ولَكِنَّكُم تَستَعجِلون

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

كانت ملابسه رثّة، وقدماه مُتعَبَتَين؛ بالكاد يجرّهما جرّاً. وخلف خطٍّ غير مُستقيمٍ من آثارٍ لا يُمكن تمييزها على الرمال، كان خادمه يسير خلفه مبهور الأنفاس، زائغ البصر. لكن صاحبنا الذي لوَّحت الشمس بياض بشرته لم يكف لحظة عن النداء: “لا أحصي ثناء عليك … أنت كما أثنيت على نفسك. ربّي لك الحمد والمنّة، ولك الشكر والعرفان … ربّ هِب لي من لدنك عملاً أُكافئ به جميلك، يُقرِّبني إليك!”.

بعد ثلاث  أيام من التيه والظمأ والجوع والخوف، توقّف الخادم ليلتقط ما تبقّى في صدره من أنفاس، ليصرخ بكل ما أوتي من ضعفٍ في سيده الذي لا يُبالي: “سيدي! عَلامَ تشكر ربك؟ مرّت ثلاثة أيام بلياليها، ونحن نجوب هذا القفر بلا زاد ولا راحلة، من دون أن تمتدّ إلينا يد مُحسِن بشربة ماء أو مذقة لبن. لقد بلغ بنا الجهد ما ترى، ووهن العظم واشتعل الرأس رمالاً وأتربة. أنظر إلى قدميك اللتين تَوَرَّمتا وتشقَّقتا ونزت منهما الدماء. ألا تشعر بالخوف من السباع الضارية التي تحوم حولنا ليلاً ونهاراً؟ إن كان هذا الواقع البائس يستحق الحمد والثناء، فأي واقع يستحق التمرّد والجحود؟ أيّ إله هذا الذي يتلذّذ بعذابنا ويتمتّع بحشرجة صدورنا وتيهنا وضلالنا فوق الرمال؟ أم تراه خلقنا ثم نسينا أو غلبته سنة من نوم؟ يكفينا ما نحن فيه من بلاء، فلا تزد أوجاعنا بثناء لا يسمعه ربك، ولا يستجيب له”.

إلتفت العابد إلى العبد، وحملق في عينيه دهشاً، ثم ربّت على كتفيه في رحمة، وقال: “أدرك أيها الشاب ما تُعانيه من تعبٍ وكدر. وأشعر بمثل ما تشعر، وأكثر. منذ أيام ونحن نسير في فلاة لا زرع فيها ولا ماء، ولا ظلّ ولا شجر. تسفعنا الشمس بلهيبها وتضربنا الرياح بقسوة، وبالكاد نتمكّن من حمل أجسادنا المُنهَكة فوق هذه الرمال الحارقة. ولكن ألا يستحقّ هذا حمداً يليق بجلال الخالق؟ لقد تحمّلت أجسادنا مشقّة الرحلة، ولم يُكلفنا الله فوق ما نطيق، فلا بدّ وأن السير في هذه الأجواء يفيد أجسادنا التي يوهنها طول الجلوس وكثرة الطعام. فالله يعلم ما يصلح هذا الجسد وما يفسده، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

تشعر بالخوف من الكلاب النابحة والسباع الجارحة، ولا تشكر الله أنها لم تهاجمك طوال ثلاثة أيام بلياليها في قفر لن يدافع عنك فيه أحد، ولن يسمع استغاثتك فيه مخلوق؟ مَن الذي رعانا طوال الرحلة يا بني، وأغشى أعين الوحوش الضارية فلم ترنا أو تقتفي أثرنا؟ أإله مع الله؟ ومَن قال أن المشاعر المتضاربة من خوف ورجاء وقلق وأمان وحزن وفرح غير مفيدة لجهازنا العصبي الذي يزداد قوّةً وصلابة كلّما مرَّ بمشاعر مُتناقضة وأحاسيس مُتضاربة؟ ألا يستحق الله الذي يُدرّبنا على تحمّل مشاق الحياة أن تلهج ألسنتنا بحمده وتفيض قلوبنا بمحبته؟

لو كان الله يُفكّر كما نُفكّر، لما استحقّ العبادة يا بني. لكنه يعلم ما يُصلِح نفوسنا وما يزكيها، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ أشكره لأنه ليس كمثله شيء، ولأنه يأخذنا من أنفسنا الذي تريد أن تضلّنا ليتولّى هو قيادتنا في عالم تختلط فيه الأشياء، ويجعل الحليم حيران. حين تستعجل الإجابة، وتستبطئ الرد، فإنك تمارس إحدى صفات الألوهية، ولست بإله يا بني. فاسعَ قدر ما تستطيع، لكن لا تتدخل في مقادير الرب، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون.

يُذكّرني سخطك بالخباب بن الأرت، وهو من خيرة الصحابة رضوان الله عليهم. فقد تحمّل في سبيل إسلامه الكثير من العنت. دخل في الإسلام وهو دون العشرين، وكان مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية. فلما علمت بإسلامه عذبته بالنار، فكانت تأتي بالحديد المحمي وتجعله على ظهره ورأسه ليكفر بما أنزل على محمد. وكانوا يعذبونه فيلوون عنقه ويجذبون شعره، ويجرونه فوق النار، فلا يطفئها إلا شحم ظهره.

ذهب الخباب ذات يوم وقد أجهده العذاب ليشتكي إلى رسول الله الذي كان يتوسّد بردة في ظل الكعبة ويقول: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ حينها غضب نبي الرحمة غضباً شديداً، فجلس وقد احمرّ وجهه، ليقول: “قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَينِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.

ثم نهض الشيخ ومدّ يده إلى غلامه الذي كان جاثياً على ركبتيه ليُنهِضه ويُربّت بحنوٍّ على كتفيه، ويقول: “لا أحصي ثناء عليك … أنت كما أثنيت على نفسك. ربي لك الحمد والمنّة، ولك الشكر والعرفان .. رب هب لي من لدنك عملا أكافئ به جميلك، يُقرّبني إليك!”، ليُردد الفتى من خلفه في ذلّة وانكسار: “آمين!”.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى