تمويل إعادة إعمار سوريا يُمكن أن يؤثِّر سلباً في روابط الصين الأخرى في الشرق الأوسط

يبدو أن الصين ترى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غير المستقرة فرصة إستثمارية، لذا عملت في عهد الرئيس شي جين بينغ على تسريع خطواتها نحو المنطقة، سواء عسكرياً أم تجارياً أم حتى ديبلوماسياً، وزيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة هي أكبر دليل.

تشو إن لاي: مبادئه الثمانية ما زالت سارية بالنسبة إلى المساعدات الخارجية الصينية

بقلم كايل حداد- فوندا*

مع هبوط الظلام في أبو ظبي في 20 تموز (يوليو) الفائت، عرضت شاشة ضخمة على واجهة المقر الرئيسي لشركة النفط الوطنية في الإمارة، المُكوَّن من 65 طابقاً، مشهداً مميزاً: صورة للرئيس الصيني شي جين بينغ التي تتمدّد على إرتفاع 1000 قدم تسطع أضواؤها على أفق الخليج العربي. وفي دبي المجاورة، أُضيء برج خليفة، وهو أعلى ناطحة سحاب في العالم، من أعلى إلى أسفل بألوان العلم الصيني. لقد خرجت دولة الإمارات العربية المتحدة كلها لتحتفل بالزيارة الرسمية التي يقوم بها الرئيس شي.
في الوقت الذي تستعد الصين لاتخاذ دور أكبر وأكثر حزماً في الشرق الأوسط، تبدو مثل هذه الأبّهة مُناسِبة تماماً. تقوم الحكومة الصينية بتوقيع إتفاقات وإطلاق تعهدات جديدة في ظل مبادرة البنية التحتية الدولية المترامية الأطراف والتي تُعرف باسم “حزام واحد، طريق واحد”، والتي من المؤكد أن يكون لها تأثير جيوسياسي عميق في المنطقة. جاءت رحلة جين بينغ إلى أبو ظبي بعد أسبوع من إستضافته الإجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني – العربي في بكين، حيث تعهد بتقديم 20 مليار دولار من القروض التنموية للدول العربية.
ومن الأمور الأقل تبشيراً، على الرغم من كونها ذات أهمية، كان تعهد الحكومة الصينية بتقسيم 105 ملايين دولار من المساعدات المباشرة بين الأردن ولبنان والسلطة الفلسطينية واليمن وسوريا. إن الحكومة الأردنية، التي تواجه أزمة سياسية أدّت إلى مظاهرات شعبية واسعة، تتوق إلى أي دعم أجنبي. ولبنان، الذي يستضيف عدداً كبيراً من اللاجئين من سوريا المجاورة، هو برميل بارود دائم. وتؤكد المساعدات المُقدَّمة للفلسطينيين على مكانة الصين كقوة عالمية تتوق إلى مواصلة الضغط من أجل حلّ الدولتين على إسرائيل، وهو هدف كرره الرئيس الصيني للزعماء العرب في بكين. واليمن وسوريا، البلدان اللذان يعانيان من الحروب الأهلية، في أمس الحاجة إلى المساعدات الإنسانية.
كانت الصياغة الرسمية للحكومة الصينية هي أن المساعدات لسوريا ودول أخرى يجب أن تكون مُخصصة لـ”إعادة الإعمار”. ومع إستمرار الحرب المدمرة في سوريا والتي عصفت بكل مقاطعة في البلاد ودمّرت معظم بنيتها التحتية، فمن المستحيل التقدير بشكل موثوق كم هو المال المطلوب للبلاد لكي تتعافى. تتراوح التقديرات بين 100 مليار دولار وتريليون دولار، وهي مبالغ مذهلة لبلد كان ناتجه المحلي الإجمالي قبل الحرب مجرد 59 مليار دولار.
إن غالبية القوى الأجنبية المسؤولة عن تفاقم النزاع لا يمكنها أن تشارك أو لن تساهم بمبالغ كبيرة من أجل إعادة الإعمار. لا يزال إقتصادا روسيا وإيران محدودين ويواجهان أزمة بسبب العقوبات الدولية. وقد وعدت الدول الغربية والملكيات العربية الغنية بالنفط على نحو متكرر بعدم الدفع لإعادة بناء سوريا إذا بقي الرئيس بشار الأسد في السلطة، وهو أمر يبدو مُرَجَّحاً بشكل متزايد. في مثل هذه الظروف، تبرز الصين باعتبارها الدولة الوحيدة التي قد تكون قادرة على حشد الإرادة السياسية لتمويل إعادة بناء سوريا.
وبالطبع، فإن حصة سوريا من مبلغ ال105 ملايين دولار الذي تعهد به الرئيس شي هو مجرد جزء صغير من المطلوب. وحقيقة أن تلك المعونة تبدو صغيرة جداً من أصل 20 مليار دولار من القروض المعلنة عكست عدم رغبة الصين في تخصيص موارد للمناطق التي تشهد صراعات من دون توقع بعض المردود.
ليس لدى الصين تاريخ طويل في تقديم مساعدات خارجية واسعة النطاق إلى الشرق الأوسط. خلال الحرب الباردة، عندما كانت الصين تُعاني من نقص في السيولة، حاول قادتها التنافس مع الهبات الأميركية والسوفياتية من خلال تصميم نموذج بديل. عندما كانت القوى العظمى تقدم كميات كبيرة من المساعدات التقنية والعسكرية، كانت بكين ترى أن تلك الهدايا جاءت مع توقعات بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية لصالح المانح. وعلى النقيض من ذلك، فإن “المبادئ الثمانية للمساعدات الاقتصادية والتكنولوجية الأجنبية” التي ذكرها رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي خلال رحلة قام بها في 10 دول إفريقية في العام 1963 والعام 1964، دعت الصين إلى عدم إدخال أي شروط سياسية للمساعدات الخارجية. كانت بكين تميل إلى تقديم قروض من دون فائدة بدلاً من تقديم هدايا بشكل كامل – حيث أن شرط القرض الوحيد هو وعدٌ بإعادة دفعه وإعادته للصين.
وحتى في الفترة التي تفيض فيها الخزينة الصينية بالعملة الأجنبية، فإن وسائل الإعلام الحكومية تُحب أن تشير إلى مبادئ تشو كدليل على نوايا الصين الطيبة في الخارج. في السنوات الأخيرة، إتخذت المساعدات الإنمائية الصينية بشكل عام شكل الاستثمار من قبل الشركات المرتبطة بالدولة أو الشركات شبه العامة، وكثيراً ما تم تقديمها كمشاريع مشتركة بين الشركات الصينية والمحلية. ولكن هذا أدى إلى تصاعد أعباء الديون، خصوصاً في البلدان المستهدفة بجميع الاستثمارات الآتية من مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”. وقد حذّرت كرستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، الصين أخيراً من أن العديد من البلدان سيكافح ويعاني من أجل سداد هذه الديون.
من العدل أن نتساءل، إذن، عما إذا كانت الشركات الصينية تتطلع إلى سوريا باعتبارها فرصة “شراء متدنية” في النهاية. إن رأسمالية الكوارث ليست ظاهرة جديدة في العالم العربي. خلال حرب لبنان في العام 2006، كان المستثمرون الخليجيون يتطلعون بفارغ الصبر إلى فرص إعادة الإعمار في بيروت. لكن حجم الدمار غير المسبوق للحرب السورية يثير المخاطر لما سيحدث عندما تنتهي الحرب في نهاية المطاف – وبدأت بكين تشير إلى أنها مستعدة للتفكير في ما ستبدو عليه سوريا بعد الحرب. لقد بدأت وسائل الإعلام الحكومية الصينية نغمة مؤيدة للرئيس بشار الأسد وهي تتحدث عن عودة المدنيين إلى ما يسمى بالمناطق الهادئة، والمعارض الفنية التي تبشر بعودة “الروح الثقافية” إلى دمشق، والجهود المبذولة من أجل “إعادة تأهيل” المدارس في مناطق البلاد التي عادت مرة أخرى إلى سيطرة النظام.
ولكن حتى من خلال التلميح إلى تمويل إعادة إعمار سوريا، فإن بكين ستخاطر بإثارة التوازن الدقيق الذي إكتسبته في الشرق الأوسط. لقد حاولت الصين أن تقدم نفسها كوسيط محايد بين إيران وخصومها العرب، لكن النظامين السعودي والإماراتي غاضبان من علاقة الصين الوثيقة مع طهران. في إفتتاح منتدى التعاون بين الصين والدول العربية، أصدر رئيس وفد الإمارات العربية المتحدة بياناً مشؤوماً يُدين “الإرهاب” الإيراني في العالم العربي — وهو تحذير خفي، ربما، بأن الدول العربية لن تتسامح مع الدعم الصيني الصريح للأسد، أحد حلفاء إيران الرئيسيين.
كان جين بينغ خطط فعلياً لمتابعة ما جرى في المنتدى من طريق السفر إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث يمكن أن يخفف ويهدّىء أي توترات طفيفة. في أول رحلة خارجية له منذ أن بدأ فترة رئاسته الثانية كرئيس للصين في شهر آذار (مارس)، قام شي برفع العلاقة الصينية – الإماراتية بشكل رسمي مع وضع “شراكة إستراتيجية شاملة”، وهو الترتيب الذي تتمتع به الصين منذ العام 2016 مع كل من المملكة العربية السعودية وإيران. إن الصياغة الرسمية لاتفاقية الشراكة تُلزم بكين وأبوظبي بشكل غامض بتبادل “الخبرة والمعلومات حول مكافحة الإرهاب”. وعلى الرغم من أن الحكومتين لديهما بلا شك تفسيرات متباينة حول ماهية الإرهاب، فإن هذه اللغة قد تساعد على تهدئة القادة الإماراتيين القلقين إزاء إيران.
كما كان الهدف من زيارة شي القصيرة هو إرسال رسالة حول البراعة التكنولوجية الصينية. وقد أشاد مسؤول إماراتي رفيع المستوى علناً بتقدم الصين في مجال الذكاء الإصطناعي في منتدى إقتصادي في أبو ظبي، متعهداً بأن تتعاون الإمارات مع أكبر شركات الإتصالات الصينية. ومن بين الإتفاقات الثلاثة عشر والمذكرات التي وقّعها جين بينغ في الإمارات العربية المتحدة، إجتذبت أكبر قدر من الاهتمام خطة إستثمارية لصندوق طريق الحرير الصيني لشراء حصة كبيرة في مشروع إماراتي جديد يهدف إلى بناء أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم.
لكن كل الحديث في أبو ظبي عن الذكاء الإصطناعي والطاقة الخضراء يعكس أيضاً حقيقة أن قادة الصين يرون التكنولوجيا كموضوع آمن غير سياسي. ووسط التوترات المتفاقمة في منطقة الخليج، لا تزال الحكومة الصينية غير راغبة في الدخول في مناقشات صعبة حول علاقاتها مع سوريا وإيران، مفضلة بدلاً من ذلك توجيه الاجتماعات في اتجاه غير مثير للجدل. إن المسؤولين الصينيين يعرفون بالتأكيد أنهم لا يستطيعون فعل ذلك إلى الأبد. في الوقت الراهن، مع ذلك، يبدو أنهم راغبون في المحاولة.

• كايل حداد-فوندا زميل في جمعية السياسة الخارجية، حيث يعمل كمنتج مشارك في سلسلة وثائق “القرارات الكبرى” على شبكة “بي بي أس”. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الشرقية من جامعة أكسفورد، حيث كان باحثاً في كلية “رودِس”. وهو معلق دائم على علاقات الصين بالشرق الأوسط، وقد ظهرت مقالاته في منشورات مثل “تقرير الشرق الأوسط” و”فورين بوليسي”.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى