ماذا فعل وباء كورونا بالإقتصاد غير الشرعي في تونس؟

فيما تُعاني الاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من مشاكل في سلسلة التوريد بسبب وباء كورونا، ينبغي على النخب السياسية التونسية أن تفكّر بشكل استراتيجي في كيفية إدماج الإقتصاد غير الرسمي وتلبية حاجات جميع الأشخاص الذين يعيشون خارجه.

إلياس الفخفاخ: أعلن عن حزمة إقتصادية، لكن هل هي كافية؟

 

بقلم حمزة المؤدّب*

يفرض تطبيق إجراءات الإغلاق بفعل وباء كورونا في كل أنحاء العالم، مشاكل جمّة وخطيرة على سلاسل التوريد، ويُفاقم انكشاف اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ذلك أن سلاسل التوريد هذه في العديد من القطاعات في كل أرجاء المنطقة، تأثّرت بشدة بإغلاق الموانىء وتأخّر وصول الشحنات. كما هبطت معدلات السلع وحجم عمليات الشحن من الموانىء الصينية، وتباطأ نشاط العديد من المرافق والمرافئ في كل آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، بسبب تنفيذ الإجراءات الهادفة إلى الحدّ من تفشّي وباء كورونا.

تونس تبدو نموذجاً مُفيداً في مجال سلاسل التوريد هذه. فقد أعلنت الحكومة التونسية الجديدة عن مضاعفة المخزون الاستراتيجي من السلع الأساسية (مواد غذائية وأدوية ووقود). وهي أقدمت على هذه الخطوة لأنها تهدف إلى تجنّب تفشّي ذعر الشراء الذي يولّده الحجر المنزلي المديد. فالحكومات تتعرّض إلى ضغوط لتأمين مروحة من الضروريات الأساسية، نظراً إلى خطر حدوث نقص في المواد الغذائية، والعدد المحدود من المُزودين العاملين، ومن التباطؤ في مجال النقل.

لم يؤثّر وباء “كوفيد-19” في التبادلات الإقتصادية الرسمية وحسب، بل أيضاً في شبكات التوريد الخفية التي تنشط في الأسواق عبر المنطقة. وهنا يجب التذكير بأن الإقتصادات غير الرسمية في هذا الإقليم لا توجد ككيانات منفصلة، بل هي ترتبط على نحو مُحكَم بالإقتصادات الرسمية المحلية والدولية. إذ أن العديد من السلع التي تُزوَّد بها الإقتصادات الرسمية، تشق طريقها عبر سلاسل مُعقَّدة من السلع العالمية التي ترتبط بطريقة أو أخرى بالإقتصادات غير الرسمية. ففي شمال أفريقيا، على سبيل المثال، تُحوّل سلاسل التوريدات عادة نحو التجارة غير المشروعة عبر الحدود من خلال الأسواق الحدودية، على غرار سوق بن قردان في تونس أو سوق دبي في العلمة في الجزائر.

مثل هذه التدفقات غير المُسجّلة والسيئة التقييم، تَعبر من خلال المرافئ والمواقع الحدودية. كما أن المُتعاملين غير الرسميين في أرجاء المنطقة كافة يُتاجرون بالسلع من خلال آليات توزيع محظورة، كوسيلة لعدم الإلتزام بالتسجيل، ودفع الضرائب، والتنظيمات الخاصة بالتراخيص. وبالمثل، يستخدم اللاعبون الإقتصاديون العابرون للحدود الوطنية الإقتصاد غير الرسمي وأسواق الحدود، للوصول إلى قطاعات الدخل المحدود من السكان الذين لا يستطيع كبار تجار التجزئة الرسميون تزويدهم بالسلع.

منذ حقبة تسعينات القرن الفائت، كانت الأسواق الحدودية في شمال أفريقيا تتفعّل وتنشط بفعل سلاسل التوريد المُوسَّعة التي تستورد السلع الاستهلاكية الآسيوية الصنع والمنتجات منخفضة التكلفة. ومع مجيء العَولمة، جرت إعادة هيكلة الإنتاج والتوزيع في العديد من الصناعات، وتميّزت هذه الإعادة بتصدير الأعمال إلى الخارج والتعاقد من الباطن من خلال سلاسل السلع العالمية. وكانت الأسواق الحدودية وصغار تجار التجزئة يبيعون السلع المصنوعة في آسيا قبل أن تُشحَن إلى شمال أفريقيا وأفريقيا شبه الصحراوية عبر دبي. وهكذا انتهى المطاف بالاقتصاد التونسي بأنه بات يُزوَّد بسلع آسيوية تمر عبر ليبيا أو الجزائر.

تُمثّل الاقتصادات غير الرسمية في دول شمال أفريقيا، مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب، بين 35 و 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وتُعدّ معدلات العمالة في القطاع غير الرسمي مُرتفعة جدّاً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ تبلغ 85 في المئة من إجمالي العَمالة. وفي آسيا، تبلغ هذه النسبة 68.2  في المئة، وفي العالم العربي 68.6  في المئة. إنّ ما مجموعه 93 في المئة من العمالة غير الرسمية في العالم يتركّز إذاً في الدول الناشئة والنامية، ما يشي بأن العولمة ترافقت مع نمو الإقصادي غير الرسمي.

لقد سلّط الحجر والإغلاق جرّاء كورونا الضوء على واقع مُلفت، هو عَولَمة الكثير من الاقتصادات غير الرسمية، على مرّ العقود، بما فيها الأسواق الحدودية. فسوق بنقردان الحدودية في جنوب شرق تونس لعب دوراً أساسياً في تزويد الإقتصادَين التونسي والليبي بالسلع الإستهلاكية والوقود. وتُشكّل هذه السوق منذ حقبة تسعينات القرن الفائت مركزاً للتجارة غير الرسمية عبر الحدود التونسية والليبية. وقد ربطت مدنُ غرب ليبيا مدنَ جنوب تونس بشبكات الاقتصاد العالمي غير المشروع. وبعد سقوط نظام معمر القذافي، أصبح الإقتصاد الحدودي عامل جذب للمجموعات المسلّحة غير الرسمية وغير التابعة للدولة، والتي تسعى إلى السيطرة على التدفّقات غير الشرعية للسلع والبشر والأموال، والإفادة منها.

النزاع من أجل السيطرة على الموارد الإقتصادية وكبح حركة التهريب غير الشرعي عبر الحدود أثّر بشكل كبير في بنقردان. ويُعزى ذلك بشكل أساس إلى القتال بين الميليشيات الليبية على رسوم العبور والخلافات الكثيرة بين السلطات التونسية والليبية حول الإجراءات المتّبعة عند معبر رأس جدير الحدودي. أدّى إغلاق المعبر إلى اندلاع مظاهرات حاشدة وإضرابات في بنقردان وموجات من الغضب ضد السلطات التونسية لإسهامها في تهميش المنطقة الحدودية. ومن المتوقع أن تؤدي عوامل عديدة، منها النزاع الليبي المستمر، وإجراءات الإغلاق جرّاء كورونا، وتباطؤ سلاسل التوريد العالمية، إلى الحد بشكل كبير من تدفّق السلع عبر بنقردان.

سعت الحكومة التونسية إلى التخفيف من تداعيات هذا الوضع الجديد، عبر الإعلان عن حزمة من الإجراءات الإقتصادية الرامية إلى الحؤول دون خسارة الوظائف، ومساعدة الأُسَر التي تلقّت ضربة قوية جرّاء الأزمة الاقتصادية. ازدادت وتائر التوتر أخيراً، لأن الناس واجهوا صعوبة كبيرة في التكيّف مع الأزمات الصحية والاقتصادية غير المسبوقة، في حين أن الحكومة لا تملك معطيات دقيقة عن الفقراء لتتمكّن من مساعدتهم. لهذا السبب، ينبغي على النخب السياسية التونسية أن تفكّر بشكل استراتيجي في كيفية إدماج الإقتصاد غير الرسمي وتلبية حاجات جميع الأشخاص الذين يعيشون خارجه.

  • حمزة المؤدّب هو باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، وانعدام الأمن على الحدود في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى