مَوثُوقِيَّةُ واشنطن كشَريكٍ استراتيجي على المِحَكّ

كابي طبراني*

كانَ هناكَ ارتياحٌ واضحٌ بين المُشَرِّعين الأميركيين في 20 نيسان (أبريل)، عندما أقرَّ مجلس النواب أخيرًا، بعد أشهرٍ من الشَلَل، حُزمةَ مساعداتٍ بقيمة 61 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا في حربِ البقاء ضدّ روسيا. ووافق مجلس الشيوخ بدوره في 23 نيسان (أبريل) على مشروع القانون، ومن ثمَّ وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن سريعًا حيث أصبح الآن قانونًا.

منذ تشرين الأول (أكتوبر)، أشارت المُحاولاتُ المُتَكَرِّرة من جانبِ النوابِ وأعضاءِ مجلسِ الشيوخ الجمهوريين الإنعزاليين المتحالفين مع الرئيس السابق دونالد ترامب، (الذين يُعرَفون ب”ماغا”)، لوَقفِ المساعدات المُقَدَّمة لأوكرانيا، إلى خللٍ سياسي في الولايات المتحدة. ولكن حتّى مع تحرّكِ المسؤولين الأميركيين الآن بسرعة لتوفير المساعدة العسكرية التي طالَ انتظارها لأوكرانيا، لا تزالُ الأسئلة قائمة حولَ قُدرةِ واشنطن على العملِ كشريكٍ موثوقٍ به لأصدقائها وكخَصمٍ حازمٍ لأعدائها.

اعتمادًا على نتائج انتخابات الرئاسة وأعضاء الكونغرس التي ستَجري في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، سيُؤثّرُ العديدُ من المُتغيّرات الرئيسة بمرور الوقت على قُدرةِ واشنطن للالتزام والقيام بالتزاماتها الاستراتيجية. وبغَضِّ النظر عمّا إذا كان بايدن أو ترامب هو الذي سيخرجُ مُنتَصِرًا مما يَعِدُ بحملةِ استقطابٍ وحشية، فمِنَ المُرَجَّحِ أن يُوَلّدَ المشهدُ السياسي الأميركي المُتقلّب تحدّياتٍ قصيرة ومتوسّطة وطويلة الأجل للحلفاء والشركاء الذين يكافحون ويُعانون في إدارة العلاقات مع واشنطن. في حين أنَّ تأثيرَ الصراعاتِ الحالية والمُستقبلية قد يؤثر في صُنّاعِ القرارِ الأميركيين بطُرُقٍ يَصعُبُ التنبّؤ بها، فإنَّ بعضَ الاتجاهات الناشئة أصبحَ واضحًا بالفعل عندما يتعلّقُ الأمرُ بالتفاعُلِ بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

في المدى القصير على الأقل، تُشيرُ قدرةُ إدارة بايدن على تقديم المساعدة لأوكرانيا مرةً أخرى إلى أنَّ واشنطن استعادت القدرة على التصرّف بفعالية، على الأقل حتى الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر). إنَّ التخلّي عن الجهودِ التي بذلها المُشَرِّعون اليمينيون الانعزاليون، مثل السيناتور تومي توبرفيل، لمَنعِ عملياتِ التعيين الأساسية وتَخصيصِ التَمويلِ التي تحتاجها إدارة بايدن لمُتابعةِ استراتيجيةٍ مُتماسِكة، قد أدَّى أيضًا إلى تقليلِ مدى قدرة الجمهوريين المُتَشدّدين (ماغا) على إضعاف السياسة الخارجية الأميركية بشكلٍ فعّال. مع ذلك، فإنَّ الاستقطابَ العميق في الأشهر المُمتَدّة من الآن وحتى يوم الانتخابات سيُثيرُ المزيدَ من عدمِ اليقين بشأنِ مدى تعرُّضِ الالتزامات الاستراتيجية طويلة الأمد، التي كان الحزبان الأميركيان يدعمانها سابقًا، للتخلّي السريع عنها في مَشهَدٍ سياسيٍّ مُنقَسِم.

وَلَّدَت المعركةُ في الكونغرس حولَ المساعدات المُقدَّمة لأوكرانيا إشاراتٍ مُربِكة حول مدى قُدرةِ إجماعِ السياسة الخارجية بين الحِزبَين في واشنطن على الصمود في وجهِ هجمةٍ إيديولوجية من انعزالية “ماغا” ترامب أو مقاومة المطالب الأكثر اعتدالًا بالتخفيض الجُزئي من قبل ما يُسمّى بـ “المُقَيِّدين” الأكثر توافُقًا مع الجناح اليساري للحزب الديموقراطي. إنَّ تصويتَ جميع المُشَرّعين الديموقراطيين تقريبًا، إلى جانب 101 من الحزب الجمهوري في مجلس النواب و22 في مجلس الشيوخ، لصالح مشروع قانون المساعدات لأوكرانيا يُشيرُ إلى أنَّ أساسَ التنسيقِ بين الحِزبَين لا يزالُ قائمًا وموجودًا عندما يتعلّقُ الأمرُ بتحديدِ المصالح الأمنية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإنَّ استعدادَ 117 مُشَرِّعًا جمهوريًا في مجلس النواب و29 جمهوريًا في مجلس الشيوخ لمُعارَضةِ المساعدات سوفَ يَنظُرُ إليهِ حلفاءُ واشنطن على أنّهُ مؤشّرُ مُثيرٌ للقلق حولَ مدى رسوخِ انعزالية ترامب الشعبوية في جُزءٍ كبيرٍ من المؤسّسةِ السياسية الأميركية.

إنَّ استمرارَ عَدَمِ اليقينِ بشأنِ مدى إمكانية استعادة موثوقية واشنطن في المدى الطويل كشريكٍ يعني أنَّ الصدمةَ الجيوسياسية الناجمة عن الجمود في الكونغرس بشأنِ حُزمةِ المساعدات لأوكرانيا سوف تستمر على الرُغم من انتهاء الجمود نفسه الآن. في حين سيواصلُ الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تعزيزَ الجهود لتحقيق الاعتماد الاستراتيجي على الذات للتحوُّط ضد فوز ترامب، فإنَّ الدولَ القلقة بشأن الطموحات الصينية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، مثل اليابان وتايوان، سوف تُوازنُ زياداتها في الإنفاق الدفاعي مع الجهود المبذولة للجمهوريين المُعادين لبكين. بالنسبة إلى خصوم الولايات المتحدة، فإنَّ نتيجة الانتخابات، التي ستجري في تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي ستشلُّ قدرة واشنطن على إظهار القوة، ستُعزّزُ الآمالَ في إمكانيةِ تقويضِ مصداقية الولايات المتحدة بشكلٍ دائم من خلال السعي إلى التصعيد من خلال العمل العسكري أو السرّي.

مع ذلك، سيكون من الخطَإِ افتراض أنَّ فوزَ بايدن والحزب الديموقراطي في انتخابات العام 2024 يمكن أن يحلَّ فجأةً العوامل الهيكلية التي تُضعِفُ قُدرةَ واشنطن على البقاء لاعبًا جيوسياسيًا موثوقًا به. إنَّ النتيجةَ المُتقاربة التي تُثيرُ اتهاماتٍ بالاحتيالِ من جانب ترامب يُمكِنُ أن تؤدّي إلى زعزعةِ الاستقرارِ السياسي وحتى العُنفِ الصريح الذي من شأنه أن يُضعِفَ قُدرةَ واشنطن على لُعبِ دورٍ عالمي استباقي لأشهرٍ أو حتى سنوات. وحتى النتيجة الأكثر اعتدالًا والتي تعمَلُ على تحييدِ محاولات ترامب لتوليد الفوضى ستظل تؤدّي إلى نجاح ووجود العشرات من أعضاء مجلس الشيوخ وأكثر من 150 عضوًا في مجلس النواب ينتمون إلى جناح “ماغا” الانعزالي في الحزب الجمهوري المُستعد لتخريبِ عملياتِ الحُكمِ الأساسية.

إذا سيطر جناح “ماغا” الإنعزالي بالكامل على الحزب الجمهوري، فإنَّ فوز بايدن لن يُوفِّرَ سوى بضع سنوات من استقرارِ السياسة الخارجية الأميركية في المدى المتوسط، بدونِ حَلِّ المخاطر الجيوسياسية الأكثر رسوخًا. إنَّ السيناريوهات التي يقومُ بها ترامب أو السيناتور جيمس ديفيد فانس أو غيره من الانعزاليين المُتحمّسين لطرد المُشرّعين الجمهوريين المُتبقّين المُلتَزمين بحلف شمال الأطلسي من شأنها أن تجعلَ بقاء الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية يعتمدُ على نتيجةِ كلِّ انتخابات رئاسة وكونغرس. إنَّ البيئة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، حيث تتأرجح التجارة والسياسة الخارجية بشكلٍ كبيرٍ من الانعزالية، إلى المشاركة المُقَيّدة، إلى التدخل الكامل والعودة مرة أخرى، من شأنها أن تؤدّي إلى تراجعٍ سريعٍ في مصداقية واشنطن.

لا يُمكنُ استعادة سمعة الموثوقية إلّا في المدى الطويل من خلالِ إعادةِ بناءِ إجماعٍ واسع بين الحِزبَين حولَ المعايير الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية. إنَّ إعادةَ تشكيلِ إطارٍ مفاهيمي مُشتَرَك لتحديدِ المصالح الاستراتيجية، ومساعدة الحلفاء وردع الخصوم بعد عقودٍ من الاستقطابِ السياسي ستكون حتمًا عملية مؤلمة. والفشل خلال إدارة بايدن الثانية في القيام بذلك من شأنه أن يَضمَنَ عدم إمكانية إصلاح الضرر الذي لحق بسمعة الولايات المتحدة نتيجةً لصعود ترامب.

إنَّ مثلَ هذه العملية الطويلة الأجل لبناءِ الإجماع والتي يُمكِنُ أن تحظى بدَعمِ كلا الحزبين الرئيسيين، وكذلك الناخبين، ستكون أيضًا شرطًا أساسيًا لمعالجة المشاكل الهيكلية الأساسية التي لديها القدرة على إبراز قوة واشنطن على نطاق عالمي. سوف تحتاج الجهود الضخمة لإعادة تجهيز الاقتصاد الأميركي من أجل التحوّلِ الأخضر الجيوسياسي بشكلٍ متزايد إلى الاستمرار بدعمٍ من كلا الحزبين على مدارِ دوراتٍ انتخابية عدّة حتى يكون لها أي تأثير دائم. علاوةً على ذلك، فإنَّ الحالة المُتداعية للبحرية الأميركية في الوقت الذي تَفرُضُ خططُ التوسّعِ البحري لبكين التركيزَ المُتجدّد على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ستتطلّبُ تنسيقًا مستمرًا بين القادة الجمهوريين والديموقراطيين بشأنِ قراراتِ الاستثمار الصعبة عندما يتعلّقُ الأمرُ بموازنات الدفاع المستقبلية.

إنَّ مثلَ هذا الجُهدِ الأوسع لاستعادةِ الإجماعِ بين الحِزبَين حولَ الدفاعِ والسياسة الخارجية داخل النظام السياسي الأميركي سيؤدّي حتمًا إلى إعادة التفاوض على بعضِ معاييره بطرق من شأنها أن تُغيّرَ كيفية تعامُلِ واشنطن مع الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء. إن تهدئة الإحباط بشأن مدى التزامات الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا بين أجزاءٍ من الحزبين الجمهوري والديموقراطي المُنجذبين إلى الانعزالية أو ضبط النفس (التقيُّد) يمكن أن يؤدّي إلى تقليل البصمة العسكرية لواشنطن خارج منطقة المحيطين الهندي والهادئ. في مثل هذه البيئة حيث ثمن التزام واشنطن المستمر تجاه حلف شمال الأطلسي والحلفاء الآخرين من الناحية النظرية يعني تقليل الدور العسكري الأميركي العالمي في الممارسة العملية، سيتعيّن على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة الحفاظ على تركيزهما على الاعتماد على الذات الاستراتيجي في المدى الطويل.

على الرُغمِ من أنَّ الالتزامات تجاه إسرائيل من المُرَجَّحِ أن تَصمُدَ أمام الخلافات الحالية حول الحرب في غزة، إلّا أنَّ الإحباطَ من الديناميكيات الجيوسياسية في الشرق الأوسط في الوقت الذي لم تَعُد الولايات المتحدة تستَورِدُ الكثيرَ من النفط من الخليج يجعلُ تآكُلَ الاهتمام بالمنطقة نتيجة ثانوية مُحتَملة أخرى لإعادة التفاوض على إجماع السياسة الخارجية بين الحزَبين. ومن شأنِ فكِّ الارتباط الأميركي التدريجي أن يُجبِرَ القوى المجاورة مثل الاتحاد الأوروبي والهند على لُعبِ دورٍ أكثر نشاطًا في البحث عن توازُنٍ جيوسياسي جديد في الشرق الأوسط، في وقتٍ يقومُ العديد من اللاعبين المحلّيين بتنويع محافظهم الاستثمارية عندما يتعلّقُ الأمر بالشركاء الدوليين بما في ذلك الصين وروسيا.

وكانت المناقشات الشرسة حول الهجرة ومراقبة الحدود التي تُحَرِّكها شعبوية “ماغا” ترامب سببًا في تشابُكِ الخلافات حول السياسة الخارجية مع المخاوف الداخلية، الأمرُ الذي سيجعلُ إعادة بناء الإجماع بين الحِزبَين في واشنطن حول العلاقات مع دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي محفوفة بالمخاطر بشكلٍ خاص. في المدى القصير، قد يتجاهل الديموقراطيون والجمهوريون المعتدلون مطالب “ماغا” بشنِّ هجماتٍ بطائرات مُسَيَّرة وغارات من قبل قوات العمليات الخاصة الأميركية ضد عصابات المخدرات على الأراضي المكسيكية. لكن مدى جاذبية مثل هذه المطالبات باتِّخاذِ إجراءاتٍ جذرية لأجزاءٍ رئيسة من الناخبين الأميركيين سوف يؤثّر في معايير أيِّ إجماعٍ في السياسة الخارجية يتم إعادة تشكيله. ورُغمَ أنَّ هذا السيناريو أقلّ ترجيحًا، إلّا أنَّ البيئةَ التي يتنافَسُ فيها كلٌّ من الديموقراطيين والجمهوريين على مَن يُمكِنُ أن يكونَ أكثر صرامةً مع الدول المجاورة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي يُمكنُ أن تأتي بنتائج عكسية سيّئة من خلال تقويض الاستقرار في منطقة نصف الكرة الغربي التي تُمَكِّنُ الولايات المتحدة من إبرازِ القوّة على نطاق أوسع.

من دونِ بَذلِ جهودٍ مُتضافرة لإعادة بناء مثل هذا الإجماع بين الحزبين في مجال السياسة الخارجية، فإنَّ التجربة الناجحة لمشروع قانون المساعدات لأوكرانيا من خلال الكونغرس في 20 نيسان (إبريل) سوف تُعَتبَرُ بمثابةِ فترة راحة قصيرة وسط قوسٍ هيكلي أوسع من تراجع الولايات المتحدة كقوّة عالمية. وحتى لو فاز بايدن في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) فإنَّ ذلك لن يؤدّي إلّا إلى توازُنٍ مؤقت إذا فشل الجمهوريون والديموقراطيون في إعادةِ التفاوضِ على إطارٍ مُشتَرَكٍ يضمَنُ الاستمرارية الطويلة الأجل في السعي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية. وكلُّ ما يستطيع صنّاعُ السياسات الأوروبيون فعله هو أن يأملوا في أن يَغتَنِمَ نظراؤهم الأميركيون الفُرَصَ المتاحة لإعادة بناء الإجماع بين الحِزبَين في واشنطن، والتأكّد من قدرة الاتحاد الأوروبي على الدفاع عن نفسه بمفرده إذا أُهدِرَت هذه الفرص.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى