نَكسَةُ فرنسا في المغرب

محمّد قوّاص*

احترفَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “ديبلوماسية الكوارث”، وطابَ له أن يُكَرِّرَ في المغرب ما فعله في لبنان إثرَ انفجارِ مرفَإِ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020. في الحالة اللبنانية كانت العلاقات مع باريس تَسمَحُ أن يتطوّعَ الرئيس الفرنسي ويُنفِّذُ “إنزالًا” تضامنيًا إنسانيًا لمواساة البلد وضحايا الكارثة. انتَهَزَ حينها المناسبة لجمع قادة البلاد وإلقاءِ محاضرةٍ بهم بشأن حسن الحَوكمة وسُبُلِ الإصلاح ومنافذ الخروج من الأزمة. وكان في بال الرجل دائمًا أنَّ باريس ستنجح في استعادة دور “الأم الحنون” لرعاية هذه الورشة التاريخية.

بالمقابل فإنَّ مَن يُتابعُ مسلسل التوتّر في علاقات فرنسا والمغرب سيسهل عليه استنتاجَ تشاطُرٍ فرنسي لاستغلالِ كارثة الزلزال لتجاوز عُقَدِ العلاقة بين باريس والرباط تحت عنوان تقديم المساعدة والعون الإنقاذيين للضحايا. وعلى نقيضِ الحالة اللبنانية، فإنَّ في المغرب دولةً وحكومةً يقودهما ملكٌ يحظى باحتضان المغاربة. وحين ارتكبَ ماكرون خطيئة التوجّه المباشر إلى المغاربة من دون المرور بالمداخل الرسمية حكومةً وملكًا، انفجرَ غضبٌ شعبي أوّلًا عبّرَ عن نفسه من خلال وسائط التواصل الاجتماعي.

لكن المفارقة المفاجئة أنَّ فرنسا لم تفهم رَفضَ المغرب مساعدات فرنسا “لأسبابٍ تقنية”، أو بالأحرى ادّعَت ديبلوماسية باريس ذلك. ولم يظهر أنّها تعترف بتدهور العلاقات الفرنسية-المغربية على نحوٍ دَفعَ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في آب (أغسطس) الماضي إلى التحذير من تأثير جهود التصالح مع الجزائر على العلاقة مع الرباط، مُعتَبِرًا أنَّ “هذا التوجه يُبعِدُنا عن المغرب”، مُضيفًا: “نحنُ نُجازِفُ بخسارةِ كلِّ شيء، لا نكسب ثقة الجزائر ونفقد ثقة المغرب”. ومع ذلك، وحتى تُمعِن باريس في إدعاءِ عدمِ الفهم ارتكبت “خطيئةً” أخرى.

قررت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا أن الرئيس الفرنسي سيقوم بزيارةٍ قريبة إلى الرباط استجابةً لدعوةٍ وَجَّهها إليه عاهل المغرب الملك محمد السادس. وحينَ تُصَرِّحُ رئيسة الديبلوماسية بذلك، فهذا يعني أنَّ الأمرَ رسميٌّ يُفتَرَضُ أنه سلكَ الطُرُق الديبلوماسية والسياسية وأعرافها التقليدية وعلى أعلى مستوى طالما أنَّ الأمرَ يتعلّقُ بـ”زيارة دولة” وقمّة بين الزعيمين.

ردّت الرباط: “لا عِلمَ لنا، لم نُوَجِّه دعوة، وننفي هذه “الإشاعات””. قالت وزارة الخارجية المغربية إنَّ زيارة الرئيس الفرنسي للمغرب “ليست مُدرَجة في جدول الأعمال ولا مُبَرمَجة”. في علم العلاقات الدولية أغلقت الرباط الباب في وَجهِ رئيسٍ فرنسي استسهل التعامل مع المغرب بالتوجّه مباشرةً إلى شعبه ولمّح بورقة الزيارة “الرسمية” من دون علم سلطات البلاد. ولئن يُمثّل الأمرُ ركاكةً وارتباكًا وفجاجةً غريبة لترميمِ علاقاتٍ تاريخية عريقة مع المغرب، غير أنَّ تلك المُقاربات يُفتَرَضُ أيضًا أن تُثيرَ سجالًا فرنسيًا داخليًا بشأن النكسات التي مُنيت بها فرنسا في أفريقيا، وفشل مبادراتها في لبنان، وفقدان الحصافة للمحافظة على علاقاتٍ مع حليفٍ استراتيجي قديم مثل المغرب، وارتباك علاقة باريس حتى مع حلفائها في أوروبا والولايات المتحدة.

يُمثّلُ الحدث النقطة التي أفاضت الكأس. غضبت الرباط من موقفٍ فرنسيٍّ رماديٍّ بشأن مغربية الصحراء على نقيضِ مواقف دولية في مقدمها موقف الولايات المتحدة وإسبانيا وبريطانيا. تعرف فرنسا بشكلٍ دقيق ما سبق أن ذكره العاهل المغربي في خطبه من أنَّ بلاده تنظرُ إلى العالم عبر “نظّارة” الصحراء.

وإذا ما كانت حاجة فرنسا إلى غاز الجزائر في عزِّ أزمة الطاقة التي نتجت عن حرب أوكرانيا دفعت باريس إلى بذلِ جهودٍ كادت تكون يائسة لتطوير العلاقة مع الجزائر، فإنَّ ذلك ليس سببًا لتقديمِ باريس خدماتٍ سياسية للجزائر في ملفِّ المغرب. ثم أنَّ باريس لم تَبذُل ما يجب أن يُبذَلَ من جهودٍ لصيانة العلاقات مع الرباط وتعزيزها والمضي بها قُدُمًا في ملفّاتٍ مختلفة لموازنة استفاقتها على الحاجة إلى الحزائر.

في الأمرِ أيضًا سمات صادمة لـ”ماكرون ستايل” أو ل”أسلوب ماكرون” في فَهمِ العلاقات الدولية. فحتى في عزِّ جهوده لترميم العلاقات مع الجزائر ارتكبَ الرجلُ موقفًا، لطالما ردّدهُ عتاةُ اليمين العنصري المتطرف، بتكراره أنَّ “الجزائر لم تكن موجودة قبل أن يحتلها الفرنسيون” لمدة 120عامًا. وأخيرًا وإثرَ زيارةٍ قامَ بها إلى بكين خَرَجَ يُحرّضُ الأوروبيين ضد سياسة الولايات المتحدة حيال الصين داعيًا إلى عدم اتباع سياسة واشنطن. موقفٌ سخرت منه واشنطن وغضبت منه عواصم أوروبا. وفي صبيانية الديبلوماسية الفرنسية تَناقُضُ مواقفها بين تلك الغاضبة الساخطة ضد انقلاب النيجر وتلك الهادئة المُتَفَهِّمة لانقلابِ الغابون.

ولا تنسى الرباط أزمةَ التأشيرات. فرضت باريس في أيلول (سبتمبر) 2022 قيودًا على منح التأشيرات لمواطني الجزائر وتونس والمغرب. أثار الأمرُ غضبًا لدى هذه الدول. عمدت فرنسا لاحقًا إلى رفع القيود عن الجزائر وتونس وأبقتها على المغرب.

وبدا في ذلك أن سياسة باريس حيال الجزائر وتونس فرضت ما لم تفرضه سياستها المغربية التي باتت غير مقبولة من قبل المغرب والمغاربة. ولئن تتالت النكسات في علاقة البلدين في السنوات الأخيرة، فإن العاهل المغربي وجّهَ تعليماته لوزير الخارجية بإنهاء مهام محمد بنشعبون سفيرا للمملكة لدى فرنسا في كانون الثاني (يناير) الماضي في إشارةٍ واضحة إلى المستوى المُنخفض الذي وصلت إليه العلاقات مع فرنسا.

في المغرب مَن يقول: “لسنا مستعمرة فرنسية حتى نستجيب لإرادة المستعمر في فرض مساعداته. نحن دولة ذات سيادة تُقرّرُ وحدها أجندة مصالحها”، وأنَّ الرباط وحدها تعرف الحالة اللوجيستية في البلاد التي وفقها يتحدّد توقيت وشكل وحجم المساعدات الأجنبية. يُعبّرُ المغرب عن غضبٍ من محاولة فرنسا استغلال مصاب البلاد للتعامل باستخفاف مع مواقف الرباط.

ويُعبّرُ المغاربة عن دفاعٍ عن “كرامة المغرب” حيال تهاون فرنسا ورئيسها في مخاطبة المغرب بلدًا وشعبًا وحكومةً وملكًا. ولئن يشكو لبنان بسبب أزمته السياسية من فقدان سلطةٍ مُوَحَّدة مُتجانسة وغياب رئيسٍ للجمهورية على رأس البلاد وهيمنة السلاح على قراره ما يبرر سلوك باريس وغيرها في التعامل مع بيروت، فإنَّ المغرب يُعبّرُ مرةً أخرى عن امتلاكه السيادة والتجانس والوحدة وقوة الموقف للدفاع عن مصالح البلد وصحرائه. وإذا ما أرادت فرنسا بصعوبةٍ إصلاحَ حالها مع المغرب فإن للمغرب أبوابًا كبيرة وجب العبور من خلالها وملفّات حيوية وجب عدم التلاعب بها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “أساس ميديا” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى