أزمة الديون الجديدة في الشرق الأوسط: الإصلاحات هي الحل

تهدّد الأزمات المالية الاستقرار في كلٍّ من مصر وتونس ولبنان. وعلى الرغم من الاصطفاف النادر لعوامل عدة مؤاتية للتغيير، سيظل مسار الإصلاح الاقتصادي محفوفًا بالتحديات على المستوى السياسي.

في لبنان: المطلوب إعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية.

إسحاق ديوان*

واجهت مصر وتونس ولبنان، على غرارِ دولٍ نامية أخرى، سلسلةً من الصدمات الخارجية السلبية منذ العام 2019، كان أوّلها تفشّي وباء كوفيد-19 خلال العامَين 2020 و2021، حين ارتفعت العجوزات المالية. وفي الآونة الأخيرة، أسفرت الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا عن ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية حول العالم. وشهدت هذه الدول الثلاث زيادة الدعم للتخفيف من تأثير الحرب على الأُسَر، ما فاقم بدوره “العجوزات” الداخلية والخارجية. وبعد تشديد شروط الائتمان العالمية في العام 2022، عَقب محاولات الدول الغنية الحدّ من التضخم من خلال رفع معدّلات الفائدة، عُزِلَت مصر وتونس عن الأسواق المالية العالمية، وتواجهان راهنًا محنةً من المديونية. (أما لبنان، فقد تخلّف عن سداد ديونه في العام 2020).

لكن أوجه الضعف الاقتصادية البنيوية القائمة منذ فترة طويلة في هذه الدول الثلاث، والتي تسبّبت باندلاعِ انتفاضات اجتماعية في العام 2011 عُرفت باسم “الربيع العربي”، أدّت إلى اضطراباتٍ مالية متنامية تُهدّدُ الاستقرارَ وتُخَلِّفُ معضلاتٍ سياسية حادة. صحيحٌ أنَّ عدمَ التعاملِ مع التوتّرات المتنامية سيُفاقم الأزمات المالية التي تُثقِلُ كاهلَ هذه الدول، إلّا أنَّ التعاملَ معها من خلال تطبيق سياساتٍ تقشّفية فحسب قد يؤدي إلى اندلاعِ أزمةٍ اجتماعية.

لا شكّ من أن إصلاح الاقتصاد كي يَخرُجَ من دوّامةِ مشاكله الراهنة بوضعٍ أفضل هو المسار الأكثر حكمة، لكنه قد يكون محفوفًا بالتحديات على المستوى السياسي. في لبنان ومصر وتونس، استفادت مجموعاتٌ مُتباينة جدًّا من الإسراف الذي موّلته الديون قبل الأزمة، وتمثّلت هذه المجموعات في المصرفيين في حالة لبنان، والمؤسسة العسكرية في حالة مصر، والاتحاد العمالي الأكبر في حالة تونس. ومن أجلِ تحقيقِ نموٍّ أكبر في الاقتصاد ككل في هذه الدول، يتعيّن على السياسيين من أصحاب التوجّه الإصلاحي تحييد معارضة الإصلاحات وتشكيل ائتلاف من أجل التغيير.

التقشُّف وحده: استراتيجية قصيرة النظر

في السابق، ربما لجأت حكومات مصر وتونس ولبنان ببساطة إلى شدّ الأحزمة وخفض الإنفاق عند مواجهة أزمة مالية. لكن الاختلالات اليوم كبيرة لدرجة أنَّ التدابير التقشّفية الشاملة قد تؤدي إلى ركودٍ شديد، قد يشعل بدوره شرارة الإصطرابات الإجتماعية. لذا، حانَ الوقتُ لإطلاقِ مبادرةٍ وطنية يُعتدُّ بها لتحقيق التعافي الاقتصادي، بدلًا من الاكتفاء باتِّخاذِ تدابير تقشّفية فحسب، كتلك التي تمَّ تطبيقها في ثمانينيات القرن الماضي.

في لبنان، أدّت أزمة الدَّين إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وليست مصر وتونس أفضل حالًا بكثير، إذ إن رؤوس الأموال لم تعد تتدفّق إليهما، وتشهدُ المداخيل في البلدين انخفاضًا كبيرًا، على غرار ما حدث في لبنان. وعمدت الدول الثلاث إلى دعم المداخيل والاستهلاك وتأجيل الإصلاحات بسبب ارتفاع مستويات القروض الخارجية على نحوٍ غير مُستدام، إذ استغلّت هذه الدول طوال عقدٍ توافر الائتمان العالمي السهل وعمليات الإنقاذ المالي المتسلسلة التي أطلقتها دول الغرب و مجلس التعاون الخليجي.

اعتمدت حكوماتُ الدول الثلاث سياساتٍ مالية توسّعية بهدفِ تخفيف حدّة التوتّرات السياسية في أعقاب انتفاضات “الربيع العربي”. لكن على الرُغمِ من اتّساع عجوزاتِ المالية العامة، تراجع النمو الاقتصادي. وأدّى هذان العاملان معًا إلى ارتفاعٍ حادٍّ في نسبة الدَّين العام إلى إجمالي الناتج المحلي، إذ علا الدين العام في تونس من 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2010 إلى 85 في المئة في العام 2020، ومن 70 إلى 95 في المئة في مصر، ومن 130 إلى 180 في المئة في لبنان. ونتيجةً لمُعدّلات الدَّين هذه، المرتفعة للغاية استنادًا إلى المعايير العالمية، باتت الدول الثلاث أكثر عرضةً للتأثّر بالصدمات (مثل وباء كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية، وتشديد شروط الائتمان العالمية) التي هزّت الاقتصاد العالمي.

من شأن الاعتماد حصرًا على تخفيضاتِ المالية العامة والزيادات الضريبية الكبيرة لتحقيقِ استقرارِ الدَّين أن يكون مُكلفًا جدًّا على مستوى رأس المال السياسي، ولا سيما بعد عقدٍ من الأداء الاقتصادي الضعيف. ففي مصر وتونس ولبنان، تُسهم غالبية النفقات العامة راهنًا في دفع أجور موظفي الخدمة المدنية، ودعم السلع الأساسية، ومساندة الشركات المملوكة للدولة، وسداد الفائدة على الديون – وتصبّ جميعها في مصلحة جهات سياسية قوية، إلّا أن الجدوى الاقتصادية لبعضها موضع شكّ. ويُتوقّع أن تؤدّي التأثيرات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن التقشُّف إلى مزيدٍ من اللااستقرار، ولا سيما في حال انعدام الأمل بتحقيق نموٍّ اقتصادي في المستقبل من شأنه التعويض عن التضحيات القصيرة الأمد.

يُركّزُ القسم الأكبر من الإصلاحات في الدول الثلاث على الانتقال من نظامِ الدعم إلى شبكات الأمان الاجتماعي. فقد شكّل ارتفاع أسعار النفط والمواد الغذائية صدمة كبيرة للفئات الفقيرة. ولا يُعتبَرُ الدعمُ الشامل أفضل طريقة للمساعدة، إذ إنه مُكلفٌ ماليًا، وغير فعّال اقتصاديًا، وغير مُنصِف اجتماعيًا. لكن بإمكان شبكات الأمان الاجتماعي المُوَجَّهة نحو تحسين ظروف عيش الفقراء حلّ بعض هذه المشاكل. مع ذلك، يطرح إلغاء الدعم تحدّيات على المستوى السياسي، إذ إنه يُلحِقُ الضررَ أيضًا بالطبقة الوسطى.

لن تؤدّي إعادة هيكلة الدَّين الخارجي إلى التخفيف بشكلٍ فعّال من عبء ديونِ أيٍّ من هذه الدول الثلاث، إذ إن جُزءًا كبيرًا من ديونها الخارجية يعود إلى جهاتٍ دائنة مُتعَدِّدة الأطراف لا تقبل بإعادةِ التفاوض بشأن الدَّين. يُضافُ إلى ذلك أنَّ الدَّينَ العام الخارجي لا يُشكّلُ سوى جُزءٍ صغيرٍ من إجمالي الدَّين العام، إذ إن قسمًا كبيرًا منه محلّي. وبالتالي، ينطوي خفض الدَّين على توزيع الخسائر الكبيرة بين الجهات المحلية، وهي عملية سياسية في غاية الصعوبة تتجلّى بصورةٍ صارخة في لبنان. فعلى الرُغم من أنَّ البلاد تتكبّد خسائر تتجاوز إجمالي ناتجها المحلّي بمرات عدّة، لم تُبذَل أيُّ مساعٍ لإصلاحِ النظام المالي خلال السنوات الثلاث التي تلت انهياره.

صحيحٌ أنَّ ثمّةَ حاجة إلى برامج صندوق النقد الدولي، التي سبق أن انطلق أحدها في مصر، لكن لا بدّ من مواءمتها مع واقع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تضطلع هذه البرامج بأدوارٍ عدّة خلال الأزمات المالية، منها: توفير السيولة، وتحديد حجم إعادة هيكلة الدين، وفرض شروط متعلّقة بالسياسات العامة، ومنح الموافقة الضرورية لأيِّ إصلاحاتٍ قبل تطبيقها.

وعلى الرُغمِ من أن برامج الصندوق ساهمت، وفقًا له، في استقرار الظروف المالية سابقًا، فإنها لم تؤدِّ إلى ارتفاعِ معدّل النمو. من أجل تحقيق النمو المرغوب فيه هذه المرة، لا بدّ من أن تتجاوزَ البرامج المعنية الحلول القصيرة الأمد. والجدير بالذكر أنَّ الأزمات التي تُعانيها هذه الدول الثلاث كشفت عن أوجهِ ضعفٍ كبيرة، مثل ندرة فُرَصِ العمل الجيّدة، وتردّي نوعية الخدمات الحكومية. أما معالجة أوجه الضعف هذه فتتطلّب بلورة استراتيجيات تجدّد وطنية ذات مصداقية، لا تقتصر على التدابير التقشّفية وخفض النفقات.

فُرَصُ النمو واعدة أكثر ممّا كانت في السابق

تنبعُ فُرَصُ النمو جُزئيًا من إجراءِ إصلاحاتٍ تمَّ تجنّب تطبيقها في السابق، على غرارِ تلك التي بإمكانها بثّ الروح الدينامية في القطاع الخاص، وتحسين حشد الموارد، وتعزيز قدرات الدولة المالية. علاوةً على ذلك، يُمكِنُ لخوض تحديات جديدة مرتبطة بالعالم المتغيّر أن يُحسِّنَ آفاقَ النمو، وتشمل هذه التحديات مجاراة التقدّم التكنولوجي، والاستفادة من عملية التراجع عن مسار العَولمة، والتأقلم مع تحدياتِ تغيّر المناخ.

يُهيمنُ القطاع الخاص راهنًا في جميع أنحاء العالم العربي، وهو قادرٌ على أن يكونَ مُحرّكَ نموٍّ قويًا. لكن بين 2012 و2022، تراجع حجم الإستثمارات الخاصة إلى مستوياتٍ مُتدنّية تاريخيًا، من نحو 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في الدول الثلاث إلى ما دون 5 في المئة في مصر، وما دون 10 في المئة في كلٍّ من تونس ولبنان قبل الأزمة. يُعزى ذلك إلى أسبابٍ عدّة، من بينها: مزاحمة الحاجات المالية الكبيرة للتمويل الخاص، وصعود القوة الاحتكارية، إضافةً إلى مستوياتٍ مُرتفعة من المخاطر السياسية. وبسبب البيئات غير المؤاتية لممارسة الأعمال، تحرص الشركات إما على البقاء أبعد ما يكون من الدولة، أو أقرب ما يمكن منها. يفتقر المشهد إلى الشركات المتوسطة الحجم – التي تُعتَبَرُ في الكثير من الأحيان الأكثر ديناميةً في توفير فُرَص العمل حول العالم – بسبب التنافس غير المتكافئ بين عددٍ كبيرٍ من الشركات الصغيرة غير الرسمية وبعض الشركات المُهيمنة التي تتمتع بامتيازات. في مصر، تتحالف مثل هذه الشركات مع المؤسّسة العسكرية، في حين أنها مُرتبطة، في تونس ولبنان، بالطبقة السياسية الحاكمة. من الممكن تحقيق ازدهار القطاع الخاص في هذه الدول الثلاث، لكنه يتطلّب إدخال تعديلاتٍ على بيئة الأعمال، وسيادة القانون، والمنافسة النزيهة، والحصول على التمويل.

إضافةً إلى ذلك، أدّى تدنّي الزخم الاقتصادي إلى نتائج سلبية عدة. فقد سجّلت معدّلات الإدِّخار في الدول الثلاث مستويات أدنى من 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، أي أقل من ثلث المتوسط العالمي. يُضاف إلى ذلك أن نسبة الإيرادات الضريبية مُتَدنّية والضرائب تنازلية، ويُعزى ذلك جُزئيًا إلى انتشار الطابع غير الرسمي. وتُعَدُّ نسبة المشاركة في القوة العاملة مُتدنّية أيضًا، ويعود ذلك في جُزءٍ كبيرٍ منه إلى ندرة فُرص العمل الجيّدة. ويُعتَبَرُ مُعدّلُ مشاركة النساء في القوة العاملة البالغ 17.5 في المئة أدنى بكثير من المعدّل العالمي البالغ 50 في المئة، ناهيك عن أن معدّل مشاركة الرجال في القوة العاملة أدنى أيضًا من المعدّل العالمي. يتطلّب عَكسُ هذه الاتجاهات ثقةً أكبر في المؤسسات وإيمانًا أكبر بالمستقبل. عندئذٍ فحسب سيُصَدِّق المواطنون أنَّ المجهود الشخصي، لا النشاط الريعي، هو الذي سيؤدي إلى تحقيق نتائج أفضل.

يعتمد نجاح الرقمنة في المنطقة، كما في أماكن أخرى، على تطوير البنى التحتية “الصلبة” و”الناعمة” على السواء. لقد استثمرت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنى التحتية الصلبة، ويظهر ذلك من خلال النمو المتين الذي حققّته في اشتراكات النطاق العريض (برودباند) الثابت والمتنقل، واستهلاك بيانات الهواتف المحمولة. لكن مستوى المهارات الرقمية بجانبها الناعم لا يزال منخفضًا، ويعيق تقدّم هذه الدول. وعلى الرُغمِ من أنَّ الناطقين باللغة العربية يُشكّلون حوالى 5 في المئة من سكان العالم، لا يتجاوز المحتوى العربي المتوافر على شبكة الإنترنت نسبة 1 في المئة. لذا لا بدّ من زيادة حجم المحتوى العربي بشكلٍ ملحوظ من أجل مواكبة الرقمنة.

بعد عقودٍ من العولمة المُفرطة، بلغ العالم مُنعطفًا في التجارة العالمية، مع نزعةٍ متواصلة بنقل الإنتاج إلى أماكن أقرب إلى المُستهلكين بهدف خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ودرء المخاطر الجيو-استراتيجية. تُظهر أوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي تفضيلًا جديدًا لنقل الأعمال إلى بلدانٍ مجاورة لها، ما يوفّر لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مزايا قيّمة مقارنةً مع المُنتجين الآسيويين البعيدين. كذلك، تماشيًا مع السياسات الخضراء الجديدة، سيبدأ الاتحاد الأوروبي قريبًا فرض ضرائب على السلع المُستَوردة من البلدان ذات المعايير البيئية المتدنّية، ما يزيد من الحوافز التي من شأنها أن تدفع هذه الدول إلى اعتمادِ تقنياتِ إنتاجٍ أكثر مراعاةً للبيئة في قطاعات التصنيع والزراعة.

يُشارُ إلى أنَّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتأثّر بشكل كبير بتداعيات تغيّر المناخ. لقد سبق أن ارتفعَ متوسط درجة الحرارة العالمية، ويمكن أن يزيد 3.3 درجات مئوية إضافية بحلول العام 2100، إذا استمرّ توليد انبعاثات غازات الدفيئة بالوتيرة نفسها، ما سيتسبّب بكارثةٍ للمنطقة. وتراجعت أساسًا كميات المتساقطات في المنطقة، وبلغت ندرة المياه مستويات حرجة، وأصبحت المخاطر المناخية أكثر تواترًا وحدّة. ومن أجل الحدّ من التداعيات، ثمة حاجة إلى استثمارات ضخمة. فهذه المنطقة لا تزال الأكثر اعتمادًا على الوقود الأحفوري في العالم، على الرغم من امتلاكها إمكانات كثيرة في مجال الطاقة المتجدّدة. على سبيل المثال، تقوم مصر بتجارب لإنشاء مزارع شمسية كبرى. قد تتمكّن مصر وبلدان أخرى من تصدير الطاقة المتجدّدة إلى أوروبا، وكذلك من إقناع المنتجين الأوروبيين بنقل الإنتاج إلى دولٍ أقرب إلى مواقع إنتاج الطاقة المتجدّدة.

يتيحُ ميدان تغيّر المناخ أيضًا فُرَصًا لتوسيع نطاق التعاون الإقليمي، من بينها مشاريع التكيّف مع تغيّر المناخ للحدّ من مخاطر الفيضانات. علاوةً على ذلك، وعلى الرُغم من أنَّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تضمّ دولًا تُعاني من انعدام الأمن الغذائي، ثمة أيضًا دولٌ تمتلك إمكانات زراعية هائلة إنما غير متطوّرة، ما يتيح إمكانية إطلاق مشروع جماعي للأمن الغذائي بحيث نكون أمام سيناريو مفيد للجميع. يمكن الجمع بين رأس المال الوافر الذي تمتلكه بعض الدول واليد العاملة في الدول التي تضمّ أعدادًا كبيرة من القوى العاملة، بعد التراجع الكبير في الهجرة إلى دول مجلس التعاون الخليجي التي امتصّت سابقًا هذا الفائض في اليد العاملة.

من أجلِ الاستفادة من هذه الفرص، لا بدّ من عملية إعادة توجيه أساسية للاقتصاد، وهذه ليست مهمةً سهلة. فالانتقال من النموذج الريعي الحالي إلى نموذج اقتصادي مُنتِج يتطلّبُ إقرارَ مجموعةٍ من الإصلاحات. وسيتبيّن أن ذلك صعبٌ على المستوى التقني ويطرح تحدّيات على المستوى السياسي.

آفاق الحلول القائمة على الاقتصاد السياسي

تتيح الأزمات المالية الراهنة اعتماد الدول المتضرّرة واحدة من استراتيجيتَين اثنتَين: خفض عجوزات القطاع العام أو زيادة معدّلات النمو. يؤدّي الخيار الأوّل، في أفضل الأحوال، إلى إرجاء المشكلة في المدى القصير، ما يُفاقم في نهاية المطاف خطر الدوران في حلقة مفرغة من الانحدار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ونظرًا إلى أنَّ مخاطرَ التقاعس من جهة، والمكاسب المحتملة من التحرّك من جهة أخرى، هي أعلى من أيِّ وقتٍ مضى، فالوقتُ مناسبٌ للتغيير. وفيما يصبح بقاء النظام موضع تشكيك، قد يُبرهن صنّاع القرار في مصر وتونس ولبنان أخيرًا عن استعدادهم للرهان على التنمية. ولكن من أجل تحقيق ذلك، عليهم الابتعاد عن الحلفاء السياسيين القدامى الذين سيتكبّدون خسائر نتيجةً للإصلاح، وبناء تحالفات جديدة مع مجموعات اجتماعية ستُحَقّق مكاسبَ من الإصلاح.

من المفيد رسم مقارنة مع أزمة الديون في الثمانينيات الفائتة. ففي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، لم تشتمل التعديلات استجابةً لتلك الأزمة على إصلاحاتٍ بنيوية. تراجعت خدمات الدولة وجرى تحرير الأسواق جُزئيًا، ولكن خلافًا لما جرى في أميركا اللاتينية أو أفريقيا، ظلّ النظام السياسي خاضعًا لسيطرةٍ مُحكمة وازدادت أعمال القمع. وأدّى ذلك إلى رأسمالية جامحة قائمة على المحسوبيات لم توفّر فُرَصَ العمل الجيّدة الضرورية لتوظيف أبناء الجيل الأكثر تعليمًا. وتسبّبت ندرة فرص العمل، في نهاية المطاف، بإشعال شرارة الحراك الاجتماعي في مصر وتونس ولبنان على امتداد عقدٍ من الزمن ابتداءً من العام 2011.

يمكن أن تُعزى حالة النفور من الإصلاح، المستمرة حتى يومنا هذا، إلى ثلاثة أسباب. أوّلًا، رأت الأنظمة الحاكمة في القطاع الخاص الذي يتمتع باستقلالٍ ذاتي تهديدًا لسلطتها. ثانيًا، دفع الخوف من الإسلام السياسي شريحةً من الطبقة الوسطى إلى تفضيل السلطوية على النظام التنافسي الذي قد يسيطر عليه الإسلاميون في نهاية المطاف. وثالثًا، قدّم الشركاء الخارجيون أيضًا الدعم للسلطوية خوفًا من أن تسود حالة انعدام الاستقرار في منطقة تواجه تحدّيات جيوسياسية متعدّدة.

تبدّلت هذه العوامل الثلاثة الآن بطرق مهمّة. فمعادلة الإصلاح الاقتصادي لا تبدو مؤاتية أكثر فحسب، بل إن جاذبية السلطوية تراجعت مع ضعف الإسلام السياسي وانحسار الحروب الأهلية. هذا فضلًا عن أن جميع القوى الخارجية تبدو غير مستعدّة لمنح هذا النظام أو ذاك شيكًا على بياض لمساعدته على تعويم نفسه؛ بدلًا من ذلك، ثمة التقاء مصالح بين القوى الخارجية –التي تخشى تدفّق اللاجئين إلى أوروبا، وتُدرك الحاجة إلى التعاون لكبح تداعيات تغيُّر المناخ – لمساعدة المنطقة في تحقيقِ استدامةٍ أكبر على المستويَين السياسي والاقتصادي.

لكن لن يكون سهلًا شقّ مسارٍ نحو النمو، في ضوء المعارضة السياسية المُتَوقّعة. يكمن التحدّي الثلاثي في انفتاح النظام السياسي، وبناء ائتلافٍ من أجلِ التغيير، وإضعاف المعارضة. وسيتبيّن أن التحدّي الأخير صعبٌ على وجه الخصوص، نظرًا إلى أن الطفرة الائتمانية التي شهدها العقد المنصرم عادت بالفائدة على مجموعاتٍ مُعيّنة وعزّزتها، وهي لا تزال تتمتع بنفوذٍ كبير وستتكبّد خسائر نتيجةً للإصلاح.

في مصر، لم تحصل المؤسسة العسكرية قط على التمويل الكافي، إنما سُمِح لها، منذ رئاسة أنور السادات، بممارسة الأنشطة التجارية لاستكمال المخصّصات الضئيلة المصروفة لها في موازنة الدولة. فضلًا عن ذلك، أدت المؤسسة العسكرية دورًا سياسيًا محوريًا منذ العام 2011، وسار تنامي نفوذها الاقتصادي في موازاة صعودها السياسي. لا تزال نوايا الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، غير واضحة. فهو قد يعمد، من أجل الانتقال إلى اقتصادٍ أكثر إنتاجية ودينامية، إلى القيام بانعطافة سياسية من التحالف المُحكم مع المؤسسة العسكرية نحو توطيد العلاقة مع النخبة الاقتصادية في البلاد، مثلما فعل الرئيسان السابقان السادات وحسني مبارك، إنما مع اعتمادٍ أكبر على الشركات التابعة لدول مجلس التعاون الخليجي. ولكن التوصّل إلى اتفاقٍ سياسي واجتماعي جديد بكل ما للكلمة من معنى يتطلّب برلمانًا أكثر دينامية، وإصلاح قدرات الدولة، والتزامًا باستخدام موازنتها لتقديم تمويلٍ أكثر سخاءً إلى المؤسسة العسكرية.

في تونس، تختلف العقبات السياسية. ففي مواجهة الحكومات الائتلافية ذات القاعدة العريضة والتي تعاني من الضعف بسبب ذلك، تمكّن الاتحاد العمالي الوطني من رفع فاتورة الأجور من 8 إلى 16 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، بالإضافة إلى توظيف فائض من الأشخاص في الشركات المملوكة للدولة وإقناع الحكومة بزيادة الدعم. يكمن التحدّي السياسي في خفض النفقات العامة، واستعادة ثقة قطاع الأعمال، وهندسة طفرة استثمارية. تمتلك تونس إمكانيات كبيرة لتحقيق النمو، نظرًا إلى قاعدتها الصناعية الواسعة، ويمكن أن تتوقّع دعمًا قويًا للإصلاحات من الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك من خلال الاستثمار المباشر. ولكن في ظل غياب حكومة ذات مصداقية يمكنها توزيع عبء الإصلاح بطريقةٍ مُنصِفة والشروع في مرحلة جديدة من النمو، لن يقبل الاتحاد العمالي بتحمّل الخسائر منفردًا. على الصعيد السياسي، يبدو أن المخرَج الوحيد هو إجراء انتخابات رئاسية ناجحة، وربما مبكرة في حال انهار الاقتصاد قبل العام 2024، وإطلاق رزمة إصلاحات اقتصادية حاسمة من شأنها أن تؤدّي إلى استقرارٍ اقتصادي وتعافٍ سريع.

كذلك في لبنان، يُعدّ التحدّي سياسيًا بصورة أساسية. فلكي تنهض البلاد مجدّدًا، لا خيار سوى اعتمادِ نموذجِ نموٍّ جديد يؤدّي بموجبه المصدّرون دورًا أكبر من المستوردين، ويضطلع المصرفيون المهتمّون بالإنتاج بدورٍ أكبر من المصرفيين المهتمّين بالمضاربة. ولكن اعتماد هذا النموذج ليس مضمونًا لأنَّ كبار المصرفيين مُعرَّضون لتكبّد خسائر بقيمة عشرات مليارات الدولارات ويمتلكون الوسائل اللازمة لإفساد المنظومة السياسية من أجل تأجيل يوم الحساب. ولكن الظروف الخارجية والداخلية الراهنة قد تكون مؤاتية لإصلاح المنظومة حتى لو كان الثمن عفوًا شاملًا عن مسبّبي الكارثة، مثلما حدث في نهاية الحرب الأهلية. علاوةً على ذلك، وفيما يُعتبر اعتماد نظام مالي جيّد أساسيًّا من أجل اقتصاد ديناميكي، سيتعيّن اتّخاذ مزيدٍ من الخطوات لاستعادة وظائف الدولة التي تتدهور سريعًا. فبعدما تراجعت موارد الدولة اللبنانية بمقدار عشرة أضعاف، لا بدَّ من الحصولِ على جرعةِ دعمٍ كبيرة من الجهات المانحة الخارجية كي تتمكّن البلاد من الوقوف على قدمَيها من جديد. ولكن مُجَدَّدًا، يتطلّب ذلك إجراء حدٍّ أدنى من الإصلاح السياسي.

خاتمة

تاريخيًا، كان السببُ الأساس خلف ضعف الأداء الاقتصادي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو انعدام الشجاعة السياسية. اليوم، وعلى الرغم من أن الحاجة إلى التحلّي بالشجاعة لتحقيق التغيير لا تزال ضرورية، تؤدّي عوامل أكبر دورًا في هذا الصدد. فثمة اصطفافٌ نادر لعناصر قد تكون مؤاتية للتغيير، وتتمثّل في عدم جاذبية الخيارات البديلة من الإصلاح، وتحسّن آفاق الاستفادة من الإصلاح، والضغوط الخارجية البنّاءة. وفيما سيطرت سياسة النفوذ على النتائج الاقتصادية منذ حصول دول المنطقة على استقلالها، من الممكن أن تُطلق المعادلة الاقتصادية الجديدة، أخيرًا، حوافز لتحقيق التغيير السياسي التدريجي.

لا شكّ من أن الإصلاحات السياسية قيّمة في حدّ ذاتها، ولم يعد ممكنًا تجنّبها بعد التعبئة الاجتماعية التي أطلقها الربيع العربي. ولكن من أجل إحراز تقدّم اقتصادي حقيقي، لا بدّ من إرساء مناخٍ من الحرّية والعدالة. فحماية الامتيازات، وممارسات الفساد، والاحتكارات، وكذلك الخوف من التغيير، يجب أن تُستبدَل كلها بالإدماج والتنافس العادل، ما من شأنه أن يُطلق العنان للإبداع والمجهود الفرديَّين. يمكن الشروع في عملية تدريجية من أجل التقدّم، خصوصًا أن الإصلاحات الاقتصادية والسياسية قد تؤدّي إلى تحسين الثقة بالمؤسسات وبالمستقبل، وتسهيل عملية التحرّك الجماعي، وإرساء أسس ائتلاف يعمل بتفانٍ من أجل تحقيق تغيير شامل أكثر. ومن شأن هذا الائتلاف التفاوض على عَقدٍ اجتماعي يؤدّي إلى الحدّ من معارضة الإصلاحات من خلال توفير قدر من الحماية لأولئك الذين يتوقعون أن يتعرّضوا للخسارة بسبب هذا التغيير، مع حشد دعم ناشط من خلال بثّ الأمل بمستقبلٍ أفضل لدى أولئك الذين يتوقّعون الاستفادة من التغيير.

  • إسحاق ديوان هو مدير الأبحاث في مختبر التمويل من أجل التنمية. يتولّى راهنًا تدريس مادة الاقتصاد في المدرسة العليا للأساتذة في باريس، وشغل خلال السنوات القليلة الماضية مناصب تدريس في كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا، وفي كلية كينيدي في جامعة هارفرد. وشارك في تأليف كتب، من بينها “A Political Economy of the Middle East (الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط) (منشورات ويستفيو، 2015)، و”Crony Capitalism in the Middle East (الرأسمالية الزبائنية في الشرق الأوسط) (منشورات جامعة أكسفورد، 2019).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى