الطاقة تحوّل التحالفات السياسية في منطقة شرق المتوسط
يبدو أن منطقة شرق المتوسط تتغير بسرعة مع وجود ما يقدر ب122 تريليون قدم مكعبة من إحتياطات الغاز الطبيعي (أي ما يعادل 21 مليار برميل من النفط) في بحرها، والذي صار له تأثير فعلي في أنماط الصداقة والعداوة الإقليمية. مع تحوّل وإستعداد كلٍّ من إسرائيل وقبرص لكي تصبح قريباً من الدول المصدرة للغاز، فإن العلاقات الإسرائيلية – اللبنانية المقطوعة والقبرصية – التركية المتوترة قد دخلت في إشكالية أخرى. وفي الوقت عينه، فإن التعاون في مجال الطاقة كان القوة الدافعة وراء الشراكة اليونانية القبرصية الإسرائيلية الوليدة، والذي تجلّى في زيادة التعاون السريع في المجالين الدفاعي والإقتصادي. ومن الواضح أن تنمية موارد الطاقة ونقلها لهما آثار جيوسياسية بعيدة المدى بالنسبة إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وشعوبها.
لندن – هاني مكارم
الغاز الطبيعي هو المصدر الأسرع نمواً في مجال الطاقة في العالم، وهو يمثل حالياً 22 في المئة من إجمالي الإستهلاك العالمي للطاقة. وهو يتمتع بأسعار معقولة وأكثر ملاءمة للبيئة من الخيارات الأخرى الممكنة تجارياً، مما أدّى إلى زيادة الطلب حتى في عصر من إنخفاض أسعار النفط. ويبدو من المرجح أن يتم الوفاء بهذا الطلب في جزء كبير من إحتياطات الغاز المُكتَشفة حديثاً في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ومن الظاهر أخيراً أن إسرائيل ستكون لديها القدرة لكي تصبح دولة منتجة مهمة إقليمياً. وقد أكد حقلها “تمار” بأن لديه إحتياطات تقدر ب9.7 تريليونات قدم مكعبة، في حين لدى حقل غاز “الطاغوت” أو “ليفياثان” القدرة على إنتاج ما يصل إلى 16 تريليون قدم مكعبة، كما قالت مجموعة تنقيب إسرائيلية تقودها “إسرامكو النقب” و”مودين للطاقة” أخيراً أن تقريراً للموارد أظهر أن هناك نحو 8.9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز قبالة الساحل الإسرائيلي. وفي الوقت عينه، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، أعلنت شركة “نوبل إينرجي” الأميركية عن إكتشاف كبير للغاز جنوب قبرص: حقل أفروديت الذي قدرت إحتياطاته ب7 تريليونات قدم مكعبة، وفي شباط (فبراير) 2013، أظهر مسح زلزالي جنوب جزيرة كريت أن موارد هيدروكربونية غنية قد يمكن العثور عليها قريباً في المياه اليونانية. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت شركة “إيني” الإيطالية عن إكتشاف حقل غاز ضخم قبالة سواحل مصر.
بسبب القرب الجغرافي، فإن هذه الموارد الهيدروكربونية في شرق البحر المتوسط تهدف أولاً وقبل كل شيء إلى جذب إهتمام الإتحاد الأوروبي — ثالث أكبر مستهلك للطاقة في العالم بعد الصين والولايات المتحدة. في حين أن النفط لا يزال هو الوقود المهيمن، ممثلاً 33.8 في المئة من إجمالي إستهلاك الطاقة في الإتحاد الأوروبي، فإن الغاز الطبيعي يأتي في المرتبة الثانية بنسبة 23.4 في المئة. ولدى إحتياطات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط ثلاث مزايا واضحة بالنسبة إلى الحكومات (والشركات) الأوروبية وهي بالتالي يُنظَر إليها كأولوية إستراتيجية. أولاً، بسبب صغر حجمهما وقلة عدد سكانهما، فإن إحتياجات إسرائيل وقبرص من الطاقة منخفضة نسبياً ومعظم غازهما يمكن تصديره. ثانياً، إن غاز شرق المتوسط، يمكن أن يغطّي جزئياً إحتياجات الطاقة في أوروبا، وبالتالي يقلّل من إعتمادها على روسيا المتقلّبة بشكل متزايد. وأخيراً، لأن كلاً من إسرائيل وقبرص تفتقر إلى رأس المال وتكنولوجيا الحفر البحري لتطوير إحتياطات الغاز لديهما، فقد حددت شركات طاقة أجنبية الوضع بأنه يمثل فرصاً إستثمارية يمكن أن تولّد عوائد مالية كبيرة.
فيما الشرق الأوسط ينفجر وينهار، فقد أصبح أمن إمدادات الطاقة هدفاً سياسياً مهماً للإتحاد الأوروبي. في الواقع، هناك توافق في الآراء بين الحكومات الأوروبية أن هناك حاجة إلى مبادرات جديدة لمواجهة تحديات الطاقة. وبالفعل يشارك الإتحاد الأوروبي مباشرة إلى حد ما في شؤون الطاقة في شرق المتوسط من طريق اليونان وقبرص، وهما من الدول الأعضاء، في حين أن تركيا مرشحة للعضوية ولها إتحاد جمركي مع الإتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن حكومات الإتحاد الأوروبي وإسرائيل في كثير من الأحيان على خلاف سياسياً، فإن العلاقات الاقتصادية بين تل أبيب وبروكسل وثيقة ومتعددة الأوجه.
إن تطوير حقول الغاز الإسرائيلية والقبرصية يمكن أن تساعد على تعزيز أمن الطاقة في أوروبا. حالياً، تستورد الدول الأوروبية الغاز الطبيعي المُسال من دول غير مستقرة سياسياً مثل نيجيريا والجزائر. ولكن يمكن لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أن تكون بمثابة “الممر” الثالث للغاز إلى أوروبا، إلى جانب الغاز الروسي وخطوط أنابيب جنوب شرق أوروبا التي تنقل الغاز الأذربيجاني. وقد أظهرت بوضوح كل من الشركة الايطالية “إيني”، وشركة “بريتيش بروميار أويل” (British Premier Oil)، و”داتش أورانج – ناسو إينرجي”، إهتماماً في تقديم العطاءات في الجولة الثانية من التراخيص للتنقيب عن الغاز الطبيعي في المنطقة الإقتصادية الخالصة القبرصية.
ونظراً إلى أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة إلى سياسة الطاقة الأميركية، فإنه ليس من المستغرب أن يلفت الغاز في إسرائيل وقبرص إنتباه واشنطن أيضاً. على الرغم من أن الولايات المتحدة من المرجح أن تصبح أكبر منتج للغاز في العالم نتيجة لزيادة إستخدام الغاز الصخري، فإن الإدارة الأميركية تنظر إلى غاز شرق المتوسط كمصدر بديل لحلفائها الأوروبيين الذين يعتمدون بشكل كبير على الإمدادات الروسية. وفي القطاع الخاص، فإن الشركة الأميركية، “نوبل إينرجي”، قد لعبت دوراً رائداً في عملية الإستكشاف؛ وهي تملك حصة 40 في المئة في حقل “الطاغوت”، وعلى حصة 36 في المئة في “تمار” الإسرائيليين، وحصة 70 في المئة في حقل “أفروديت” الإسرائيلي – القبرصي المشترك.
ليس من المستغرب أن هذه الإكتشافات قد جذبت مصلحة موسكو أيضاً نظراً إلى التأثير السلبي المحتمل في صادراتها من الغاز إلى الأسواق الأوروبية. إن شركات الطاقة الروسية، التي غالباً ما تكون بمثابة الذراع الطويلة للكرملين، تنشط بشكل خاص في المنطقة. في شباط (فبراير) 2013، على سبيل المثال، وقّعت شركة “غازبروم” الروسية العملاقة إتفاقاً مدته 20 عاماً مع الشركة الإسرائيلية ” بلاد الشام لتسويق الغاز الطبيعي المسال” (Levant LNG Marketing Corporation) لشراء الغاز الطبيعي المُسال حصراً من حقل “تمار”. ثم في كانون الأول (ديسمبر) 2013، وقعت الشركة الروسية “سويوز نيفتي غاز” (Soyuz Nefte Gas) إتفاقاً مع نظام الأسد لإستكشاف جزء من المنطقة الإقتصادية الخالصة لسوريا. بعد شهر واحد على ذلك، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إتفاقاً للإستثمار مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لتطوير حقول الغاز قبالة قطاع غزة.
إرتفاع حرارة العلاقات الإسرائيلية – اليونانية
إن إعتبارات الطاقة لديها تاريخ طويل من التأثير في مسار العلاقات بين الدول، وإكتشافات الغاز الجديدة ليست إستثناء، إذ أنها أثرت في علاقات إسرائيل مع كلٍّ من اليونان وقبرص.
كانت العلاقات اليونانية – الإسرائيلية فاترة منذ عقود. والحكومات اليونانية ما بعد الحرب العالمية الثانية إتبعت عادة سياسة خارجية مؤيدة للعرب من أجل حماية الجالية اليونانية الكبيرة في مصر، وتأمين الدعم العربي بشأن النزاع حول قبرص في الأمم المتحدة، والحفاظ على الوصول إلى النفط العربي الرخيص. في حين كان هناك إعتراف يوناني فعلي بالدولة العبرية في العام 1949، فإن الإعتراف القانوني كان عليه الإنتظار حتى العام 1990 ووصول حكومة يمينية برئاسة قسطنطين ميتسوتاكيس. لكن تشكيل شراكة إستراتيجية بين تركيا وإسرائيل في منتصف تسعينات القرن الفائت أثار ردة فعل قوية في أثينا حيث أعادتها إلى سياستها المؤيدة للعرب.
هذه السياسة، أيضاً، قد تغيرت مع صعود رجب طيب أردوغان وحزب التنمية والعدالة الإسلامية في تركيا منذ أوائل العقد الفائت. مع إنزعاج أثينا من تأكيد قوة أنقرة الإقليمية المتنامية، وقلق تل أبيب من نهج النظام التركي الجديد المعادي لإسرائيل بشدة، فقد تحسنت العلاقات اليونانية – الإسرائيلية بسرعة حيث وقّع البلدان سلسلة من الإتفاقات في مجالات الأمن والطاقة والتجارة والسياحة، وتبادلا الزيارات الرسمية على المستوى الوزاري، والرئاسي، ورئاسة الوزراء. وفي آذار (مارس) 2012، جرت مناورات بحرية وجوية دُعيت “نوبل دينا” في بحر إيجه، شاركت فيها الولايات المتحدة والقوات اليونانية والإسرائيلية، كما أنه بعد شهر لاحق، جرت مناورات جوية مشتركة يونانية إسرائيلية في وسط اليونان. وفي الآونة الأخيرة، قال وزير الدفاع بانوس كامينوس أن “التخطيط الدفاعي اليوناني ينبغي أن يأخذ في الإعتبار الأصدقاء والحلفاء الذين يسعون إلى التعاون الدفاعي في المنطقة. وأعني بوضوح شرقاً إسرائيل”.
كانت سياسة الدولة العبرية الجديدة مع أثينا بمنأى عن التغيير المتكرر للحكومات اليونانية في السنوات الأخيرة. آخر ثلاثة رؤساء حكومة قبل الحالي — جورج باباندريو (2009-2011)، لوكاس باباديموس (2011-2012)، وأنطونيس ساماراس (2012-2015) – كلهم إجتمعوا مع مسؤولين إسرائيليين وأبرموا إتفاقات عدة، على الرغم من الخلافات السياسية والإيديولوجية بينهم: باباندريو كان معتدلاً ينتمي إلى اليسار الوسط السياسي. ومن المعروف أن باباديموس كان تكنوقراطياً ليبرالياً، وساماراس، كان سياسياً يمينياً محافظاً.
في أعقاب الأزمة الإقتصادية التي عانت منها السياسة اليونانية المحلية، وتدابير التقشف التي سعى أن يفرضها الإتحاد الأوروبي على أثينا، ذهب اليونانيون إلى صناديق الإقتراع في كانون الثاني (يناير) 2015 التي نتج منها وصول تحالف اليسار الراديكالي (المعروف بسيريزا) إلى السلطة، في تحالف مع الحزب اليميني الصغير “اليونانيون المستقلون”. وقد تسبب هذا الأمر بإطلاق إنذار كبير في تل أبيب إذ أن العديد من كبار المسؤولين في “سيريزا” يتعاطف ويؤيد الفلسطينيين بقوة: عضوة البرلمان الأوروبي صوفيا ساكورافا هي صديقة لحركة “حماس”، في حين شارك رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس في مسيرات مؤيدة للفلسطينيين. في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2015، أقر البرلمان اليوناني قراراً غير ملزم يوصي بالإعتراف ب”فلسطين” كدولة.
ومع ذلك، فإن الحكومة التي يقودها “سيريزا” لم تنأى بنفسها عن تل أبيب. لقد حدد وزير الخارجية نيكوس كوتزياس تركيا كمصدر للتهديد، في حين يحمل وزير الدفاع كامينوس، زعيم “اليونانيين المستقلين”، وجهة نظر قوية موالية للولايات المتحدة ومؤيدة لإسرائيل. وفي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، زار تسيبراس إسرائيل، ومرة أخرى في 27 كانون الثاني ( يناير) 2016 إلى جانب ستة أعضاء من مجلس وزرائه حيث عقدوا إجتماعا مشتركاً مع الحكومة الإسرائيلية. وهكذا يبدو من المرجح أن الشراكة اليونانية – الإسرائيلية ستستمر.
بعيداً من المخاوف الشائعة حول نوايا تركيا، فإن أثينا وتل أبيب تجمعهما مصالح كبيرة بالنسبة إلى الطاقة. يريد البلدان تنفيذ إتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار للعام 1982 لتسهيل إستكشاف وإستغلال قاع البحر. وكلٌّ منهما يرى أن شرق البحر الأبيض المتوسط يمكن تطويره من جانب واحد من خلال تقسيمه إلى مناطق إقتصادية خالصة بطول 200 ميل بحري. في المقابل، لم توقع أنقرة إتفاقية قانون البحار وفضلت إجراء تسوية في منطقة بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط التي من شأنها أن تأخذ في الإعتبار المصالح التركية في حساب أكبر.
علاوة على ذلك، فإن موقع اليونان يجعلها جسراً طبيعياً بين منطقة شرق المتوسط الغنية بالنفط، بما في ذلك الحقول الإسرائيلية، وأوروبا المستهلكة للطاقة، وترى اليونان نفسها كمركز محوري لنقل غاز شرق المتوسط إلى الأسواق الأوروبية. في آذار (مارس) 2014، أعلنت أثينا مناقصة دولية لدراسة جدوى بناء خط أنابيب شرق المتوسط لنقل الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا عبر جزيرة كريت والبر الرئيسى. في حين أن خط الانابيب المُقترح سيكون مُكلفاً نوعاً ما، ويمر عبر مياه متنازع عليها، فإن تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا أعطى زخماً جديداً للمشروع فيما يبحث الإتحاد الأوروبي عن مصادر بديلة من الغاز الطبيعي. وقد أدرجت المفوضية الأوروبية خط الانابيب المُقترح في قائمة “المشاريع ذات المصالح المشتركة” التي يمكن أن تتلقى الدعم المالي.
إذا قررت تل أبيب ونيقوسيا إختيار تسييل مواردها من الغاز، عندها يمكن لبواخر الشحن اليونانية أيضاً أن تلعب دوراً مهماً لنقل الغاز السائل إلى السوق الدولية. وخلال زيارته لإسرائيل في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، قال تسيبراس: “واحدة من القضايا الرئيسية في مناقشاتنا اليوم كانت الفرص الناشئة في مجالات الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط … نحن ندرس سبل التعاون في مجال البحوث، والحفر، ونقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا”.
بينما لم تكن الطاقة العامل الوحيد الذي يُسهم في تحسين العلاقات الثنائية، فقد لعبت بالتأكيد دوراً حاسماً في تقريب المصالح اليونانية والإسرائيلية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
تل أبيب ونيقوسيا
وقد أعطت تنمية وإستغلال موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط أيضاً دفعة قوية للعلاقات الإسرائيلية – القبرصية. وعلى الرغم من القرب الجغرافي، فإن البلدين الى حد كبير تجاهل أحدهما الآخر لسنوات. بالنسبة إلى معظم الإسرائيليين، فإن قبرص هي إما الموقع حيث تم إعتقال الناجين من المحرقة (الهولوكوست) قسراً من قبل البريطانيين (1946-1949) فيما كانوا يسعون إلى اللجوء إلى فلسطين المُنتَدَبة، أو أقرب مكان للذين واللواتي يودون الزواج مدنياً وغير قادرين أو غير راغبين في عقد زواج ديني في إسرائيل.
من جانبها، إتّخذت نيقوسيا تقليدياً خطاً مؤيداً للعرب في إعداداتها الديبلوماسية التي لا تختلف كثيراً عن جارتها أثينا. ومثلما هو الحال مع اليونان، كان للبرودة التي سببها حزب العدالة والتنمية في العلاقات التركية -الإسرائيلية تأثير حار في العلاقات القبرصية – الإسرائيلية حيث أعاد الدفء إليها. في آذار (مارس) 2011، إستضاف الرئيس الإسرائيلي حينها شمعون بيريز نظيره القبرصي ديميتريس كريستوفياس، والذي بدوره إستضاف بيريز في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه. ورأى كلٌّ من الجانبين أحدهما كقوة توازن محتملة لوجود تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد وقع وزير الدفاع القبرصي ديميتريس إيليادس إتفاقاً بشأن “حماية ألمعلومات السرية المتبادلة” في كانون الثاني (يناير) 2012 مع نظيره الإسرائيلي إيهود باراك، وبعد شهر على ذلك، قام بنيامين نتنياهو بزيارة إلى نيقوسيا، كانت الأولى من نوعها لرئيس وزراء إسرائيلي، لمناقشة التعاون في مجالات الطاقة والدفاع. ووفقاً لتقارير صحافية، فإن سلاح البحرية القبرصي يخطط لشراء سفينتين للدوريات البحرية تتمتعان بالتكنولوجيا الفائقة ومصنّعتان في إسرائيل من أجل حراسة المنطقة الإقتصادية الخالصة.
إن أَبعاد الطاقة في العلاقة الإسرائيلية – القبرصية الوليدة قوية بشكل خاص. فقد أعلنت نيقوسيا خططاً لبناء مصنع للغاز الطبيعي المسال في منطقتها الصناعية “فاسيليكوس” لمعالجة الغاز. ولما كانت إكتشافات الغاز الحالية ليست كبيرة بما يكفي لجعل هذا المشروع الذي يكلف مليارات الدولارات قابلاً للحياة إقتصادياً، فقد إقترحت نيقوسيا على تل أبيب أن يجمع البلدان إحتياطات الغاز معاً لتشكيل وحدة إنتاج واحدة. في العام 2013، أعلن وزير الطاقة القبرصي يورغوس لاكوتريبيس: “إننا نشعر أنه من خلال التعاون الوثيق مع إسرائيل، سوف نكون قادرين على أن نكون لاعباً رئيسياً في سوق الطاقة العالمية، وهو أمر قد يكون من الصعب جداً على كل بلد تحقيقه وحيداً بمفرده”.
إن مستقبل الشراكة الإسرائيلية – القبرصية يعتمد أيضاً على طريق تصدير الغاز الإسرائيلي. لقد درست تل أبيب عدداً من الخيارات للإستغلال الأمثل لحقول الغاز، ولكنها يبدو أنها تفضل تصدير الغاز إلى الغرب من أجل تحسين علاقاتها مع الدول الأوروبية. من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن التعاون في مجال الطاقة مع اليونان وقبرص يمكن أن يبني شبكة جديدة من التحالفات مع الإتحاد الأوروبي من شأنها أن تساعد تل أبيب على الخروج من عزلتها الجيوسياسية المتزايدة. حتى أن حكومة نتنياهو مارست الضغط نيابة عن أثينا في أوروبا والولايات المتحدة من أجل خطة إنتعاش الإقتصاد اليوناني. في أواخر آذار (مارس) 2012، خلال مؤتمر عن الطاقة في أثينا، تحدث وزير الطاقة الإسرائيلي في حينه عوزي لانداو عن “محور اليونان وقبرص وإسرائيل وربما المزيد من البلدان، الذي سيوفر عامل إستقرار”. وفي آب (أغسطس) 2013، وقعت الدول الثلاث إتفاقاً لتثبيت كابلات كهربائية بقدرة 2000 ميغاواط تحت الماء لربط شبكات الطاقة لديها – وهو أول مشروع من نوعه لربط أوروبا وآسيا.
في الآونة الأخيرة، في كانون الأول (ديسمبر) 2015، تم عقد سلسلة من المشاورات الثلاثية في إسرائيل والتي تم خلالها مناقشة مجموعة من القضايا كان على رأسها تطوير الطاقة. وإتفق الأطراف على مواصلة تعزيز المشاورات الثلاثية واللقاء على أساس منتظم، بدءاً بإجتماع رؤساء دولهم في نيقوسيا في 28 كانون الثاني (يناير) 2016.
لبنان وقبرص وإسرائيل
في حين أن الإيرادات من بيع النفط والغاز يمكن أن تجلب الثروة والرخاء للمجتمعات، فإن لديها أيضاً القدرة على زعزعة توازنات القوى الإقليمية. في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تخوض بعض دوله في نزاعات على الأراضي منذ عقود، يبدو أن إكتشافات الغاز من المرجح أن تزيد المخاطر. إن الملكية المتنازع عليها لموارد الغاز، في الواقع، قد زعزعت فعلياً إستقرار العلاقات المقطوعة أصلاً بين لبنان وإسرائيل وكذلك المتوترة بين تركيا وقبرص.
على الرغم من أنه تم التوقيع على إتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وقبرص في كانون الثاني (يناير) 2007، فقد رفض البرلمان اللبناني التصديق عليه حتى الآن، وأعلن “حزب الله” بأن “الإتفاق لاغٍ وباطل لأن الجانب اللبناني الذي وقّع عليه قد أُلغيت وكالته الرسمية … البحر، مثل الأرض، هو مئة في المئة حق لبناني شرعي، وسوف ندافع عنه بكل ما أوتينا من قوة”.
عندما وقعت نيقوسيا مع تل أبيب إتفاقاً لترسيم حدودهما البحرية في كانون الأول (ديسمبر) 2010، إتهمت بيروت الدولتين بإنتهاك حقوقها البحرية. وفي العام التالي، في خطاب متلفز بمناسبة الذكرى الخامسة لحرب “حزب الله” مع إسرائيل في 2006، هدد الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، إسرائيل بضربة ضد البنية التحتية للطاقة لديها: “نحذر إسرائيل من أن تمد يدها إلى هذه المنطقة وسرقة موارد لبنان من المياه اللبنانية … كل من يضر بمنشآتنا النفطية المستقبلية في المياه الإقليمية اللبنانية، فسوف نستهدف منشآته الخاصة”.
هذه ليست تهديدات جوفاء. لدى “حزب الله” القدرة العسكرية لمهاجمة منصات الغاز البحرية الإسرائيلية إذا إختار أن يفعل ذلك. لقد كشفت حرب العام 2006 أن ترسانته الهائلة من الصواريخ والقذائف تشمل صواريخ صينية الصنع “C-802” المضادة للسفن (مداها 75 ميلاً)، وصواريخ زلزال 2 (مداها 125-250 ميلاً). من جانبها، تملك البحرية الإسرائيلية سفينتين حربيتين، وزن الواحدة 1200 طن، مهمتهما الدوريات، جنباً إلى جنب مع طائرات من دون طيار إضافية، وزوارق حربية يمكن التحكم بها من بعد، وصواريخ. وعلى هذا النحو، تستعد وتسعى تل أبيب إلى ردع الغارات المحتملة من لبنان. وهكذا فإن حماية وإستغلال إحتياطات الغاز يُعتبران من قبل القيادة الإسرائيلية مسألة تتعلق بالأمن القومي.
تركيا وقبرص وإسرائيل
العلاقة بين تركيا وقبرص هي مثال آخر لصراع طويل الأمد مع إحتمالات قليلة لحل وشيك، وصعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة لم يؤدِّ سوى إلى تفاقم الوضع.
في نظرة لجنون العظمة المتزايدة لدى أردوغان، فإن الإنتعاش الإقتصادي والديبلوماسي لقبرص نتيجة لتطوير الغاز يشكل خطراً واضحاً وقائماً على الأمن القومي التركي. في أيلول (سبتمبر) 2011، وقّعت أنقرة إتفاقية ترسيم الجرف القاري مع “جمهورية شمال قبرص التركية”، وبعد فترة وجيزة، بدأت شركة النفط الوطنية التركية (تباو) أول حفر بالقرب من المدينة القبرصية (التركية) فاماغوستا.
في حين دعت أنقرة شركات أجنبية لإستكشاف ساحلها على البحر الأبيض المتوسط والبحث عن موارد الطاقة، فإن شركة رويال داتش / شل فقط أعلنت إهتمامها. في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2014، دخلت سفينة أبحاث تركية في المنطقة الإقتصادية الخالصة القبرصية لجمع البيانات السيزمية (الزلزالية). إعتبرت نيقوسيا ذلك بأنه إنتهاك لحقوقها السيادية، لأنها كانت رخّصت بالفعل أجزاء من منطقتها الاقتصادية الخالصة لشركات طاقة أجنبية.
وقد أدّى عامل الطاقة أيضاً إلى تدويل “قضية قبرص”، مولّداً نقطة جديدة للاحتكاك بين أنقرة وتل أبيب. لم تتوقع الحكومة التركية التحسن السريع الذي حدث للعلاقات الإسرائيلية – القبرصية، وخافت من أن التعاون الثنائي الجديد لن يقتصر على قطاع الطاقة. وحتى قبل هذا التطور، كان أردوغان هدّد تل أبيب حول مبادراتها لإستكشاف الغاز، محذّراً من أنه في حين “بدأت إسرائيل تعلن أن لديها الحق في التصرف في المناطق الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط … سوف لن تكون صاحبة هذا الحق”. من جانبها لم تبقَ تل أبيب صامتة، فقد طلبت الإذن من قبرص لإستخدام طائراتها الحربية قاعدة بافوس الجوية. في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، أجرت الدولتان مناورات عسكرية “أونيسيلوس-جدعون” رقم 2 في الجزء الغربي من الجزيرة.
إن تدويل “قضية قبرص” إمتد إلى ما وراء وأبعد من المنطقة. فقد شاركت الشركات الصينية في مناقصات للمساهمة في مشاريع التنقيب عن الغاز وتسييل الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتتفاوض على إتفاق مع الحكومة القبرصية لشراء الغاز الطبيعي المسال بحلول العام 2020. ونتيجة لذلك، فقد تابعت بكين عن كثب مفاوضات السلام القبرصية.
محرّك لتسوية النزاعات؟
ساعد إزدهار الطاقة في شرق المتوسط على إعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية الباردة تقليدياً بين بعض الدول في حين فاقم العلاقات المتوترة أصلاً مع البعض الآخر. لذا هل يمكن أن تصبح الطاقة أيضاً محركاً لتعزيز التعاون الإقليمي؟
في حين أن السنوات القليلة الماضية شهدت قدراً كبيراً من عرض العضلات أو التهديد بإستخدام القوة العسكرية من أنقرة، فإن إحتمال وقوع مواجهة عسكرية بين قبرص وتركيا، وإسرائيل وتركيا، يبدو ضئيلاً. إن بناء وتشغيل البنية التحتية للطاقة (على سبيل المثال، خطوط الأنابيب والمصافي ومحطات الغاز الطبيعي) هما عمل مكلف يتطلب إستقراراً سياسياً، وقد لا ترغب أنقرة بتقويض دورها كدولة عبور للطاقة. في الواقع، فقد إختتم المسؤولون الإسرائيليون والأتراك أخيراً محادثات سرية حول المصالحة الثنائية التي تغطي، بين بنود أخرى، إنشاء خط أنابيب للغاز الطبيعي بين البلدين. وهذا من شأنه أن يسمح لتركيا الحد من إعتمادها على الطاقة من روسيا (العلاقات بين موسكو وأنقرة ساءت في أعقاب إسقاط طائرة مقاتلة روسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015)، وكذلك لفتح سوق جديدة لمشاريع الغاز الطبيعي الإسرائيلي قبالة سواحلها.
بالإضافة إلى ذلك، عرضت أنقرة بناء “خط أنابيب السلام” لنقل الغاز القبرصي الى الإسواق الاوروبية عبر الاراضي التركية. لم ترفض نيقوسيا هذه الخطة شريطة أن يكون هناك حل ل”قضية قبرص”، بما في ذلك إعادة توحيد الجزيرة وإنسحاب القوات التركية من القسم الشمالي من الجزيرة. وهذا يعزّز الحجة، التي تقدمت بها وزارة الخارجية الأميركية وغيرها، بأن أرباح الغاز يمكنها أن تسهم في توحيد الجزيرة فيما القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك سيكون لديهم حوافز إضافية كبيرة لقبول إتفاق السلام. وليس من قبيل المصادفة أن مقر ممثل التعاون الإقليمي في مجال الطاقة لمكتب موارد الطاقة في وزارة الخارجية الأميركية في السفارة الاميركية في نيقوسيا.
وتكمن جذور هذا التفاؤل في النظرة الليبرالية للعلاقات الدولية التي تفترض أن الفوائد الإقتصادية الناجمة من نقل الطاقة يمكن أن تساعد على حل النزاعات السياسية. مع ذلك، إذا كان التاريخ يقدّم أي دليل، فإن طفرة إقتصادية تشهد صادرات هيدروكربونية يمكنها فقط في كثير من الأحيان أن تؤدي إلى نزعة عرقية وقومية إقتصادية وحسن النيات والازدهار المشترك. إن إنتاج كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي في بحر الشمال، على سبيل المثال، قد عزز القومية الاسكتلندية، ويمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى إنفصال إسكتلندا عن المملكة المتحدة. وبالمثل، إن تعزيز إدارة كلينتون لمشروع “خط أنابيب السلام” لنقل النفط الاذربيجاني عبر المنطقة المتنازع عليها ناغورنو- كاراباخ وأرمينيا إلى السوق التركية قد فشل لأن أرمينيا لا ترغب في تقديم التنازلات الإقليمية اللازمة لأذربيجان. ثم مرة أخرى في العام 2004، طرح الزعيم الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي بناء خط أنابيب للنفط الروسي إلى جورجيا عبر الجمهورية الانفصالية إبخازيا لتسهيل التوصل إلى حل للنزاع بين جورجيا وأبخازيا، لكن الإقتراح رفض من قبل روسيا وأبخازيا. وكان مصير خط أنابيب الغاز المُقترح بين إيران وباكستان والهند مشابهاً في العام 2009 عندما أعلنت الحكومة الهندية عن قرارها بعدم المشاركة في المشروع لأسباب أمنية.
من الواضح، أن هذه الأنابيب لم تتحقق لأن الدول لم تكن راغبة في التنازل عن أراضٍ، أو لم تكن مرتاحة ومطمئنة بالنسبة إلى الدول المجاورة المعادية في مقابل مزايا إقتصادية مُحتملة. إن أولئك الذين تصوروا أن إحتمال وجود “خط أنابيب السلام” يؤثر بشكل إيجابي في المفاوضات الجارية بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك لصالح قرار يحل “قضية قبرص” قد يجدون أنفسهم أمام خيبة أمل جدية.
ما هو الإستنتاج من كل ذلك؟
إن إكتشافات الغاز الجديدة الكبيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط تحوّل بسرعة التوجهات الإقليمية. لقد إستطاعت مصالح الطاقة جلب إسرائيل أقرب من أي وقت مضى ديبلوماسياً إلى قبرص واليونان، وقد لعبت دوراً مهماً في ذوبان الجليد الظاهر في العلاقات الإسرائيلية – التركية. في الوقت عينه، فقد ولّدت الطاقة توترات جديدة بين الدول المنتجة والدول التي تشعر أنها مُستبعَدة من فرص التنمية الإقليمية للغاز الطبيعي. إن العلاقات بين تركيا وقبرص وكذلك بين اسرائيل ولبنان، السيئة في أحسن الأحوال، قد تعرضت لمزيد من التوتر.
مما لا شك فيه، بأن المصالح الأميركية والأوروبية سوف تستفيد بظهور شرق المتوسط كمنطقة مصدرة للغاز. ومع ذلك، فإن هذا الأمر لن يكون ممكناً إلّا إذا كان هناك حل لقضية الملكية التي يمكن أن تعجّل وتيرة إستثمارات القطاع الخاص في صناعة الغاز في المنطقة.
من دون إتفاق قانوني على مستوى المنطقة، قد لا تكون شركات الطاقة قادرة على تأمين التمويل اللازم لتطوير وتنفيذ مشاريع الغاز. إن واشنطن، التي تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع دول شرق البحر الأبيض المتوسط، يمكن أن تلعب دور الوسيط في إستضافة محادثات إقليمية متعددة الأطراف لنزع فتيل التوتر وتعزيز التفاهم المتبادل بين الدول في المنطقة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.