لماذا ما زالت منطقة اليورو تدعم عملتها المُشتَرَكة؟

إحتفل اليورو في بداية الشهر الجاري بالذكرى الخامسة عشرة على إصداره بعدما مرّ بفترة صعبة خصوصاً في السنوات الأخيرة الأمر الذي دفع ببعض الخبراء إلى توقع زواله قريباً. ولكن مع ذلك فإن المواطنين في منطقة اليورو ما زالوا يدعمونه بشكل كبير لأن البديل سيىء بالنسبة إليهم كما يشرح التقرير التالي:

البنك المركزي الأوروبي: الإشراف على إصدار اليورو والمحافظة عليه من مهماته.
البنك المركزي الأوروبي: الإشراف على إصدار اليورو والمحافظة عليه من مهماته.

بروكسل – ميشال مظلوم

اليورو الذي وصل إلى شوارع أوروبا في 1 كانون الثاني (يناير) 2002، إحتفل أخيراً بالذكرى ال15 على إنطلاقته. ومن المحتمل أن يكون صمود العملة الطويل قد شكّل مفاجأة لكثيرين من المراقبين الذين توقّعوا زوالها. ومع ذلك فإن غالبية المواطنين في منطقة اليورو – على حد سواء في الدول الدائنة في الشمال والبلدان المدينة في الجنوب — تفضّل الحفاظ على اليورو على العودة إلى العملات الوطنية السابقة.
والسؤال هنا: ما هو التفسير للتأييد الشعبي الكاسح لليورو رغم الصعوبات التي يواجهها منذ فترة؟ الجواب النموذجي هو أن الناس لا يريدون التخلي عن اليورو لأنهم يخشون من التكاليف ويشعرون بالقلق وعدم اليقين من العودة إلى العملات التي كانت مُستخدَمة قبل إصداره. هذا التفسير منطقي، لكن هناك أيضاً أسباباً إيجابية لشعبية اليورو: لقد جلبت العملة الموحّدة إلى مستخدميها مزايا مادية وساعدت على خلق هوية أوروبية مشتركة. إن الأوروبيين لا يدعمون اليورو ببساطة لأنهم يخشون من البدائل، ولكن لأن الوضع الراهن يُقدّم لهم مكافآت وفوائد حقيقية.

قلق الإنفصال

كان المراقبون خارج منطقة اليورو لفترة طويلة ينظرون بشكل مُظلم ومتشائم إلى آفاق وإحتمال بقاء اليورو. قبل خمس سنوات، في كانون الثاني (يناير) 2012، كتب الإقتصادي الأميركي مارتن فيلدشتاين – الذي جادل في العام 1997 بأن العملة الموحدة الأوروبية ستجلب الصراع إلى أوروبا- في “فورين أفيرز” بأنه “يجب الإعتراف الآن بأن تجربة اليورو قد فشلت”. بعد بضعة أشهر، كتب الإقتصادي الأميركي الآخر الحائز على جائزة نوبل بول كروغمان بأن اليورو قد ينهار “في غضون أشهر”. وقائمة الإقتصاديين البارزين الذين إما توقعوا أو دعوا إلى تفكك منطقة اليورو صارت طويلة جداً منذ ذلك الحين. في العام 2016، قال ميرفن كينغ، المحافظ السابق لبنك إنكلترا المركزي، أن “مغادرة منطقة اليورو قد تكون السبيل الوحيد لرسم طريق العودة إلى النمو الإقتصادي”، وإدّعى الإقتصادي الأميركي والحائز أيضاً على جائزة “نوبل” جوزيف ستيغليتز أن “أوروبا قد تضطر إلى التخلي عن اليورو لإنقاذ … المشروع الأوروبي”. مثل هذه الآراء القاتمة لم تتوقف فقط على أبرز خبراء الإقتصاد: لقد تقاسمها العديد من خبراء السياسة في الإتحاد الأوروبي، مثل أندرو مورافشيك، الذي يؤمن بالمثل بأن اليورو قد قسّم القارة وجلب الركود الإقتصادي وإرتفاع البطالة في منطقة اليورو الجنوبية.
للوهلة الأولى، هذه التحليلات — جنباً إلى جنب مع صعود التشكيك بأوروبا في جميع أنحاء القارة — يبدو أنها تشير إلى أن اليورو هو مشروع لا يحظى بشعبية على نطاق واسع. في الواقع، في جميع أنحاء منطقة اليورو، فقد ظل الدعم الشعبي للعملة الموحَّدة عالياً على مدى السنين العشر الماضية، على الرغم من الأزمات الإقتصادية في أوروبا. في العام 2007، كان نحو 70 في المئة من المواطنين في منطقة اليورو يرون العملة بشكل إيجابي، وفقاً لمسح “يوروباروميتر”. وإنخفضت هذه النسبة إلى أدنى من 62 في المئة في العام 2013 بعد الذعر الاول من خروج محتمل لليونان من منطقة اليورو، أو “غريكسيت” — لكن بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، التاريخ الأخير التي تتوافر فيه بيانات، فقد عادت النسبة إلى 70 في المئة، وهي تاريخياً عالية. في اليونان، التي شهدت أسوأ الإضطرابات الاقتصادية في أوروبا، إرتفع الدعم لليورو من 47 في المئة في العام 2005 إلى 70 في المئة في العام 2015، مباشرةً بعد ذعر “غريكسيت” الثاني. في المقابل، في دول الإتحاد الأوروبي خارج منطقة اليورو، إنخفض الدعم لليورو خلال الفترة عينها، من 56 في المئة إلى 37 في المئة، في إشارة واضحة إلى أن الناس داخل الإتحاد النقدي وخارجه ينظرون إلى اليورو بشكل مختلف.
للتأكيد، إن بعض الدعم في منطقة اليورو للعملة الموحّدة يأتي من الخوف من عواقب التخلي عنها. واحدٌ من الخبراء الذي كان أول من خاض في هذا الموضوع هو الإقتصادي الأميركي باري آيكينغرين، الذي عرض المشاكل التي ستواجه البلدان التي ستخرج من منطقة اليورو في ورقة عمل في العام 2007 للمكتب الوطني للبحوث الإقتصادية. في دراسة آيكينغرين، كانت تكاليف الخروج مخيفة. الدول المدينة مثل إيطاليا سوف تُخفَّض تصنيفاتها الإئتمانية إذا تخلّت عن العملة الأوروبية الموحدة، وتُرفَع الفائدة التي سيتعيّن عليها أن تدفعها على الديون الجديدة إلى مستويات باهظة الأمر الذي يجعل التخلف عن الدفع لا مفر منه تقريباً. ولزيادة الطين بلة، في كثير من الحالات، فإن تخفيض قيمة العملة الناجم عن العودة إلى العملة القديمة سوف يفشل في تحفيز الطلب المحلي المجدي أو زيادة الصادرات، فيما زحف التضخم الناجم عن إرتفاع تكاليف الواردات والأجور ربما يعوّض أي مكاسب في القدرة التنافسية. هذه المشاكل الاقتصادية سوف تتفاقم بأخرى سياسية، فيما حكومات الإتحاد الأوروبي الأخرى سوف تشن هجوماً على دولة تحاول مغادرة منطقة اليورو، وربما إجبارها على الخروج من الإتحاد الأوروبي تماماً. إن الانسحاب من اليورو يتطلب أيضاً مناورات قانونية وتقنية مكلفة – من طرح عملة جديدة تماماً وإعادة تقييم العقود فيها لفرض ضوابط للحد من هروب رؤوس الأموال. ويمكن أن تكون النتيجة أزمة مالية ضخمة في البلاد المتخلية عن اليورو. ولا عجب في أن كثيرين من الناس في منطقة اليورو لا يريدون تركها.

غراء اليورو الإجتماعي

مع ذلك، يريد المواطنون في منطقة اليورو أيضاً البقاء في الإتحاد النقدي لأنه يوفّر لهم فوائد. وعلى الرغم من الركود الإقتصادي، فإن العديد من الأوروبيين في منطقة اليورو الجنوبية يعتقدون أن الإتحاد الأوروبي واليورو يقدّمان قدراً من الإستقرار الديموقراطي والأمن اللذين لا تستطيع مؤسساتهم الوطنية تقديمهما. في هذه المنطقة، يبدو أن معظم المواطنين يعيدون سبب المشاكل الإقتصادية في بلدانهم إلى مصادر محلية، مثل النخب غير الكفوءة، وأنظمة التعليم الضعيفة، وعدم الجدارة والشفافية الرسمية، بدلاً من العملة المشتركة نفسها. على الرغم من أن الإحترام الشعبي لمؤسسات الاتحاد الأوروبي إنخفض في أعقاب أزمة منطقة اليورو، فإن الثقة في المؤسسات الوطنية في منطقة اليورو الجنوبية قد إنخفضت أكثر. وما هو أكثر، في دول مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا، التي إنتقلت إلى الديموقراطية نسبياً حديثاً، تعاني من عدم المساواة والفساد أكثر من أقرانها في شمال أوروبا، لذا فإن متطلبات اليورو كانت بمثابة قيود على النخب المحلية المفترسة.
ربما لا ميزة لجاذبية اليورو بالنسبة إلى الناس في منطقة اليورو الجنوبية بقدر ما يفعله إستقراره. قبل إدخال العملة الموحدة، كان العديد من مواطني بلدان البحر الأبيض المتوسط يخبئون الكثير من ثرواتهم في العملات الأجنبية المستقرة، مثل الدولار الأميركي والمارك الألماني، إن أمكن في الخارج، لأنهم كانوا يخشون من أن تقوّض التقلبات في قيمة عملات بلدانهم مدّخراتهم. بعضهم فعل ذلك مرة أخرى في ذروة أزمة اليورو في 2011 و2012، عندما كان الخطر من إعادة تقييم اليورو في ذروته فيما كانت إسبانيا وايطاليا تحت الضغط. ومع ذلك، ظل اليورو في الغالب مستقراً على الرغم من الأزمة، ورفع عموماً الضغط عن الاوروبيين لإقتناء العملات الأجنبية. وقد ساعد إستقرار اليورو ضمان مدخرات المتقاعدين، التي لم تكن العملات القديمة تستطيع ضمانها. وأزال مخاوف أصحاب الشركات من تخفيض قيمة العملة. ومكّن أفراد الطبقة الوسطى من وضع عملة قوية في جيوبهم عند السفر إلى الخارج، تماماً مثل أقرانهم الأميركيين والبريطانيين. وهذه كلها أسباب إيجابية لدعم العضوية في الإتحاد النقدي.
في منطقة اليورو الشمالية، أيضاً، يُثمّن المواطنون الإستقرار الذي تقدمه العملة الموحّدة. لم يعد المصدّرون هناك يخافون من أن منافسيهم في إيطاليا وفرنسا قد يستفيدون من إنخفاض قيمة الليرة أو الفرنك. كما أن السياح من الطبقة المتوسطة من دول مثل ألمانيا لن يصيبهم بعد الآن القلق بشأن تحويل العملة عند السفر إلى إيطاليا أو اليونان.
وبدورهم يُثمِّن المواطنون في في منطقتي اليورو الشمالية والجنوبية إستقرار العملة لأسباب مختلفة. ولكن في كلا المنطقتين، فإن الناس يعتبرون اليورو رمزاً ملموساً للتكامل الأوروبي. في الواقع، إن العملات ليست مجرد ظاهرة إقتصادية، هي أيضاً ثقافية، ويمكنها أن تساعد على بناء هوية مشتركة. من خلال عمله كوسيلة يومية لملايين التبادلات، فقد أصبح اليورو تدريجاً رمزاً مُشتَرَكاً. وكما قال خبير الإجتماع السياسي جيوفاني مورو، فإن اليورو هو “اللغة المشتركة الوحيدة الموجودة” في إتحاد يتميز بنشاز لغوي. وقد عززت التجربة التي عاشها المواطنون خلال الأزمة الإقتصادية منذ 2009 في منطقة اليورو هذه اللحمة، ووحّدتهم ضد ما كان يعتبره عديدون هجمات المضاربين الأجانب. إن مواطني الإتحاد الأوروبي إستخدموا اليورو بطريقة تختلف عن تلك التي لأقرانهم خارج منطقة اليورو. وهذا قد يساعد في تفسير لماذا يجد الغرباء عن منطقة اليورو في كثير من الأحيان صعوبة في فهم دواخلها.
كان اليورو نوعاً من الغراء الإجتماعي على الرغم من أن العديد من الأوروبيين يختلفون حول إدارة الإتحاد الأوروبي للعملة الموحّدة. في الواقع، وجد أستاذ العلوم السياسية الإلماني توماس ريس أن المناقشات البرلمانية والمؤسسات الإعلامية غطت برامج مماثلة في أنحاء دول منطقة اليورو خلال أزمة اليورو – وهي علامة على أن الناس في جميع أنحاء منطقة اليورو شهدوا صدمات إقتصادية معاً. المواجهة كامنة في أي مجتمع سياسي، وحتى الخلافات حول سياسة اليورو يمكن أن تساعد على بناء اللحمة، لأنها تساعد على جعل النقاش العام أوروبياً. إن العملة الموحدة ولّدت توترات بين جنوب أوروبا وشمالها ويسارها السياسي ويمينها، ولكن هذا ليس بالضرورة أمر سيّئ.
في نهاية المطاف، إن مرونة قيمة اليورو على الرغم من تعرضه لأزمة وجودية قد تكون عزّزت الثقة الشعبية في العملة — ليس فقط في منطقة اليورو الجنوبية، التي إعتادت على تقلبات العملة، ولكن أيضاً في الشمال، حيث يخشى الناس منذ وقت طويل أن ينمو اليورو ضعيفاً. في عالم غير مؤكد وغير مستقر، فإن المال المستقر يمكن أن يكون رمزاً قوياً للثقة الإجتماعية والأمن. الأوروبيون ليسوا في حالة حب مع اليورو، ولكن على الرغم من مقترحات المنافسين الشعبويين، مثل مارين لوبان وبيبي غريللو وغيرهما، فإنهم لا يريدون التخلص منه أيضاً — وهناك الكثير من الأسباب الإيجابية لماذا كان الأمر كذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى