قراراتُ سعَيِّد تُهَدِّد ما تبَقَّى من ديموقراطيةٍ في تونس

أدّت الأزمة الصحّية إلى تفاقم المشاكل والإحباطات التي يواجهها أصلًا الشعب التونسي، بما فيها المعاناة الاقتصادية وعدم كفاءة الحكومة وانتشار الفساد. كما أنها أوجدت الفرصة لاستبدادٍ جديد مُحتَمَل للاستيلاء على السلطة في خطوةٍ قد تُشيرُ إلى نهاية التجربة الديموقراطية في البلاد.

نور الدين الطبوبي: الرجل الذي قد يشكل ضغطًا على سعيّد لإعادة الحكم الديموقراطي إلى البلاد

فريدا غيتيس*

اليوم، يُقاتل الشعب الأوكراني -بكل معنى الكلمة- من أجل حقّه في تقرير مصيره، بشكلٍ مُستَقِل وديموقراطي. منذ وقتٍ غير بعيد، انتفض ملايين الأفراد في دولٍ مُتعدّدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للنضال من أجل الديموقراطية في بلدانهم في موجةٍ من الثورات التي، رُغم اختلافها بشكلٍ ملحوظ عن الأحداث والظروف والتحديات في أوكرانيا، سعت إلى تأمين بعض الحقوق التي يكافح الأوكرانيون اليوم للحفاظ عليها. في ذلك الوقت، ألهمت هذه الانتفاضات، المعروفة ب”الربيع العربي”، توقّعاتٍ عالية. لكن ما لبثت أن خرجت عن مسارها إلى مأساة.

بالعودة إلى العام 2011، إعتقَدَ المراقبون أن الدولة التي تتمتّع بأفضل فرصة للنجاح الديموقراطي في المنطقة هي تونس، حيث بدأ منها “الربيع العربي”. الآن، بعد اثني عشر عامًا على قيام البائع المُتجوّل محمد البوعزيزي بإضرام النار في نفسه، ما أطلق العنان للاحتجاجات التي أذهلت العالم وأطاحت بالحكام المستبدين في تونس وليبيا ومصر، فإن الكفاح من أجل إرساء الديموقراطية في هذا البلد العربي الرائد قد انحرف بشكلٍ كبير عن مساره.

على مدى العقد الفائت، مع سحق مطالب الديموقراطية في أماكن أخرى من المنطقة، واصلت تونس المضي قدمًا. ثم جاءت جائحة فيروس كورونا. أدّت الأزمة الصحية إلى تفاقم المشاكل والإحباطات التي يواجهها أصلًا الشعب التونسي، بما فيها المعاناة الاقتصادية وعدم كفاءة الحكومة وانتشار الفساد. كما أنها أوجدت الفرصة لاستبدادٍ جديد مُحتَمل للاستيلاء على السلطة في خطوة قد تشير إلى نهاية التجربة الديموقراطية في البلاد.

في تموز (يوليو) الماضي، استولى الرئيس قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري السابق المُنتخب في 2019، على السلطتين التنفيذية والتشريعية بإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه وإغلاق البرلمان التونسي. وأصرّ على أن نيته لم تكن أن يصبح حاكمًا استبداديًا على غرار شخصيات ما قبل الثورة مثل زين العابدين بن علي، ولكن لحماية الحريات واجتثاث الفساد وإعادة تونس على الفور إلى المسار الديموقراطي. بعد ثمانية أشهر، لم يُغيِّر موقفه رسميًا، ولا يزال يعدنا أن الديموقراطية تنتظرنا، لكن هذا يبدو موضع شكٍّ كبير.

جاء الانقلاب الذاتي لسعيّد في وقتٍ كانت خيبة الأمل والسخط من أداء الحكومة التي أطاحها في أوجهما. هذا هو السبب في أن استطلاعات الرأي في ذلك الوقت أظهرت أن 87 في المئة من الشعب التونسي يوافق على استيلاء الرئيس على السلطة. لكن منذ ذلك الحين، أدت تصرفات سعيّد إلى بعث إشاراتٍ مُتضاربة حول مستقبل تونس، ما أدّى إلى شكوكٍ حول وعده بالتنازل عن السلطة.

في أوائل شباط (فبراير)، سطا سعيّد، الذي عزّز سلطاته التنفيذية والتشريعية في منصبه، على مقاليد السلطة الأخيرة المُتَبقّية في الدولة: القضاء. مُتَّهِمًا المحاكم بالفساد، فقد أصدر سعيّد مرسومًا بحلّ المجلس الأعلى للقضاء فعليًا، وهو الهيئة القانونية المسؤولة عن الإشراف على النظام القضائي، وأعلن بأنه “شيءٌ من الماضي”. وقال سعيّد إن المجلس تعثّر في ملاحقته القضايا المشحونة سياسيًا، بما في ذلك قضايا العديد من منتقدي الحركة الإسلامية البارزين الذين اغتيلوا قبل ثورة 2011. ويلقي أنصار السياسيين الذين تم اغتيالهم باللوم على حركة النهضة الإسلامية في تأخير العملية القضائية، وهو ادعاء تنفيه الحركة بشدة.

مهما كانت دوافع سعيّد لحل المجلس الأعلى للقضاء، فمن المستحيل تجنّب اعتبار ذلك خطوة أخرى في اتجاه الحكم المطلق. بعد كل شيء، فإنه يتبع العديد من الإجراءات الحكومية الأخرى المُتّسقة مع الاستبداد، مثل اعتقال النشطاء والمعارضين السياسيين والصحافيين، وشنّ حملة قمع أوسع ضد المعارضة. في آب (أغسطس)، أغلق سعيّد سلطة مكافحة الفساد في البلاد، على الرغم من استشهاده بالفساد كمُبرّر لسَطوه على السلطة قبل أقل من شهر.

يبدو أن سعيّد يصوغ نظامًا من شأنه أن يسمح له على الأقل بالادعاء بأنه أوفى بوعده. في كانون الأول (ديسمبر)، أعلن عن خارطة طريق سياسية تؤدي في النهاية إلى انتخاباتٍ وطنية – عودة إلى الديموقراطية، على الأقل على السطح. بموجب هذه الخطة، سيصوّت التونسيون على استفتاءٍ لتعديل دستور البلاد في تموز (يوليو)، في الذكرى الأولى لاستيلاء سعيّد على السلطة. وبعد ذلك، في كانون الأول (ديسمبر)، ستُجرى في البلاد انتخابات لاختيار برلمان جديد.

خارطةُ الطريق غامضةٌ من حيث التصميم، ويبدو أن الرئيس نفسه سيُعيِّن فريقًا لصياغة الدستور الجديد، والذي من المرجح أن يؤسّس هيكل حكم جديد. من المعروف أن سعيّد يُفضّل نظامًا “على شكل ساعة رملية” يحكم فيه رئيس قوي مع بعض المدخلات من البرلمان الذي يتم اختيار أعضائه من طريق اليانصيب من المجالس على مستوى الأحياء. إذا كان هذا الذي ظهر من خارطة طريق سعيّد صحيحًا، فإن تونس ستكون لها قشرة ديموقراطية رقيقة، لكنها في نهاية المطاف ليست أكثر من ديكتاتورية عربية أخرى.

لحسن حظ الرئيس، فإن المعارضة التونسية مُنقسمة بشل كبير. على الرغم من أن التونسيين غير راضين عن فقدان الديموقراطية، فإن الغالبية لا تميل إلى النزول إلى الشوارع إذا كان ذلك يعني إعادة حزب المعارضة الرئيس، “النهضة”، إلى السلطة. ومع ذلك، قد يتغيّر هذا إذا انقلب الآخرون في تونس ضد سعيّد. أحد الأشخاص الذين يجب مراقبته هو نور الدين الطبوبي، الذي أعيد انتخابه أخيرًا أمينًا عامًا للاتحاد العام التونسي للشغل القوي والمؤثّر. إذا قرر الطبوبي تجنيد الاتحاد ضد خارطة الطريق الجديدة، فقد يجد سعيّد صعوبة في إحكام قبضته على السلطة.

في الوقت الحالي، لا يزال الرئيس يتمتّع بشعبية كبيرة. لا يزال تصنيف شعبيته قويًا، في نطاقٍ يتراوح بين 62 و67 في المئة. في استطلاع حديث أجراه أكاديميون من جامعتَي “يال” و”كورنيل” الأميركيتين، قال ما يقرب من 80 في المئة من المشاركين إنهم يعتقدون أن سعيّد حلّ البرلمان التونسي من أجل “محاسبة السياسيين الفاسدين ومساعدة عامة التونسيين”. قلة قليلة من الناس قالت إن انتزاعه للسلطات أدّى إلى “تقويض الديموقراطية وتهديد حقوق الشعب التونسي”.

ومع ذلك، هناك دلائل على أن الحماس الذي عرفه الرئيس التونسي في تموز (يوليو) بدأ يتضاءل. بعد أن أعلن الرئيس إغلاق المجلس القضائي هذا الشهر، دعا أنصاره إلى النزول إلى الشوارع للتظاهر ضد المجلس. كان الرد على ذلك احتجاجًا صغيرًا.

لكن سعيّد قد يواجه قريبًا مشاكل أكبر. لقد تضمن اغتصابه للسلطات وعدًا ضمنيًا – والأهم من ذلك كله – بتحسين حياة التونسيين العاديين. وهذا لم يحدث بعد.

إذا كان الرئيس، في الواقع، يخطط للبقاء في السلطة، فستكون المهمة أكثر صعوبة إذا لم يتمكّن من إظهار تحسينات ملحوظة في مستويات المعيشة. قفز معدل البطالة في تونس إلى 18 في المئة. وهذا أعلى بكثير مما كان عليه في العام 2010، عندما أدّت إحباطات البوعزيزي لنوعية الحياة الرديئة التي كان يعيشها إلى إشعال النار في نفسه، ما أشعل “الربيع العربي”. كان اليأس الاقتصادي إيذانًا بنهاية الديكتاتورية السابقة في تونس. لذا، لا يسع المرء إلا أن يتخيّل بأن سعيّد يعرف أن الدروس المستفادة من تلك اللحظة تظهر مقدار ما سيخسره إذا فشل في تحقيق ما وعد به.

  • فريدا غيتيس هي مُحلّلة سياسية في الشؤون العربية والعالمية ومُساهِمة مُنتَظِمة في “سي أن أن” و”واشنطن بوست”. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @fridaghitis

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى