فصولٌ في الهوِيّة والحقيقة اللبنانية

هنري زغيب*

الصديقُ الإِعلاميُّ الناشر أَنطوان سعد (“دار سائر المشرق” وفيها أَصدر هذا الأُسبوع الطبعة العادية من ترجمتي “نبي” جبران بعد صدور طبعته الفنية في منشورات “مركز التراث اللبناني” لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) جمعَني ذات أُمسيةٍ من الأُسبوع الماضي بنخبة ممتازة ثقيفة من أَصدقائه وروَّاد حلقاته الثقافية والوطنية.. وبين مواضيع متعدِّدة دار عنها الحديث، لفتَني اهتمامُهم عُمقيًّا بموضوع الهوية اللبنانية والحقيقة اللبنانية في هذا الزمن العاهر الذي يَشهد كثيرين يعمَلون عمدًا أَو جهلًا على تشويه تلك الهوية وطمس هذه الحقيقة.

صارمًا كنتُ في تأْكيدي: لا خوف من تشويهٍ ولا من طمس.. مَن ذا يُشوِّهُ هويةً وسْعَ الدنيا بحضارتها الساطعة وتاريخها العميق؟ ومَن ذا يطمس حقيقةً أَثبتَت منارتَها عبر العصور وهي تشعُّ في فضاء روحي لا حدود له زمانًا ولا مكانًا.

400 سنة من الاحتلال العثماني ولم “يَتَعَثْمَنْ” لبنان.. ثم 23 سنة من الانتداب الفرنسي ولم تَضِع هوية لبنان اللبناني.. فمن ذا يتنطَّح لتشويه هويتي وطمس حقيقتي اللبنانية؟

أَقول “الهوية اللبنانية” وأَقصد الانتماء.. وأَقول “الحقيقة اللبنانية” وأَقصد الإِيمان.. أَقولهما وأَعرف أَنَّ في بلادنا أَجيالَ مواطنين يحملون “بطاقة” الهوية ولا يستحقُّونها لأَنهم يكفرون بها، ويعملون على تغيير الحقيقة اللبنانية لعجزهم أَن يستوعبوها بانتماءَاتهم الأُخرى ومنها خارج الوطن.. لكن بطاقة الهوية لا تعني عُمق الهوية، والحقيقة اللبنانية تاريخًا وحضارةً أَكبرُ من أَنفار يُنكرونها بعقائدهم المستورَدة.

هؤُلاء “الأَدالجة” و”الأُدلُوجيون” و”المتأَدلجون” زبَدٌ زائفٌ زائلٌ على ظهر الموجة، ومهما استطال عبثُهم لا بدَّ أَن تهبطَ الموجة وتتكسرَ على صخور الحقيقة اللبنانية ويذوبَ زبَدُهم تحت أَقدام الواقفين على الشاطئ محدِّقين بعيونٍ قويةٍ في شمس لبنان اللبناني.

أَسعدَتْني حماستُهم النقية، أُولئك الشباب المثقَّفون في سهرة أَنطوان سعد، عند تلك الشرفة المطلَّة على مرفإِ فاجعة 4 آب.. ومن تلك الشرفة رُحنا نتداول كيفَ منذ تلك الفاجعة، وسواها من قَبل ومن بَعد، يعمل الطقم السياسي على تهشيم صورة الوطن بسُلطةٍ دينوصوريَّة متسلِّطة على رقاب الدولة بأَزلام ومحاسيب وفشَل سافل في إِدارة البلاد محليًّا وخارجيًّا، ماليًّا واقتصاديًّا ومصيريًّا، وهُم، هُمُ الذين من نسْل إِلى نسل أَوصلوا البلاد إِلى ما بها من مهالك كارثية ينوءُ المواطنون تحتها “ويَربَخ” على رقابهم ساستُها فيهشِّمون الدولة بسُلطتهم الفاشلة الخائنة، لكنهم لا يطالون هَيبة الوطن التاريخية الخالدة المتواصلة في الزمان فوقَ كل سُلطة مصيرُها أَن تزول، وأَعلى من كل دولة قدَرها أَن تدُول.

وما الحل؟ سأَلوا.. وهل من جَدوى لعمل النُخَب الثقافية؟

طبعًا، حسَمتُ.. النُخَب الثقافية (خارج الكرنفالات السياسية) هي القادرة على التغيير حين ليست حبوبَ مسبحة بين أَصابع زعماء تفريقيين أَنانيين مصلحجيين.. عندها يكون صوتُها أَقوى لأَنه طالع من الجذور لا من الأَغصان الطارئة والمستورَدَة، وعندها يتشجَّع الـ50% ممن لم يقترعوا في الانتخابات الأَخيرة فيذهبون إِلى صناديق الاقتراع لغايَتَين: معاقبة “بيت بو سياسة” الحاليين بطَردهم القاسي من صناديق الاقتراع، واختيار مرشَّحين جُدُد لم يَتَلوَّثوا بجراثيم مَن حوَّلوا لبنان شحَّادًا على أَرصفة الدول “المانحة”.

وسأَل الشبابُ كما ببعض تشكيك: هل من أَملٍ في اجتراح بداياتٍ للغد؟ وكيف؟ جزَمتُ: بل أَملٌ أَكيد.. لا بُدَّ أَن يبدأَ كلٌّ منا في محيطه فتتَّسعَ الدائرة من الإِيمان العميق بأَنَّ مَن هُم أَبناءُ بيبلوس وصور وصيدا وبعلبك وطرابلس طالعون من جُذور التاريخ ليكْمِلوا صُنع الغد الـمُشرق في وطنٍ لهم ساطعٍ على الصفحة الأُولى الـمُكرَّسة من كتاب التاريخ.. مجدُ الوطن لا يُبْنى في ومضةٍ من زمن بل في حياكةِ الأَيام الصالحة تباعًا فلا يعودُ يَقوى عليها طارئون زَبَديون، زائلون مهما طال نُكرانُهُم جذورَ الهوية أَو أُصولَ الحقيقة اللبنانية.

هو هذا ما كان في نهاية السهرة.. وارفَضَّ لقاؤُنا على يقينِ هؤُلاءِ الشبابِ المؤْمنين أَن يكون كلٌّ منهم رسولًا في بيئته حتى نُؤَسس غدًا للبنانٍ يعتزُّ أَبناؤُه بانتمائهم إِلى هُويته الخالدة، ويؤْمنون فيه بنهائية الحقيقة اللبنانية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى