إيران وتركيا… لاعبان صغيران في منطقة مضطربة

على مدى عقود، لعبت الولايات المتحدة وروسيا دوراً رئيسياً في تشكيل المنطقة وما زالتا تمارسان نفوذاً كبيراً حتى اليوم كما يشرح ويوضح الصحافي المخضرم الإيراني الأصل أمير طاهري في المقال التالي:

وزراء خارجية تركيا )مولود جاويش أوغلو(، روسيا )سيرغي لافروف( وإيران )محمد جواد ظريف(: الحلف الثلاثي الذي إنهار قبل أن يبدأ.

بقلم أمير طاهري *

بعد شهر عسل ديبلوماسي قصير غلبت عليه الدعاية والأمنيات الطيبة، يبدو أن العلاقات بين إيران وتركيا قد وصلت إلى مستوى منخفض جديد مع تبادل طهران وأنقرة الإتهامات والتهديدات. من جهتها تدّعي طهران أن أنقرة تحمل طموحات إمبراطورية عثمانية جديدة مع أحلام السيطرة على العراق وسوريا. من جانبها تتهم أنقرة طهران بالعزف على الأوتار الطائفية لخلق إمبراطورية صغيرة في المشرق العربي مع إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
من السابق لأوانه القول كيف يمكن أن تكون نتيجة هذا التوتر الإقليمي الجديد. ولكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً: في إختيارهما المواجهة فإن كلا الجانبين يتصرّف ضد تقليد حسن الجوار الذي يعود إلى أوائل القرن العشرين.
في التاريخ المُتقلّب لعلاقات إيران مع الجيران في القرن الماضي، بقيت العلاقات مع تركيا دائماً إستثناءً. بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت الدولتان، اللتان إنهكتهما حروب طويلة ضد بعضهما على مدى الـ200 سنة الماضية، إمبراطوريتين هرِمتين تترنحان من جراء جروح النضال الطويل ضد الإستعمار الأوروبي والإمبريالية الروسية – التي إستولت منهما على أجزاء شاسعة من الأراضي.
في عشرينات القرن الفائت، قررت تركيا الجديدة تحت حكم مصطفى كمال أتاتورك وإيران الجديدة بقيادة رضا شاه بهلوي تحويل عداء الماضي إلى صداقة للمستقبل من خلال التوقيع على ميثاق “سعد أباد” لعدم الإعتداء والدفاع الممشترك ضد الأعداء الخارجيين.
وقد إنضمت الدولتان بعد ذلك إلى حلف بغداد الذي ضم أيضاً العراق الجديد الذى إستقل حديثاً، وبعد خضوع بغداد لنظام عسكري مؤيد للسوفيات، تمّ تشكيل “ميثاق المعاهدة المركزية” أو “سينتو”، وهو تحالف عسكري آخر ضم باكستان وبريطانيا العظمى مع الولايات المتحدة كعضو منتسب.
وبحلول نهاية خمسينات القرن الفائت كانت العلاقات الايرانية – التركية تُبحر في أفضل أحوالها. كان يمكن لسفير تركي في طهران أن يشعر بسهولة أنه في عطلة طويلة بينما كان زميله الايراني في أنقرة في الغالب شخصية بارزة أُرسِلت إلى هناك للتقاعد المريح.
وحتى أن إستيلاء رجال الدين على السلطة في طهران في العام 1979 لم يهزّ الأسس المتينة للعلاقات القديمة بين البلدين. وفي حين فرضت جميع الدول تقريباً أو أعادت فرض تأشيرات دخول على الإيرانيين، فقد أبقت تركيا أبوابها مفتوحة أمام الزوار واللاجئين من إيران.
على مدى العقود الأربعة الماضية، عَبَر تركيا ما لا يقل عن نصف الإيرانيين البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة الذين فرّوا من البلاد منذ وصول رجال الدين إلى السلطة. وحتى اليوم، تستضيف تركيا أكثر من مليون مواطن إيراني من الذين يعيشون ويعملون هناك تحت وضعية غامضة بين لاجئين ومقيمين مؤقتين. ومرة أخرى، ومنذ إستيلاء الملالي على السلطة، كانت تركيا تُعتبَر الوجهة السياحية الأولى بالنسبة إلى الوافدين الإيرانيين.
الأهم من ذلك، ربما، كانت مساعدة تركيا لإيران على التغلب على العديد من العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية من قبل القوى الغربية بسبب تورّط طهران في الإرهاب والتطور المزعوم للأسلحة النووية.
وقد ردّت إيران الجميل من خلال مساعدة تركيا على إبقاء أكرادها المضطربين تحت المراقبة والسيطرة، ومنع الأكراد العراقيين من الإنفصال الكامل الذي يُمكن أن يسبّب تموجات وإهتزازات لدى الأقليات الكردية في بقية المنطقة.
وقبل بضعة أشهر فقط، كان بعض المراقبين الغربيين يتحدث عن محور جديد بين طهران وأنقرة وموسكو لإعادة تشكيل تحالف لم يكن أحد يتوقع أن ينهار قبل أن يتشكل بصورته الكاملة على أرض الواقع. وقد حدث ذلك الآن. مع رحيل إدارة أوباما، فإن تركيا، على ما يبدو، قررت إعادة ربط العقدة مع حليفتها الأميركية القديمة.
أعلنت ادارة الرئيس رجب طيب أردوغان عن فرض عقوبات جديدة على روسيا بما في ذلك فرض حظر على السفن الآتية من الموانئ الروسية في بحر آزوف مما حوَّل روسيا الى دولة غير ساحلية.
في الوقت عينه، فإن إحتمال قيام الولايات المتحدة بإنشاء تحالف جديد مع طهران تحت إدارة فصيل “معتدل” من رجال الدين لم يعد أحد يأخذه على محمل الجد. قد تكون إدارة ترامب الجديدة على إستعداد كامل لإعادة تشكيل ملامح سياستها الخارجية الجديدة، ولكن من غير المرجح أن تعقد أي آمال تُذكر على أن تغيّر طهران من سلوكياتها تحت مظلة الفصيل المعتدل الذي لم يكن سوى محض وهم كبير في مخيّلة الرئيس السابق أوباما.
ومع ترجبح عودة الولايات المتحدة مرة أخرى كدولة قومية تسعى إلى ضمان مصالحها العالمية بدلاً من أن تكون أداة لأوهام إيديولوجية (كما كان الحال مع أوباما)، فإن القوة الأميركية قد تصبح مرة أخرى عاملاً رئيسياً في تحقيق الإستقرار في المنطقة المضطربة.
وعلى الرغم من سلوك ترامب، يبدو أن أنقرة تعتقد أن أميركا مستعدة للعودة كقوة جدية ونافذة إلى الشرق الأوسط. في هذه الحالة، لن تكون تركيا بحاجة إلى تحالفات مشبوهة مع عدو قديم مثل روسيا أو صديق متقلب مثل إيران.
ويركز خط التفكير الحالي في تركيا على أمل أنه بمجرد أن يحقق أردوغان هدفه المتمثّل في فرض دستور جديد من خلال إستفتاء عام، ستكون له يد حرة للسعي إلى مكانة مهمة لتركيا في تجمع إقليمي جديد يضم الولايات المتحدة و حلفاءها في الشرق الأوسط.
ومع بدء خروج باكستان أيضاً من خلف السياج المفروض عليها، فإن آفاق تحالف واسع النطاق يشمل “قوس الأزمة” من شبه القارة إلى المحيط الأطلسي صار أكثر جدية.
وهذا يمكن أن يترك إيران أكثر عزلة من أي وقت مضى وأكثر إعتماداً على حسن نية روسيا. بيد أن صناع السياسة الإيرانيين يعرفون أن روسيا لن تقبل أبداً بإيران كشريك على قدم المساواة.
من خلال فرض سيطرة حصرية على الملف السوري دعماً لفصيل الرئيس بشار الأسد، تأمل روسيا في حرمان إيران من البطاقات والمزايا التي يمكن أن تلعبها في الدولة العربية التي مزّقتها الحرب.
إذا، كما يبدو أن أنقرة تفكر، عادت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط في وضع قيادي ومؤثر، فإن أكثر ما يمكن أن تتطلع إليه تركيا هو إحتلال المرتبة الثانية أو الثالثة في شؤون المنطقة. وهذا يعني القول وداعاً لأية أحلام عثمانية جديدة التي راودت أردوغان ورعاها بعناية.
وإذا تمكّنت روسيا من تأمين كرسي جانبي على الطاولة المفترضة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، فإن آخر شيء يريده الرئيس فلاديمير بوتين هو تعلق أحد ملالي إيران المراوغين في ذيل معطفه.
بعبارة أخرى، إن تركيا وإيران قد تنتهيان إلى تخريب علاقاتهما القديمة مقابل مكافآت ضئيلة بما في ذلك لعب دور التابع لأميركا أو روسيا. إن أحلام الإمبراطورية يمكن أن تكون لها عواقب مأسوية، وبخاصة بالنسبة إلى لاعِبَين صَغيرَين يتنافسان في لعبة خطيرة وقاتلة.

• أمير طاهري كان رئيساً لتحرير صحيفة كيهان في إيران من العام 1972 إلى العام 1979. وقد عمل أو كتب في مطبوعات عدة، ونشر أحد عشر كتاباً، وهو كاتب عمود في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية منذ العام 1987. فاز بالعديد من الجوائز الصحافية، وفي العام 2012 سُمّي صحافي العام الدولي من قبل الجمعية البريطانية للمحررين وجمعية الصحافة الأجنبية في المهرجان السنوي لتوزيع جوائز الإعلام البريطانية.
• كُتب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى