إرتِفاعُ أسعارِ النفط يُنعِشُ الاقتصادَ السعودي

مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات لم يعرفها العالم منذ سنوات، بدأ الاقتصاد السعودي يتعافى وفائض مالية المملكة يتزايد، الأمر الذي جعل وكالة “ستاندرز أند بورز” للتصنيف الائتماني تُغيّر نظرتها إلى السعودية وترفعها من مستقرة إلى إيجابية.

النفط السعودي: إرتفاع أسعاره أعاد الانتعاش إلى الاقتصاد السعودي

راغب الشيباني*

بصفتها أكبر مُصَدِّرٍ للنفط الخام في العالم، من المتوقع أن تشهد المملكة العربية السعودية عامَ تحوّلٍ في العام 2022. لقد وصلت الأسعار إلى أعلى مستوياتها منذ 14 عامًا تقريبًا، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير)، وهي ما زالت تحوم حول أكثر من 100 دولار للبرميل في وقت كتابة هذا التقرير.

من المتوقع أن يجني اقتصاد البلاد فوائد ارتفاع الأسعار وأي زيادة تدريجية في الإنتاج في العام 2022، مع عدم قدرة أو عدم رغبة منتجي النفط العالميين الآخرين الالتزام بمزيدٍ من الزيادات في العرض لبقية العام. وهذا يعطي المملكة العربية السعودية أقوى نمو اقتصادي لها منذ 11 عامًا وعودة إلى الفائض الاقتصادي لأول مرة منذ العام 2014.

كتبت وكالة التصنيف “ستاندرد أند بورز” في تقرير في أواخر آذار (مارس): “إن ارتفاع أسعار النفط العالمية وزيادة أحجام الإنتاج، جنبًا إلى جنب مع التعافي من جائحة كوفيد-19، يدعم ديناميكيات نمو الناتج المحلي الإجمالي والمالي للمملكة العربية السعودية، فضلًا عن مقاييسها الخارجية القوية أصلًا”. وقد رفعت الوكالة نظرتها المستقبلية للبلاد من مستقرة إلى إيجابية.

قد تدفع المكاسب الاقتصادية غير المُتَوَقَّعة الحكومة إلى تخفيف القيود المالية الأخيرة، ومن المتوقع أن تموّل سلسلة من المشاريع العملاقة – خصوصًا في قطاع السياحة والضيافة. تشكل هذه العناصر العمود الفقري لبرنامج التحوّل الاجتماعي والاقتصادي لرؤية 2030 الطموحة للبلاد.

إستدراجُ المستثمرين

لا يزال انفتاح المملكة العربية السعودية على العالم عملًا قيد التقدّم، على الرغم من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية اللافتة. وتجدر الإشارة بشكلٍ خاص إلى الكفاحِ من أجل جذب المستثمرين الأجانب إلى البلاد، نظرًا إلى أن الحكومة تأمل في كسب 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر سنويًا بحلول العام 2030. ومع ذلك، ما زال المستثمرون الأجانب حذرين من مثل هذه الالتزامات الكبيرة، ومراقبة المزيد من الإصلاحات فضلًا عن مخاطر السمعة والأمن.

قبل عامين تقريبًا، أدت بداية جائحة كوفيد-19–وحرب أسعار قصيرة الأمد مع روسيا– إلى انخفاض الأسعار إلى أدنى مستوى لها منذ 11 عامًا. بدأت أسعار النفط الانتعاش المُطرَد في أواخر العام 2020 حيث أدّى طرح اللقاحات إلى انتعاش الاقتصاد العالمي. كانت الارتفاعات الإضافية في أواخر العام 2021 إلى ما فوق مستويات ما قبل كوفيد نتيجة مخاوف بالنسبة إلى العرض. أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع الأسعار إلى 139 دولارًا للبرميل في أواخر شباط (فبراير)، وظلت فوق 100 دولار منذ ذلك الحين.

من المتوقع أن يبلغ متوسط الأسعار 102 دولارًا للبرميل في الفترة من 2022 إلى 2023، وفقًا لبنك “أوف أميركا”، حيث تبلغ الطاقة الإنتاجية الفائضة بين منتجي منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) حوالي 2.5 مليوني برميل يوميًا، ما يترك القليل من الصدمات الإضافية. وأكدت كتلة المنتجين العالميين “أوبك +” –التي تهيمن عليها السعودية وروسيا– في اجتماعها في 31 آذار (مارس) أنها لن تحيد عن خطتها لزيادة الإنتاج تدريجًا عبر العام 2022.

إن نمو الناتج المحلي الإجمالي السعودي، الذي تعافى إلى 2.8٪ في العام 2021 بعد الانكماش بنسبة 4.1٪ في العام 2020، من المتوقع الآن أن يرتفع إلى 9٪ في العام 2022، وفقًا لشركة التحليل الاقتصادي المستقل والتنبؤ والاستشارات البريطانية “كابيتال إيكونوميكس” (Capital Economics). في حين أن الحكومة السعودية تتوقع فائضًا –وهو الأول منذ 2013– بمقدار 90 مليار ريال سعودي (24 مليار دولار) أو 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في موازنتها المعلنة في كانون الأول (ديسمبر) (استنادًا إلى متوسط سعر برميل النفط البالغ 75 دولارًا للعام)، فمن المتوقع أن يرتفع هذا الفائض إلى 15٪ من الناتج المحلي الإجمالي، حسب توقّعات “كابيتال إيكونوميكس”.

الثقة عالية

بينما تحرّكت الحكومة السعودية في السنوات الأخيرة لإضعاف العلاقة بين عائدات النفط والسياسة المالية، تتزايد التكهنات بأن السلطات قد تتخذ استثناءً بعد تدابير التقشف التي تم وضعها خلال جائحة كوفيد -19.

أعلنت وزارة المالية عن إجراءات تقشّفية بقيمة 100 مليار ريال سعودي في أيار (مايو) 2020، بما في ذلك زيادة ضريبة القيمة المضافة من 5٪ إلى 15٪ واقتطاع مبلغ 1,000 ريال سعودي من كلفة المعيشة الشهرية لموظفي الحكومة.

وقالت “ستاندرد آند بورز” في تقريرها: “نظرًا إلى المكاسب غير المُتَوَقَّعة المُتعلّقة بالنفط التي نتوقعها في العامين 2022 و2023، فليس من المُستبعَد أن تختار الحكومة بعض الإجراءات لمرة واحدة لدعم السكان، ما قد يؤدي إلى زيادة الإنفاق”.

حتى قبل هذه الإجراءات، لا تزال ثقة المستهلك والأعمال مرتفعة؛ زادت ثقة المستهلك السعودي إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في آذار (مارس)، وفقًا لمؤشر ثقة المستهلك الأوّلي لشركة “إيبسوس” (Ipsos )، في حين سجّلت بيانات مؤشر مديري المشتريات غير النفطية التي جمعتها “ستاندرد أند بورز” أعلى مستوى لها منذ تشرين الثاني (نوفمبر) على خلفية توسّعات ونمو الإنتاج والطلبات الجديدة.

ومع ذلك، فإن التضخّم بدوره يرتفع أيضًا. بالإضافة إلى التأثير في أسعار النفط والغاز، فإن الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا –وهما من أكبر مورّدي القمح إلى الشرق الأوسط– من المتوقع أن يرفع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير في جميع أنحاء المنطقة.

في حين أن السعودية كانت أقل اعتمادًا من بعض البلدان على الواردات من البلدين، فقد حصلت على حوالي 45٪ من قمحها من روسيا وأوكرانيا في العام 2021، وشهدت ارتفاع تكاليف الاستيراد بنسبة 40٪ حتى الآن هذا العام، وفقًا لشركة “جدوى للاستثمار”.

“ومع ذلك، مع قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس أخيرًا، والإشارة إلى مسار قوي لمزيد من الارتفاعات خلال الفترة المتبقية من العام، نتوقع ارتفاع قيمة الدولار (وبالتالي الريال السعودي)، الذي من شأنه أن يساعد على عزل تكاليف استيراد المملكة إلى حد ما خلال العام”، قالت “جدوى” في تحديث التضخم للربع الأول من العام.

لقد اتخذت الحكومة بالفعل إجراءاتٍ للحدّ من تضخّم النقل، مع تجميد أسعار الوقود المحلية في تموز (يوليو) 2021. في حين رفعت “جدوى” أخيرًا توقّعاتها للتضخم لعام 2022 إلى 2.4٪ من 1.7٪، إلّا أن هذا لا يزال يمثل انخفاضًا من نسبة 3.1٪ المُسَجَّلة في العام 2021.

رؤية 2030

تُعتَبَرُ المكاسب النفطية السعودية المفاجئة بمثابة دفعة لرؤية 2030، برنامج التحوّل الاقتصادي والاجتماعي الطموح للبلاد، الذي كَشَفَ النقاب عنه في العام 2016 ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تشمل المشاريع الضخمة التي تم إطلاقها في إطار المخطط حتى الآن مدينة “نيوم”، وهي مشروع بمساحة 26,000 كيلومتر مربع على ساحل البحر الأحمر الذي يربط الأردن ومصر، ومشروع تطوير السياحة في البحر الأحمر بقيمة 10 مليارات دولار، ومركز القدية للرياضة والترفيه.

في تحوّلٍ سريع، أعلنت الحكومة في تشرين الأول (أكتوبر) عن استراتيجيتها الوطنية للاستثمار. يهدفُ المُخطّط، الذي يتوخّى استثمارًا بقيمة 12.4 تريليون ريال سعودي في الاقتصاد المحلي بحلول العام 2030، ضمن هذا الإطار الزمني إلى زيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65٪ وزيادة مساهمة الصادرات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي من 16 إلى 50٪.

أحد الأهداف الرئيسة للاستراتيجية الوطنية للاستثمار الجديدة هو جذب 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر السنوي بحلول العام 2030. مثل هذا الهدف طموحٌ في أحسن الأحوال بالنظر إلى الفشل في جذبِ استثماراتٍ كبيرة في السنوات الست الأولى من رؤية 2030؛ كان الهدف الأصلي للبرنامج هو جذب ما يقرب من 19 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر بحلول العام 2020، ولكن تم جمع أقل من ثلث هذا المبلغ.

في حين أن الحوادث البارزة مثل مقتل الصحافي في واشنطن بوست جمال خاشقجي والهجمات المتفرقة من قبل المتمردين الحوثيين في اليمن قد أثارت قلق المستثمرين الدوليين المُحتَملين، فإن التحديات النسبية لممارسة الأعمال التجارية في البلاد لا تزال أكبر رادع أمام الاستثمار الأجنبي، وفقًا ل”جيمس سوانستون”، الخبير الإقتصادي في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “كابيتال إيكونوميكس”.

يقول سوانستون: “العامل الرئيس هو أن بيئة الأعمال المحلية لا تزال غير مواتية بما يكفي للوافدين الجدد، بما في ذلك رسوم التأسيس وأهمية معرفة الأشخاص المناسبين. لا يزال هناك الكثير من الإجراءات التي يتعيَّن اتخاذها لجعلها أكثر ملاءمة للمستثمرين الأجانب، لا سيما في المنافسة مع دبي”.

إعترافًا بالمنافسة من دبي ومراكز الأعمال الإقليمية الأخرى، أعلنت الحكومة السعودية في شباط (فبراير) 2021 أنها لن تمنح العقود إلّا للشركات الأجنبية التي يوجد مقرها الإقليمي في البلاد اعتبارًا من العام 2024 فصاعدًا.

مع تحسّن الاقتصاد السعودي بشكلٍ مُطرَد منذ أواخر العام 2020، بدأ الاستثمار الأجنبي المباشر يُظهِرُ علامات نمو، وإن كان أقل بكثير حتى من أهداف رؤية 2030 الأصلية الأقل طموحًا. أبلغت المملكة عن تدفقات داخلية بقيمة 19.3 مليار دولار في العام 2021، وهو أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد وزيادة بنسبة 257٪ عن العام السابق، وفقًا لوزارة الاستثمار.

في حين جاء 12.4 مليار دولار من هذا الرقم من بيع شركة النفط الحكومية أرامكو السعودية حصة 25٪ من خطوط أنابيب النفط، كانت التدفقات الداخلة لكل من الأرباع الخمسة حتى نهاية العام 2021 أعلى مما كانت عليه في أي وقت خلال السنوات الخمس الماضية. وفي الوقت نفسه، أصدرت الدولة 4,439 ترخيصًا للاستثمار الأجنبي في العام 2021، في الغالب في قطاعات الجملة والتجزئة والتصنيع والبناء، وأكثر من السنوات الأربع السابقة مجتمعة.

  • راغب الشيباني هو مراسل “أسواق العرب” في الرياض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى