ما هو الجنوب العالمي؟

كابي طبراني*

ينتشرُ في هذه الأيام في وسائل الإعلام المكتوبة، المرئية، المسموعة والتواصل الإجتماعي، وبشكلٍ مستمر، مصطلح “الجنوب العالمي”. على سبيل المثال، يُحذّر بعض المعلّقين من أن التوغّلَ الإسرائيلي في غزة يؤدي إلى “تنفير الجنوب العالمي”، وكثيرًا ما نسمع أن “الجنوب العالمي” يريد وقف إطلاق النار في أوكرانيا. ولكن ماذا يعني الناس عندما يستخدمونه؟

جغرافيًا، يُشيرُ المصطلح إلى 32 دولة تقع تحت خط الاستواء (في نصف الكرة الجنوبي)، على عكس 54 دولة تقع شماله بالكامل. ومع ذلك، فإنه غالبًا ما يُستَخدَمُ بشكلٍ مُضَلِّل كاختصارٍ للأغلبية العالمية، على الرُغم من أنَّ غالبية سكان العالم تعيش فوق خط الاستواء (كما هو الحال في معظم مساحة اليابسة في العالم). على سبيل المثال، كثيرًا ما نسمع أن الهند، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، والصين، ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان، تتنافسان على زعامة الجنوب العالمي، وقد عقدت كلٌّ منهما أخيرًا مؤتمرات ديبلوماسية لهذا الغرض. ومع ذلك، كلاهما يقع في نصف الكرة الشمالي.

هذا المصطلح إذًا هو شعارٌ سياسي أكثر من كونه وصفًا دقيقًا للعالم. وبهذا المعنى، يبدو أنه اكتسب جاذبية باعتباره تعبيرًا مُلَطَّفًا ليحلّ محل مصطلحاتٍ أقل قبولًا. خلال الحرب الباردة، كان يُقال إن البلدان التي لم تكن متحالفة مع الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفياتي تنتمي إلى “العالم الثالث”. وقد عقدت دول عدم الانحياز مؤتمرها الخاص في باندونغ في إندونيسيا في العام 1955، ولا تزال هناك 120 دولة تُشَكّل حركة عدم الانحياز الضعيفة حتى اليوم.

ولكن، مع زوال الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لم تعد فكرة عدم الانحياز في العالم الثالث منطقية إلى حدٍّ كبير. لبعض الوقت، أصبح من الشائع الإشارة إلى “البلدان الأقل نموًّا”. ولكن هذا المصطلح كان يحمل طابعًا تحقيريًّا، لذا سرعان ما بدأ الناس يشيرون إلى “الدول النامية”.

ورُغمَ أنَّ هذا المصطلح له مشاكله الخاصة، إلّا أنَّ الدول ذات الدخل المنخفض ليست كلها في طور النمو، فقد أثبت هذا المصطلح فائدته في سياق ديبلوماسية الأمم المتحدة. تضم مجموعة الـ 77 (G-77) الآن 135 دولة، وهي موجودة لتعزيز مصالحها الاقتصادية الجماعية. ولكن خارج سياق الأمم المتحدة، هناك اختلافات كثيرة بين الأعضاء بحيث لا تتمكن المنظمة من القيام بدور ذي معنى.

المصطلح الآخر الذي أصبح رائجًا هو “الأسواق الناشئة”، والذي يشير إلى دولٍ مثل الهند والمكسيك وروسيا وباكستان والمملكة العربية السعودية والصين والبرازيل وعدد قليل من الدول الأخرى. في العام 2001، صاغ جيم أونيل، الذي كان آنذاك المدير العام لبنك “غولدمان ساكس”، الاختصار “بريك” (BRIC) في ورقةٍ بحثية حدّدت البرازيل وروسيا والهند والصين باعتبارها اقتصادات ناشئة تتمتّع بإمكاناتِ نموٍّ عالية. وعلى الرُغم من أنه كان يُقدّمُ تحليلات استثمارية، إلّا أنَّ بعضَ القادة السياسيين، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استغلَّ التجمّع كمنصّةٍ ديبلوماسية مُحتَمَلة لمواجهة النفوذ العالمي الأميركي.

بعد سلسلة من الاجتماعات، انعقدت قمة “بريك” الأولى في يكاترينبورغ، روسيا، في العام 2009. ومع إضافة جنوب أفريقيا في العام التالي، أصبحت المجموعة تُسَمَّى “بريكس” (BRICS). ثم، في قمة “بريكس” الخامسة عشرة التي انعقدت في آب (أغسطس) الماضي، أعلن رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا أن ست دول من الأسواق الناشئة (الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) ستنضم إلى الكتلة في الأول من كانون الثاني (يناير) 2024.

منذ أن أصبحت هيئةً تعقدُ مؤتمرات، كان يُنظرُ إلى مجموعة “بريكس” في كثيرٍ من الأحيان على أنها تمثّل الجنوب العالمي. ولكن مرة أخرى، البرازيل وجنوب أفريقيا (والآن الأرجنتين) هما العضوان الوحيدان من نصف الكرة الجنوبي، وحتى كبديلٍ سياسي للعالم الثالث، فإن مجموعة “بريكس” محدودة إلى حدٍّ ما من الناحية المفاهيمية والتنظيمية.

القيمة الرئيسة لهذا المصطلح هي ديبلوماسية. ورُغمَ أنَّ الصين دولةٌ متوسّطة الدخل في نصف الكرة الشمالي وتتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ العالمي، فإنها تحبُّ أن تصفَ نفسها بأنها دولة نامية تلعب دورًا قياديًا مهمًا في الجنوب العالمي. ومع ذلك، وفي مناقشاتي مع أكاديميين بريطانيين وأميركيين، وجدتُ اختلافات بينهم. رأى البعض أن هذا المصطلح أداةً سياسية مفيدة. واقترح آخرون أن المصطلحات الأكثر دقة من شأنها أن تُقسّمَ العالم إلى بلدانٍ مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة الدخل. ولكن حتى في هذه الحالة، ليس لدى جميع البلدان المنخفضة الدخل المصالح أو الأولويات عينها. فالصومال وهندوراس، على سبيل المثال، يواجهان مشاكل مختلفة تمامًا.

وكان الناشط السياسي كارل أوغلسبي أول من استخدم مصطلح الجنوب العالمي في العام 1969 حيث كتب في المجلة الليبرالية الكاثوليكية “كومونوييل”، أنَّ الحرب في فيتنام كانت تتويجًا لتاريخ هيمنة دول الشمال على الجنوب العالمي، لكن المصطلح لم يكتسب زخمًا إلّا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1991.

يبقى أنه بالنسبة إلى الصحافيين والسياسيين، فإن مصطلحات أصحاب الدخل المرتفع والمتوسط والمنخفض لا تتدحرج بسهولة من اللسان أو تتلاءم بشكلٍ جيد مع العناوين الرئيسة. وبسبب عدم وجود اختصار أو مصطلحٍ بديل، فسوف يستمرون في استخدام “الجنوب العالمي”. لكنَّ أيَّ شخصٍ مُهتمّ بوصفٍ أكثر دقة للعالم، يجب أن يكونَ حذرًا من مثل هذا المُصطَلَح المُضَلّل.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى