تركِيّا والمنطقة: سقوطُ العقائد والأوهام!
محمّد قوّاص*
أطلَّ حزب العدالة والتنمية في تركيا بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان على الحكم في تركيا في العام 2002 مُبَشِّرًا بـ”تصفير المشاكل” استراتيجية لإعادة وصل البلد مع العالم عامة ومع دول الجوار بخاصة. غير أن ذلك النهج قد سقط، لا سيما بعد انفجار ما سُميّ “ربيعًا عربيًا”، لتُباشر أنقرة سياسةً مُعاكِسة قادت إلى تصادم أجنداتها مع العالمَين البعيد والقريب.
توترت علاقات تركيا الأطلسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وساءت علاقات أنقرة مع معظم البلدان العربية، وللمفارقة، على اختلاف توجّهاتها. عوّلت تركيا كثيرًا على جماعات الإسلام السياسي لتغذيةِ سياساتٍ تُحضّر تركيا لنشر نفوذٍ واسعٍ داخل دول المنطقة. لم تكن الخيارات التركية عرضية ظرفية، بل قامت على زادٍ عقائدي وعلى أوهامِ قوة تنهل من حالة الفوضى التي داهمت دولًا عديدة في المنطقة.
وما طرأ أخيرًا من تحوّلات على السياسة الخارجية التركية يكشف عن اقتناعِ أنقرة بعقم خياراتها الطموحة واستنتاجها قدرة دول المنطقة على صيانة قواها، وردع العبث بأمنها واستقرارها، ومنع المراهنة على قلب مسارها ومصيرها. بمعنى آخر، فإن العودة التركية إلى نهج “صفر مشاكل” لم يأتِ بناءً على تحوّلٍ إيديولوجي ذاتي، بل على تأمّلٍ دقيق لحسابات الربح والخسائر منذ العام 2011 وحتى الآن.
الثابتُ أن السياسة الخارجية التركية تخلّت عن المُقاربة العقائدية في تناول علاقة البلاد مع الخارج وخصوصًا مع الدول العربية. والثابتُ أيضًا أن نهجَ “صفر مشاكل” الذي اعتمدته أنقرة في بداية حكم حزب العدالة والتنمية كان في الأساس يقوم على الواقعية وعلى المصالح والاعتراف بالتوازنات الإقليمية وتحريم المغامرة بالعبث بها. والثابتُ أيضًا وأيضًا أن العودة إلى ثنائية الواقعية-المصالح تقوم هذه الأيام على حاجة استراتيجية لتركيا من الواضح أنه بات لا بد منها لانتشال البلد من أزماته.
وعلى الرغم مما حقّقه هذا التحوّل في تركيا من تطبيعٍ لعلاقات أنقرة مع دول المنطقة، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أخيرًا، غير أن أسئلة مشروعة تدور حول ما إذا كانت الخيارات التركية الجديدة ظرفية تُمليها “الحاجة”، أم أنها استراتيجية نهائية لن تسقط بزوال تلك “الحاجة”. بمعنى أوضح، هل “الثوابت” الجديدة هي أصلٌ أم أنها عرضة لاجتهادات قد تقلبها إلى فرعٍ إذا ما تغيّرت الظروف التركية الداخلية (الاقتصادية والسياسية المتعلقة بانتخابات العام المقبل) وإذا ما عوّمت التحوّلات التي ستنتج عن حرب أوكرانيا موقع تركيا في الخرائط الدولية؟
لا يهمّ. السياسة بطبيعتها قيمةٌ متحوّلة متقلبة تخضع لحساباتٍ وقراءاتٍ مُتغيّرة. والواضح أن دول المنطقة أظهرت تمتّعها بقوى خشنة لردّ الصعاب ومواجهة التحديات والتأقلم مع التحوّلات الكبرى إلى درجة استباقها، وأن هذه الدول قادرة على استخدام القوى الناعمة لفتح صفحات جديدة وتطبيع العلاقات مع خصوم الأمس طالما أن ذلك سبيلٌ آخر لتدعيم المنافع وتقوية المصالح وترميم أي تصدّعاتٍ تَسبَّبَ بها سوء قراءة وتقدير أو طموحات واهمة.
تطبيع العلاقات التركية-السعودية احتاج إلى كثيرٍ من الجهدِ المُتبادَل الدؤوب لـ “تصفير” الملفات الساخنة التي سمّمت علاقات البلدين في السنوات الأخيرة. سبق هذا التطور مرحلةَ تطبيع للعلاقات جرت بين دولة لإمارات وتركيا أسّست لمداخل جديدة في مقاربة أنقرة لعلاقاتها مع المنطقة الخليجية. ويتحقّق أمرُ فتح صفحة خليجية جديدة مع تركيا بموازاة ورشة تطبيع أخرى جارية بدأب وتأن لإنهاء حقبة التوتر بين تركيا ومصر.
والحال أن دول الخليج ومصر وتركيا تحكمها ضريبة الجغرافيا والتاريخ. صحيح أن هذا الواقع هو حافزُ مواجهة وتنافس وصدام كما يُخبرنا تاريخ العلاقة مع تركيا منذ أن كانت عثمانية، إلّا أن هذا القدر في الجغرافيا والتاريخ يدفع دول المنطقة كلّها لتحرّي توازناتٍ مُشتَرَكة تُحصّن كل المنطقة من “تسونامي” من التحوّلات الكبرى التي تذهب إلى الوعد ربما بولادة نظامٍ دولي جديد، على الأقل وفق ما ينفخ به الخطاب الروسي في تفسير الحرب في أوكرانيا.
وإذا ما تنظر مصر والسعودية والإمارات وتركيا (وباكستان وهذا يستحق معالجة مستقلة بعد التغيير الأخير في رأس السلطة) بعين الريبة إلى السياسات الأميركية مع وفي المنطقة، فإن صراع واشنطن وموسكو وبكين، بالمناسبة الأوكرانية، يجري أيضًا، بأشكالٍ وواجهاتٍ مُتعدّدة، داخل الشرق الأوسط والبحر المتوسط. وعلى هذا فإن لدول المنطقة مصلحةً مشتركة لاستيعاب مآلات صراع القوى الكبرى وعدم السماح لارتداداته أن تُشعلَ حربًا باردة إقليمية تشتغل لمصلحة حرب باردة عالمية.
وفي موسم “التصفير” قد يجوز تأمّل مدى نضج إيران في استيعاب هذه الحاجة-الظاهرة وهي التي باتت يومياتها ترتبط بمآلات المفاوضات في فيينا. صحيح أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يُبشِّرُ بالاتفاق القريب بين طهران والرياض، غير أن الثقة تبقى قليلة في قدرة إيران على تخليص سياساتها الخارجية مع المنطقة من لبوسها العقائدي باتجاه ما توصّلت إليه أنقرة، ولو بعد حين، من سياسات على أساس ثنائية الواقعية لا الأوهام، والمصالح لا العقائد.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)