مشاريع الطاقة تُعبِّد الطريق لزيادة الهيمنة الإيرانية في العراق
بعدما حاولت طهران الهيمنة على العراق من طريق الميليشيات العسكرية الشيعية وتنصيب مؤيديها السياسيين في سدة السلطة، ها هي الآن تستغلّ النقص الحاصل في توليد الكهرباء في بلاد الرافدين وتدخلها عبر بناء محطات لتوليد الطاقة وبناء أنابيب غاز من إيران لتغذية هذه المحطات وإنشاء منطقة تجارة حرة لتصدير سلعها، وبالتالي زيادة نفوذها.
بغداد – محمد العمري
أنتجت عملية إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي الشيخ نمر النمر وتحطيم الإيرانيين اللاحق للسفارة السعودية في طهران طوفاناً من المقالات حول الأبعاد العسكرية والطائفية للصراع بين الجمهورية الإسلامية والمملكة العربية السعودية. حتى أن البعض ذهب إلى حد إعلان حرب باردة جديدة بين الدولتين. واحدة من السمات البارزة للحرب الباردة الأصلية، بطبيعة الحال، كانت النعمة الإقتصادية التي جاءت لكلا البلدين في شكل منافسة على المساعدات الخارجية من موسكو وواشنطن. هذا العنصر من الحرب الباردة عاد في شكل جديد، على الرغم من أن الرياض وطهران الجارتين هما الآن المستفيدتان.
أحد البلدان المجاورة الذي له أهمية خاصة بالنسبة إلى إيران هو العراق. لقد دعمت طهران مالياً مشاريع الطاقة العراقية – وبالتحديد بناء محطات لتوليد الكهرباء على نطاق واسع في المناطق الجنوبية ذات الغالبية الشيعية بإعتبارها وسيلة لسحب بغداد وجذبها إلى مدار طهران من طريق قطاع الكهرباء المتخلّف في بلاد الرافدين. ويُجمع أهل الخبرة على أن هذه الإستراتيجية ستجعل العراق أكثر عرضة للنفوذ الإيراني، في الوقت الذي ستسمح لطهران تجنب مشاحنات مُكلفة من خلال تدخل عسكري. في الواقع، إن بناء محطة للطاقة في هذا السياق يُنظَر إليه كعنصر إقتصادي لمشروع إيراني طويل الأجل لإنشاء مجال شيعي من التأثير الذي يمتد من العراق وسوريا إلى البحر المتوسط بإعتباره حصناً ضد القوة السنية الكبرى، المملكة العربية السعودية. إن تطوير هذه المحطات بواسطة شركات إيرانية خاصة له عواقب في المدى الطويل للعراق. وعلى العموم، فإن المشاريع هي علامة على أن الحرب الباردة في الشرق الأوسط ما زالت هناك ولم تذهب بعيداً إلى أي مكان آخر.
إنقطاع الأنوار
تضرّر قطاع الكهرباء الذي كان مزدهراً سابقاً في العراق بشكل كبير من الضربات الجوية للتحالف في حربي الخليج والعراق. من إنتاج 10,000 ميغاواط في أوائل العام 1990، إنخفضت القدرة الإنتاجية لهذا القطاع إلى 2500 ميغاواط بحلول العام 1991. ونتيجة لذلك، واجه العراق نقصاً وشللاً في مجال الكهرباء، على الرغم من الجهود المبذولة لإعادة بناء قطاع الطاقة؛ حتى خلال أسوأ سنوات التمرد السني 2005-2006، أعرب المواطنون عن عدم رضاهم من إفتقار البلاد لتكييف الهواء أكثر من إنعدام الأمن.
وعلى الرغم من أن مشكلة إمدادات الكهرباء في العراق وصلت إلى جميع أنحاء البلاد منذ سنوات، فهي في هذه الأيام، هي أكثر سوءاً بكثير في المناطق السنية. ووفقاً للتقرير السنوي الأخير لوزارة الكهرباء العراقية، فإن هناك ما يقرب من 66 محطة طاقة في جميع أنحاء البلاد (بإستثناء المناطق التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان)، وعلى الرغم من أن توليد الطاقة قد تحسّن منذ العام 1991، فإنه لا يزال يوفّر فقط ما يصل الى 7700 ميغاواط من الكهرباء.
ولكن في المساحات السنية الواسعة من البلاد التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”)، تم تعليق مشاريع الطاقة الجديدة. ولا يزال هناك ما يقرب من سبع محطات لتوليد الكهرباء في هذه المناطق، قادرة على توليد ما بين 1200 إلى 1700 ميغاواط من الكهرباء. وتتطلب ذروة الطلب في المنطقة بين 18,700 إلى 22,000 ميغاواط، الأمر الذي أسفر عن عجز بين 11,000 و14،000 ميغاواط من الطاقة التي تحتاجها المنطقة من أجل أن تصبح مستقرة.
في الوقت نفسه، شهدت المناطق التي تسيطر عليها حكومة إقليم كردستان إستثمارات أجنبية ضخمة، مما أدى إلى وصول الكهرباء تقريباً على مدى حوالي أربع وعشرين ساعة. وقد شجع الإستقرار النسبي في المناطق الكردية العراقية الحكومة المحلية على الإستثمار في البنية التحتية كجزء من مشروع بناء الدولة في إقليم كردستان الذي كان منطقة مضطربة.
في المناطق الشيعية، هناك ما يقرب من 45 محطة للطاقة التي تزوّد بين 6000 و6500 ميغاواط تحت إشراف الحكومة المركزية العراقية. للتأكيد، إن هذا الرقم لا يزال حوالي 13,500 ميغاواط أقل من الهدف والمطلوب لتلبية الإحتياجات، لذلك دخلت شركات إيرانية خاصة على الخط حيث بنت محطات جديدة للطاقة ووضعت خططاً إضافية لإنشاء منطقة للتجارة الحرة التي يمكن أن تكون بمثابة قناة للصادرات الإيرانية، وموقعاً للحصول على مشاريع الطاقة المتجددة المخطط لها، ومصانع الحديد.
كلما طال بقاء “داعش” في المناطق السنية، فإن العراق سوف يشهد تطويراً متفاوتاً في قطاع الطاقة الكهربائية. وهذا الأمر لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى بلد يعاني بالفعل من إنقسامات شديدة على أسس طائفية. في الواقع، إن القرارات التي تمّ إتخاذها الآن تَعِد فعلياً بمستقبل خطير. في حزيران (يونيو) الفائت، وقّعت شركة البناء الإيرانية الخاصة “مابنا” (MAPNA) على صفقة بقيمة 2.5 ملياري دولار (أكبر عقد إيراني في البلاد حتى الآن) لبناء منشأة تولّد 3000 ميغاواط في البصرة. وعندما تصير قيد الإستخدام في العام 2017، فسوف تزيد طاقة توليد الكهرباء العامة في البلاد بنسبة 20 في المئة. علماً أن طهران تقوم بالتمويل الكامل لبناء المشروع. وفي مؤشر على مزيد من الإعتماد على الجمهورية الإسلامية، فقد عقد العراق إتفاقاً لإستيراد الغاز الطبيعي الإيراني لتشغيل محطة البصرة. ويقول حميد رضا أراغي، المدير العام لشركة الغاز الوطنية الايرانية، إن صادرات الغاز الإيراني إلى البصرة سوف تتطلب إنشاء خط أنابيب تقدر تكلفته ب2.3 ملياري دولار.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها العراق جارته إيران للمساعدة على تلبية إحتياجاته من الطاقة. إن شركات الطاقة الإيرانية توفّر حالياً 1000 إلى 1400 ميغاواط من الكهرباء لمحافظة الواسط العراقية الشرقية. وقد شيَّدت شركة “مابنا” الإيرانية أيضاً محطات لتوليد الكهرباء في بغداد والنجف والمنصورية، مع توقّع تلقّي كل محطة الغاز الإيراني عبر خطوط الأنابيب التي ستقوم بإنشائها أيضاً الجمهورية الإسلامية. ليس من المستغرب أن هذه المشاريع الإنشائية تقتصر فقط على المناطق الشيعية، تاركةً المناطق السنية – في بعض الحالات – في الظلام.
حتى الآن، تفتقر الحكومة المركزية العراقية ببساطة الى القوة المادية لدحر “داعش” في المناطق التي يسيطر عليها، ناهيك عن متابعة مشاريع البناء داخل هذه المدن والبلدات. كما أن المناطق الكردية ترعى إحتياجاتها من الطاقة ذاتياً، مما يرسم مستقبل الطاقة في العراق على أسس طائفية. إذا لم تستطع بغداد إدارة بناء البنية التحتية في المناطق السنية، فإنها لن تفوز بالقلوب السنية، حتى لو إستعادت الأراضي من تنظيم “الدولة الإسلامية”. وهذا سوف يترك المنطقة مفتوحة إلى جاذبية المتشددين والجهاديين لفترة طويلة مقبلة.
إضافة إلى المشاكل في العراق، فإن المنافسة بين المملكة العربية السعودية وإيران في المنطقة تساعد على خلق فترة من عدم اليقين الشديد. فمن المنطق الإستراتيجي لطهران إدخال العنصر الإقتصادي في هذا الصراع الشامل ضد الرياض من خلال الإستثمار في المناطق التي يهيمن عليها الشيعة في العراق — تماماً كما دعمت المملكة العربية السعودية زيادة نفوذها في المنطقة، وفتحت الباب على مصراعيه على نفطها. في كل هذا، فمن المؤكد أنهما لا توليان إهتماماً كبيراً لإستقرار العراق أو المنطقة في المدى الطويل. إن بناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء بالتالي يمكن أن تكون نبأً ساراً لسكان جنوب العراق، لكنه لا يبشر بالخير بالنسبة إلى المستقبل عموماً. إن تعميق وتزايد النفوذ الايراني في البلاد والسياسة المتصلبة للحكومة المركزية العراقية قد عمّقت الإنقسامات الطائفية التي تضرب حالياً المنطقة. ما لم تعمل طهران وبغداد والرياض معاً على وضع خطة شاملة للقضاء على “داعش” في المنطقة، وجلب المناطق الكردية إلى الحظيرة، والتأكد من أن جميع الفئات تُعامَل وتتعامل على قدم المساواة، فإن الأمر سيكون أقل إحتمالاً من أي وقت مضى لتوحيد أجزاء العراق معاً مرة أخرى.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.