هل تُنقذ أوروبا الغاز الطبيعي الأميركي المُسال؟

بعد سنوات من الانتظار، صارت الولايات المتحدة مستعدة لبدء تصدير الغاز الطبيعي – ولكن إلى عالم مختلف جداً عمّا توقعت حيث الأسواق باتت مُتخمة والطلب صار ضعيفاً.

الصخر الزيتي الأميركي: هل يجد أسواقاً لغازه الطبيعي؟
الصخر الزيتي الأميركي: هل يجد أسواقاً لغازه الطبيعي؟

واشنطن – سمير الحلو

في منتصف الشهر الفائت باتت الولايات المتحدة قادرة على إرسال الغاز الطبيعي المُسال من إحتياطاتها من الصخر الزيتي لأي ميناء في جميع أنحاء العالم بعدما وافق مجلسا النواب والشيوخ في الكونغرس الأميركي على رفع الحظر عن تصدير النفط والغاز الأميركيين. ويمكن الآن لشحنات الغاز الطبيعي المسال الأولى أن تذهب من أميركا إلى أي مكان من كوينتيرو في تشيلي الى قوانغتشو في مقاطعة قوانغدونغ في الصين، أو كليهما. بعد كل شيء، إن لدى أميركا إمدادات ضخمة تؤهّلها لكي تصبح ثالث أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي المسال في العالم بعد أوستراليا وقطر. وهذا، بطبيعة الحال، إذا تمكن قطاع الغاز الطبيعي المُسال في الولايات المتحدة من إيجاد وسيلة ومكان لبيع منتجاته.
باعت الشركات الأميركية ما يقرب من 58 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال بموجب عقود طويلة الأجل من خمس منشآت قيد الإنشاء حالياً في ولاية لويزيانا، وميريلاند، وتكساس. هذه المرافق، يقترح الخبراء، سوف تكون قادرة على تزويد أسواق الغاز الطبيعي المسال في اوروبا وأميركا الجنوبية بشكل كاف. لكن إتفاقات الشراء المرنة، وتآكل الأسعار، وضعف الطلب على الغاز الطبيعي المسال يمكنها أن تجعل سوق الصخر الزيتي الأميركية أقل جاذبية مما كانت عليه قبل أشهر عدة.
بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة على وشك أن “تنفجر” نفطياً وغازياً في سوق مُتخمة تُحدِّدها المنافسة المتزايدة بين المُصدّرين. في الوقت عينه، الطلب الآسيوي ضعيف والطلب الأوروبي لم يتعافَ من مستويات ما قبل الركود. وعلاوة على ذلك، في كثير من البلدان، لا سيما في أوروبا، لا يزال الغاز الطبيعي ينافس للحصول على حصة في السوق مع الفحم الرخيص ومصادر الطاقة المتجددة العديمة الإنبعاثات، والتي تجعل الطلب على الغاز الطبيعي المسال في المستقبل – كما الأسواق المستقبلية – غير مؤكدة.

سوق رئيسية بتكلفة

فيما بدأت الولايات المتحدة تفكّر في بيع الغاز الطبيعي المُسال في الخارج، فإن آسيا كانت السوق الأساسية المُستهدَفة بسبب أسعارها الممتازة والطلب السريع النمو. كانت الفكرة أن الفرق بين الأسعار الأميركية وأسعار الغاز الآسيوية سيكون كبيراً بما يكفي لتغطية تكاليف شراء الغاز، وتحويله إلى شكله السائل، وشحنه، وإعادة تغويزه، وترك ما يكفي من المال في اليد لجني الأرباح. لكن الإقتصاديات لصادرات الغاز الطبيعي المُسال في أميركا الشمالية أصبحت أقل جاذبية مع إنخفاض أسعار الغاز الفوري في شمالي آسيا إلى حوالي 7.2 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في نهاية العام 2015، مقارنةً بحوالي 14 دولاراً لكل مليون وحدة في العام الماضي. وقد خلق التضييق الكبير في السعر الفوري الذي إنتشر بين الولايات المتحدة وآسيا شكوكاً إقتصادية لمُصدِّري الغاز الأميركيين، فيما أسواقهم السابقة تبحث الآن محلياً عن منتوج أرخص.
تُظهر كل أسواق الغاز في آسيا علامات ضعف مالية فيما نمو إقتصاداتها الوطنية يعرف بطءاً. اليابان، أكبر مستورد للغاز الطبيعي المُسال في العالم، شهدت إنخفاضاً بنسبة 4.7 في المئة في إستخدام الغاز الطبيعي المسال بسبب إقتصادها الضعيف، وإنتشار الطاقة المتجددة، وإعادة تشغيل برنامجها للطاقة النووية. كوريا الجنوبية، ثاني أكبر سوق للغاز الطبيعي المسال في العالم، شهدت إنخفاضاً بنسبة 7.4 في المئة في الطلب على الغاز الطبيعي المسال سنوياً على مدى العام الفائت، حيث أن إستخدام الغاز الطبيعي في البلاد أخذ يتراجع والطاقة القائمة على الفحم أخذت تعود تدريجاً. والصين، التي يُنظر إليها كسائق الطلب المستقبلي على الغاز الطبيعي المُسال، إستوردت أقل 3 في المئة من الغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من 2015 مما كان الأمر عليه في السنة السابقة وسط تباطؤ إقتصادي في البلاد.
في الوقت عينه لم تفعل سوق الغاز الطبيعي المُسال الأميركية شيئاً مميزاً لنفسها بتعزيزها سعر سلعها. إن منشآت الغاز الطبيعي المسال الأميركية تستخدم طريقة عمل “ثورية” حيث تسمح للمشترين بالتوقف عن أخذ المشتريات المُتفق عليها سابقاً إن أرادوا، والسماح لهم بإرسال الغاز الطبيعي المسال إلى أي مكان من دون وجهة محددة مُرفَقة — وهذا يعني أنه لا توجد سوق مُخَصَّصة مُحَدَّدة سلفاً لصادرات الولايات المتحدة. بموجب نماذج العقود التقليدية الطويلة الأجل، كان ينبغي على شحنات الغاز الطبيعي المسال الإنتقال من نقطة محددة سلفاً إلى واحدة أخرى معروفة، وكانت تُفرَض غرامة على المشترين الذين لا يتقيدون بالإتفاق الموقَّع. هذه المرونة المُكتَشَفة حديثاً قد تجعل الغاز الطبيعي المسال الأميركي جذاباً للمشترين، ولكنه يخلق أيضاً عدم قدرة على التنبؤ بالنسبة إلى الموردين والمصدرين والمتنبئين أو المتوقعين للسوق.
بسبب تراجع الطلب وعدم وجود القدرة التنافسية للواردات الأميركية في الأسواق الآسيوية، قد تكون أوروبا، بدلاً من آسيا، المفتاح لصعود الولايات المتحدة كقوة للغاز الطبيعي المسال. ذلك لأن لدى أوروبا أسباباً أخرى لإستيراد الغاز – بالتحديد، للحدّ من إعتمادها على الغاز الروسي، وليحل محل تراجع الإمدادات المحلية الخاصة، وبناء قضية قوية لإستخدام الغاز الطبيعي كوقود تحوّل نحو إقتصادات أوروبية صديقة للبيئة.
في الواقع، أصبحت أوروبا نوعاً من الملاذ الأخير للموردين العالميين. فيما سوق الغاز الطبيعي المسال في آسيا مكتفية في الوقت الراهن، فإنه يجري تفريغ شحنات الغاز الطبيعي المسال غير المرغوب فيها هناك في الأسواق الأوروبية. يبقى فارق السعر في العام 2016 بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي مواتياً لمورِّدي الغاز الطبيعي المسال، وال25 محطة المخصصة للغاز الطبيعي المسال العاملة في القارة العجوز تجعلها جذابة من حيث البنية التحتية للمصدرين. ربما الأهم من ذلك، أن قطاع الإستيراد للغاز الطبيعي المسال في أوروبا لديه مجال للنمو: لقد إستخدمت محطات إستيراد القارة 25 في المئة فقط من طاقتها في العام 2014. في الواقع، إستوردت أوروبا 52.1 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال في العام 2014، ولديها القدرة على إستيراد حوالي 200 مليار متر مكعب في المستقبل. في السياق عينه، يمكن لصادرات الولايات المتحدة أن تصل إلى 70 مليار متر مكعب بحلول العام 2020، وكانت الصادرات الروسية إلى الأسواق الأوروبية بلغت 150 مليار متر مكعب في العام 2014. إن إعتماد أوروبا على واردات الغاز الطبيعي ينمو بسرعة، وتحتاج إلى ما يقرب من 50 مليار متر مكعب من الغاز إضافية بعد العام 2020 ليحل محل إنخفاض الإنتاج المحلي. يمكن للقادة الأوروبيين الآن أن يقوموا بخيارات واعية لصالح الغاز الطبيعي المسال ليحل محل الغاز الروسي في المدى الطويل للإمدادات الجديدة من الطاقة. والولايات المتحدة، بفضل هياكل إتفاقاتها المرنة الخاصة بالغاز الطبيعي المسال، يمكن أن تكون المورِّد المثالي.
لدى أوروبا أيضاً فرصة تاريخية لإستخدام الغاز الطبيعي كوقود إنتقالي فيما هي تتحوّل إلى تكنولوجيا أكثر خضرة. كما أن الغاز الأميركي الطبيعي المسال يمكنه تنشيط الإستثمارات في إقتصاد الغاز الطبيعي في أوروبا، والتي بدورها سوف تعزز إستخدام أنواع من الوقود الأحفوري الأقل إضراراً بالبيئة. وقد بدا قطاع الغاز الطبيعي الأوروبي قاتماً على مدى السنوات الخمس الماضية، غالباً بسبب إرتباطه بروسيا ونفقاته مقارنة مع الفحم. مع ذلك، فيما أصبح الغاز الطبيعي بأسعار معقولة أكثر، ويمكن الوصول إليه، وآمن، فإن الحسابات تتغير. وقد ساعد هذا الأمر أيضاً مؤتمر المناخ في باريس الذي عُقد في2015 الذي شجع العديد من الدول الأوروبية على التخلص التدريجي من الفحم، والذي يمكن أن يكون نعمة للغاز الطبيعي. وهذا، بدوره، يمكنه تسريع إستخدام واردات الغاز الطبيعي المسال الأميركي في أوروبا.
إنتهاز الفرصة
إن مشكلة الغاز الطبيعي المسال الأميركي في أوروبا هو أنه لا يزال أكثر كلفة من الغاز الروسي. حالياً يُقارَن سعر مليون وحدة حرارية بريطانية من الغاز الروسي ب6 دولارات مع سعر إعادة تغويز الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة البالغ 7.5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مع السعر في “هنري هاب” – سوق رئيسية للغاز الطبيعي في أميركا- البالغ 2 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. إن وقوع حرب حصص في السوق قد تجبر الاسعار على الهبوط إلى أقل من 5 دولارات إبتداء من هذا العام. ومن غير المؤكد إلى متى يمكن لروسيا أو الولايات المتحدة أن تتحمل مثل حرب الأسعار هذه. بالنسبة إلى موسكو، فإن ذلك يعني تقلص ايرادات الدولة خلال فترة ركود. بالنسبة إلى واشنطن، فإن ذلك يعني المخاطرة بإستخدام مرافقها غير المكتملة وغير المهيأة بعد تماماً لتصدير الغاز الطبيعي المسال. قد تكون روسيا مستعدة لتحمل إنخفاض الأسعار في الأجلين القصير إلى المتوسط من أجل الحصول على فوائد على المدى الطويل، مثل عقود طويلة الأجل، وتعزيز العلاقات مع العملاء الأوروبيين، وفرصة للحفاظ على أو حتى زيادة حصتها في السوق. وتتفاوض روسيا بالفعل لمد خطوط أنابيب جديدة (مثل توسيع خط أنابيب نورد ستريم)، والتي قد تجعل وضع موسكو أكثر إيجابية عندما يتعلق الأمر بتوقيع عقود جديدة للغاز. وفي الوقت نفسه، لم يصدر الحكم بعد على الوقت الذي تصل فيه صادرات الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة إلى كامل إمكاناتها. وإذا عززت أميركا إنتاج غازها الطبيعي المسال، فإن المرافق الأوروبية سوف تصبح سوقاً حيوية. وهذا يعني أن أوروبا يجب أن تتجنب خطوط أنابيب نقل الغاز الروسي، ولكن ليس كل دولة في الاتحاد الأوروبي على إستعداد للقبول وللقيام بذلك
للتأكيد، في حرب أسعار، فإن المستهلكين الأوروبيين سيكونون الرابحين وسيأتون على رأس القائمة. ولكن ربما ليس لفترة طويلة. بعد كل شيء، ليس هناك ما يضمن أن الولايات المتحدة ستواصل إعطاء الأولوية للسوق الأوروبية إذا عادت السوق الآسيوية إلى الإنتعاش. وبهذه الطريقة، فإن سوق الغاز الطبيعي المسال هي أكثر تقلباً من أنابيب الغاز، التي تجمع الدول معاً لفترة طويلة في السراء والضراء. وهذه المسألة فاقمتها شروط عقود غاز الطبيعي المسال المرنة في الولايات المتحدة، والتي لا تشمل المفهوم التقليدي لأمن وضمان الإمدادات.
ولكن هناك إجراءات يمكن أن تضمن بأن تبقى أوروبا وجهة رئيسية لإحتياطات الغاز الطبيعي المسال الأميركي. لقد خلقت صادرات الغاز الأميركية فرصاً للسياسة الخارجية لواشنطن، ولكنها ستُنشىء أيضاً العديد من العوامل الخارجية الإيجابية المفيدة للعالم. وتعمل الولايات المتحدة على إنشاء سوق عالمية للغاز مع مزيد من المنافسة، وقواعد السوق، وسيولة، وكفاءة. وهذا بدوره سوف يحسّن أمن الطاقة العالمي. وطالما بدت أوروبا أنها مستعدة للإستثمار في البنية التحتية وترسل الإشارات السعرية المناسبة للذين يقومون بتوفير الخدمات لها، فسوف تستمر في جذب الأطراف المعنية إلى موانئها. ولأن إمدادات سوق الغاز العالمية ستبقى كافية بعد العام 2020، ينبغي أن تكون هناك كمية أكثر من شحنات الطاقة التي تكفي لسد حاجة آسيا وأوروبا وبقية العالم. بعد كل شيء، لم تكن أوروبا أبداً سوق الخيار الأول لإمدادت الطاقة – وهذا من الغباء جداً- لكنها كانت، وسوف تكون دائماً سوق راحتها.
في الوقت عينه، يمكن للولايات المتحدة أن تجعل نفسها مورداً للغاز الطبيعي المسال أكثر موثوقية من خلال أحكام الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي للتجارة الحرة للغاز الطبيعي المسال. على الرغم من أن تأثير الشراكة التجارية والإستثمار عبر الأطلسي في إمدادات الغاز الطبيعي المسال سيكون رمزياً أكثر منه أي شيء آخر، وفيما أصدرت وزارة الطاقة الأميركية بالفعل الموافقة على المشاريع في الوقت المناسب، فإنها يمكن أن توفر الإغاثة للقيادات التي من ممكن أن تكون خلاف ذلك تشعر بالقلق إزاء القيود التي قد تُفرَض على واردات الولايات المتحدة. ومن شأنها أيضاً تخفيف القلق النفسي ضد خطر أن تُقدِم واشنطن على إلغاء تصاريح تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى دول ليست أعضاء في إتفاقية التجارة إذا إعتقدت وزارة الطاقة الأميركية أن الصادرات لم تعد مفيدة للمصلحة العامة. إن تلك المرافق الأوروبية التي تشعر بالقلق إزاء إحتمال أن يحل الإعتماد على الولايات المتحدة محل الإعتماد على الغاز الروسي فسيكون الأمر سهلاً إذا أكدت واشنطن على أنها لن تستخدم صادراتها كسلاح سياسي.
الواقع أن لدى القادة الأوروبيين فرصة لاختيار الوقود الأنظف، والأرخص، والأكثر إستقراراً من الناحية الجيوسياسية لإشعال ودعم قارتهم. على الرغم من أن الغاز الطبيعي المسال الأميركي يدخل سوق الطاقة العالمية في الوقت الذي قد يكون أقل إفادة، فإن لديه فرصة فريدة لإعطاء أوروبا خيار آخر في مجال الطاقة غير مكلف، وآمن سياسياً عندما تحتاج إليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى