مَكاسِب الأسد الديبلوماسية لا تؤتي ثمارها لإعادةِ إعمارِ سوريا

على الرُغم من أن الرئيس بشار الأسد يواصل تحقيق مكاسب عندما يتعلق الأمر بالمشاركة الديبلوماسية والتطبيع، فإن الدعم المالي لإعادة الإعمار سيصبح قريبًا عاملًا محوريًا يؤثّر في استقرار البلاد.

الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية في سوريا: من يعيد الإعمار؟

محمّد الحلبي*

عندما وصل الرئيس السوري بشار الأسد إلى مدرج المطار في مدينة هانغتشو الصينية في أواخر أيلول (سبتمبر)، كان الاستقبال الحار والضجيج الذي حظي به بمثابة إشارة إلى الإحياء الديبلوماسي الذي كان يأمل فيه منذ فترة طويلة. وأتت هذه الزيارة، وهي الأولى له للصين منذ العام 2004، في الوقت الذي يتطلع الرئيس السوري إلى تجديد قيادته الأُسَرية لسوريا والخروج من العزلة الدولية بعد الحرب الأهلية الوحشية التي دامت 12 عامًا في بلاده. ولم يحصد هذا الصراع آلاف الأرواح فحسب، بل أثار أيضًا واحدة من أخطر أزمات اللاجئين في التاريخ الحديث.

في مدينة هانغتشو، عرض الرئيس الصيني شي جين بينغ دعمه للأسد، بما في ذلك التبشير بإقامة “شراكةٍ استراتيجية” مع دمشق. وكان اجتماعهما الثنائي أحدث دليل على تضامن الصين مع الأسد، بما في ذلك إدراج سوريا في مبادرة الحزام والطريق في كانون الثاني (يناير) 2022، والغطاء الديبلوماسي الذي قدمته بكين إلى جانب موسكو في الأمم المتحدة، في شكل “فيتو” (حق النقض) طوال فترة الحرب في اجتماعات مجلس الأمن الدولي.

وقد أعرب الزعيمان أخيرًا عن معارضتهما للتدخل الأجنبي في الشرق الأوسط، وهو ما يمثل انتقادًا مُستَترًا للولايات المتحدة، كما دعم الأسد قضايا الصين حول مواضيع تعتبرها بكين حساسة للغاية، مثل تايوان وهونغ كونغ. علاوةً، كان الأسد حريصًا على إقامة تحالفٍ أقوى مُناهِض للغرب في المنطقة، في وقتٍ تعمل الصين على زيادة نفوذها في الشرق الأوسط من خلال تحركات ديبلوماسية مثل وساطتها بين إيران والمملكة العربية السعودية في آذار (مارس)، فضلًا عن دورها في الترحيب بانضمام الدولتين، إلى جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى مجموعة البريكس في قمة المجموعة في آب (أغسطس) الفائت.

لكن على الرغم من مكاسبه الديبلوماسية، خرج الأسد من الاجتماع الأخير خالي الوفاض عندما يتعلّق الأمر بالالتزامات المالية، مُحَطِّمًا الآمال داخل سوريا والتكهنات خارجها بأن الصين قد تكون مستعدة للقيام باستثمارات كبيرة في البلاد.

وقد وَجَّهَ له ذلك ضربة قوية، حيث لا تزال البنية التحتية في سوريا مدمَّرة بسبب الحرب، وحيث تُقَدَّرُ تكاليف إعادة الإعمار بنحو 250 مليار دولار كحدٍّ أدنى و400 مليار دولار كحدٍّ أقصى؛ كما إنَّ بعض التقديرات تصل إلى تريليون دولار. وعلى الرغم من أن الأسد اعتمد بشكلٍ كبير على الدعم العسكري من روسيا وإيران طوال الحرب، إلّا أنه لا يستطيع أيٌّ منهما تحمّل تكاليف أي عملية إعادة إعمار ذات معنى. ولذلك، سافر الأسد إلى هانغتشو جُزئيًا للترويج لسوريا كشريكٍ استثماري مُربِح لبكين.

وبدلًا من ذلك، أكدت الزيارة حقيقة أن العلاقة السورية-الصينية رمزية أكثر منها جوهرية.

كانت توقعات التمويل الصيني غير واقعية على الدوام. من المفهوم أن بكين متردّدة في القيام بأيِّ استثمارات كبيرة في سوريا، باستثناء إرسال بعض الدفعات الصغيرة من المساعدات خلال جائحة كوفيد-19 وفي أعقاب الزلزال المدمّر الذي ضرب شمال سوريا في شباط (فبراير) 2023. وما زال الأسد لم يَستَعِد السيطرة الكاملة على البلاد، حيث يسيطر على 70% فقط من أراضيها. وبينما تجمّدت المرحلة القتالية من الحرب خلال السنوات القليلة الماضية، إلّا أَّن الأعمال العدائية لا تزال تندلع بشكلٍ دوري بين الجيش السوري المدعوم من روسيا وقوات المتمرّدين. ووسط تساؤلات حول تباطؤ زخم مبادرة الحزام والطريق، ربما تكون الصين أكثر حذرًا الآن بشأن الاستثمارات في المناطق التي يمكن أن تتعرّض فيها سلامة موظفيها وشركاتها للخطر.

على نطاق أوسع، يواجه الوجود الصيني المتنامي في المنطقة قيودًا واضحة، كما يتّضح من الحرب المستمرة بين إسرائيل و”حماس”. وبينما دعت بكين إلى وقف إطلاق النار وضبط النفس الإسرائيلي، فإن تأثيرها الديبلوماسي على هذا الصراع ضئيل حاليًا. وهذا يحدُّ من قدرتها ليس فقط على لعب أي دور وساطة، ولكن أيضًا على تخفيف التداعيات المحتملة في البلدان المجاورة مثل لبنان وسوريا، حيث ينشط “حزب الله” وغيره من الجماعات المدعومة من إيران.

لكن الصين ليست وحدها في تحفظها تجاه سوريا. حصل الأسد على دفعة معنوية هذا العام بعدما أعادت الجامعة العربية، التي عَلّقَت عضوية سوريا في العام 2011، دمشق إلى كنفها في أيار (مايو). ولكن إذا كانت الحكومات الإقليمية تنظر إلى التطبيع باعتباره خيارًا عمليًا وتسوية ضرورية، فإن الأسد لا يحظى بقبول الجامعة العربية بالكامل حتى الآن. أصبح من الواضح أن الجامعة، بقيادة الأردن، غير راضية عن فشل دمشق في اتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة مخدرات الكبتاغون -التي تم ربطها بعائلة الأسد وكبار المسؤولين- فضلًا عن الوتيرة البطيئة لإعادة اللاجئين إلى وطنهم، واللتين كانتا من الشروط لإعادة سوريا إلى الحضن العربي.

وعندما يتعلق الأمر بالمساعدة في إعادة الإعمار، فإن دول الخليج الأكثر ثراء، والتي يُنظَرُ إليها على أنها يمكن أن تلعب دورًا فعّالًا في إعادة إحياء سوريا، ظلّت على الهامش في الوقت الحالي. قطر، الداعم الرئيس لجماعات المعارضة السورية خلال الحرب الأهلية، لم تَقُم بَعد بتطبيع العلاقات مع سوريا، وبدلًا من ذلك حافظت على تحالفها مع الولايات المتحدة، التي عارضت المساعي الإقليمية للتعامل مع الأسد.

وقد أظهرت دولة الإمارات العربية المتحدة مرونةً أكبر، بعد أن كانت أول عضو في جامعة الدول العربية يدفع باتجاه التطبيع وإعادة فتح سفارتها في دمشق في أواخر العام 2018. ومَيلُ أبو ظبي نحو دعم “الاستقرار السلطوي” في سوريا يكمن في مخاوفها من وصول الفصائل الإسلامية، سواء كانت عسكرية أو سياسية، إلى السلطة والتي دفعتها إلى المساعدة على تعزيز قبضة الأسد على السلطة، مثل تدريب مسؤولي المخابرات السورية في العام 2020.

ومع ذلك، على الرغم من كونها أكبر مشجع عربي للأسد، لم تقدم الإمارات التزامات مالية كبيرة لسوريا، باستثناء اقتراح مبادرات فردية مثل محطة للطاقة الشمسية في جنوب سوريا في أواخر العام 2021. كما ناقشت المملكة العربية السعودية أيضًا فرصًا استثمارية مختلفة مع دمشق واستأنفت التجارة الثنائية، متحوِّلةً عن دعمها السابق لجماعات المعارضة. ومع ذلك، فإن العديد من هذه الأفكار مؤقتة وغامضة. وبالنسبة إلى كلا البلدين، أثبتت بيئة الاستثمار غير الجذابة في سوريا، والتي تشمل الفساد وعدم الاستقرار، أنها تشكل عائقًا أمام المشاركة الاقتصادية.

وقد أضاف موقف واشنطن تجاه سوريا المزيد من التعقيدات. في البداية، عارضت الولايات المتحدة نظام الأسد بسبب حملته القمعية العنيفة ضد حركة الاحتجاج السلمية في العام 2011 ووحشيته أثناء انزلاق سوريا إلى الحرب الأهلية. ومع ذلك، مع ظهور تهديد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”، حوّلت واشنطن تركيزها الأساسي في سوريا نحو مواجهته. وكان هذا يعني في كثير من الأحيان أن الولايات المتحدة غضَّت الطرف ولم تمنع شركاءها الإقليميين من التعامل مع الأسد.

ولكن، في الوقت نفسه، قدمت أميركا قانون قيصر لعام 2019 لمنع الكيانات من التعامل مع دمشق. ومع اعترافها بالمحاولات الأخيرة لإعادة تأهيل الأسد، فقد كررت الولايات المتحدة -إلى جانب حلفائها مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي- موقفها المتمثل في أنه لن يكون هناك تعاون مع دمشق حتى يتنحّى الأسد.

وبينما تُكثّفُ واشنطن جهودها لإقناع شركائها الإقليميين بفرض عقوبات على روسيا، أضاف هذا الضغط طبقة إضافية من الحذر عندما يتعلق الأمر بالعلاقات التجارية مع سوريا. ونظرًا إلى احتمال مخالفة العقوبات الأميركية في وقت يتسم باليقظة المفرطة في واشنطن، فإن دول الخليج -وكذلك الصين- ترى أن الاستثمار في سوريا يُمثّل احتمالًا “عالي المخاطر ومكافأة منخفضة”. وعلى الرُغم من بعض التكهنات بأن الصين قد تسعى إلى تحدي العقوبات الأميركية، فإن زيارة الأسد إلى هوانغتشو تشير إلى أن بكين ستستمر في تبنّي نهجٍ عملي يأخذ في الاعتبار خطوط واشنطن الحمراء.

على الرُغم من أن الأسد يواصل تحقيق مكاسب عندما يتعلق الأمر بالمشاركة الديبلوماسية والتطبيع، فإن الدعم المالي لإعادة الإعمار سيصبح قريبًا عاملًا محوريًا يؤثّر في استقرار البلاد.  لقد عادت علامات السخط وسط الأزمة الاقتصادية المتفاقمة إلى الظهور على شكلِ احتجاجاتٍ في المناطق التي يسيطر عليها النظام في الشهر الماضي. ونتيجة لذلك، تبدو سوريا الأسد عالقة في معضلة: فمن دون الاستثمار، لن تتمكن البلاد من تحقيق الاستقرار، ولكن من دون الاستقرار، لن تجد أيّ مستثمرين.

ولا تُعتَبَرُ التحديات الناجمة عن ذلك أقل إلحاحًا وسط المخاطر المترتبة على التأثيرات المتتابعة للحرب بين إسرائيل و”حماس”. في الواقع، في 12 تشرين الأول (أكتوبر)، تمّ إيقاف مطارَي حلب ودمشق عن العمل بسبب ضربات جوية اسرائيلية، التي كانت تهدف على الأرجح إلى استباق عمليات نقل أسلحة إيرانية مُحتملة.

في الوقت الحالي، ومع وجود المعارضة في المنفى أو تحت القمع في سوريا، يبدو أن الأسد قد عزز قبضته على السلطة، على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط. ومع ذلك، في غياب الوسائل اللازمة لإعادة بناء اقتصاد البلاد، فإن عدم الاستقرار والتهديد الذي يمثله لنظام الأسد سوف يستمر.

  • محمّد الحلبي هو مراسل “أسواق العرب” في سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى