطاع المصرفي وودائعه من كل حدب و صوب، حيث دعمه الإغتراب اللبناني الذي يفوق عدد سكان لبنان، و”البترودولار” المتدفق من دول الخليج العربية. ومن دون شك إن السرية المصرفية تلعب دوراً إيجابياً في نمو الودائع في أوقات الأزمات والفورات الإقتصادية على حد سواء. في خضم الحرب الأهلية اللبنانية وبينما كان القتل في الشوارع كانت ودائع القطاع المصرفي تنمو في ما عدا خلال حقبة ثمانينات القرن الفائت. ومع إعادة الإعمار وعودة الإستقرار السياسي والأمني في لبنان ساهمت السرية المصرفية في ضخ مبالغ هائلة إلى القطاع المصرفي. وأخيراً فيما كانت الأزمة المالية تعصف بالعالم، تكلم الإعلام الغربي عن معجزة لبنان المالية التي، و بفضل السرية المصرفية، جعلت لبنان يستفيد من الأزمة ويجذب تحويلات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلد.
لقد تغيّر مشهد العالم اليوم، و بات لبنان في عين العاصفة. فالأزمة اليوم تستهدف، ولو بشكلٍ غير مباشر، السرية المصرفية. وتحليل أولي للتأثيرات يشير إلى قدرة القطاع المصرفي على التأقلم مع الأجواء الجديدة. فعلى الرغم من التوجه الدولي تراجعت التحويلات بشكلٍ طفيف من ٧٫٢ مليارات دولار في العام ٢٠١٤ إلى ٧٫١ مليارات دولار في العام ٢٠١٥، كما تُظهر التحويلات لأول شهرين من العام الحالي تراجعاً طفيفاً قد يكون بسبب بداية تأثير تراجع أسعار النفط في التحويلات من دول الخليج. ويتعيّن الإشارة هنا إلى صعوبة تقييم تأثير السرية المصرفية على جذب التحويلات بسبب غياب أي دراسة علمية من هذا النوع أو أي تصريح رسمي في هذا الإطار، لذا تبقى التحليلات في إطار التكهنات و السيناريوهات. و لكن لا يمكن التغاضي أيضاً عن الضغوطات الأوروبية ولا سيما من قبل منظمة الحماية والأمن التي طالبت لبنان بتسليم بياناته المصرفية واصفةً إياه بنموذج يكاد يكون جنة مالية وملجأً للأموال التائهة والهاربة.
كان للقرار الأخير الذي يستهدف “حزب الله” تأثير خاص في لبنان على الرغم من أنه فرض على كل دول العالم، ذلك بأنه يجعل القطاع المصرفي اللبناني في قلب الصراع الدائر في المنطقة رغم جميع محاولته و نجاحه في عزل نفسه عن الصراعات السياسية الداخلية والدولية على كثرتها. لقد وضع القرار الأخير القطاع المصرفي اللبناني في وضع محرج إستطاع في بادىء الأمر إمتصاصه. وما لبثت أن برزت التساؤلات كثيرة حول مصير حسابات شريحة كبيرة من اللبنانين ولا سيما نواب “حزب الله”، وليس فقط تلك الأسماء التي وردت على اللائحة التي اصدرتها وزارة الخزانة الأميركية. لكن سرعان ما إستطاع مصرف لبنان بحكمته المعهودة إلى إصدار المراسيم التطبيقية فخفف من وطأة القرار عبر حصر قرار إغلاق أو رفض فتح الحسابات بإجبار المصارف اللبنانية بالمرور به وأخذ موافقة على أي قرار من هذا النوع. بانت الأمور و كأن هناك تنسيقاً ضمنياً وعبر قنوات مع “حزب الله” لهندسة تطبيق القرار خصوصاً أن بعض المعلومات اشار إلى سحب أموال جمعيات وهيئات من القطاع المصرفي بشكلٍ منسق لوضع حد للبلبلة. و في هذه الأجواء، كانت تصريحات كتلة الوفاء للمقاومة حول تعامل مصرف لبنان مع القرار مفاجئة، و لعله قد يشير إلى أن التكهنات حول التنسيق الضمني مع المصرف المركزي غير صحيحة أو أن شيئاً ما حصل خارج إطار هذه التفاهمات.
و مهما تكن أسباب رد فعل الكتلة، إلا أن ذلك يجعل مصرف لبنان ولأول مرة على خط الإشتباك السياسي في لبنان، و يضع القطاع المصرفي أمام تحديات كبيرة والوضع المالي في لبنان أمام منعطف ربما الأخطر منذ تسعينات القرن الفائت، وذلك إن لم تتم معالجة الخلاف خلف الكواليس وبعيداً من الإعلام. إن معالجة مسائل بهذه الحساسية يستدعي الأخذ بعين الإعتبار معطيات إقتصادية دولية تشير إلى إستحالة عمل أي قطاع مصرفي في العالم خارج الإملاءت الأميركية بسبب سيطرتها على سلاح الدولار وجميع شركات التحويل والتصنيف والمصارف المراسلة في العالم.
• خبير إقتصادي، أستاذ الإقتصاد في كلية إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية