واشنطن ومُستَنقَع الشرق الأوسط الذي يَلوحُ في الأفق

على الولايات المتحدة أن تحوّل سياستها في الشرق الأوسط بعيدًا من النموذج الأمني الثقيل الذي تقوده حاليًا نحو نهجٍ أكثر توازنًا يحمل مخاطر أقل للتصعيد أو التَمَدّد المُرهِق ويسمح للقوى الإقليمية بأخذ زمام المبادرة. وإذا فشلت واشنطن في تغيير مسارها، فقد ينتهي بها الأمر إلى السير في طريقٍ مألوفٍ للغاية.

الرئيس جو بايدن: المطلوب تغيير سياسته في الشرق الأوسط وإلّا…

جينيفر كافانا وفريدريك وِيهري*

أدّت تداعيات الهجوم الذي شنّته حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والذي أسفر عن مقتل ما يُقَدَّر بنحو 1200 شخص، إلى ظهور ما يمكن القول إنه التحدّي الأشد خطورة لاستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ الانتفاضات والحروب الأهلية التي هزّت العالم العربي بدايةً من العام 2011. أدّى الهجومُ على قطاع غزة والخسائر الفادحة في الأرواح التي تكبّدها -حيث قُتِلَ أكثر من 12 ألف فلسطيني نتيجة لذلك، وفقًا لوزارة الصحة في غزة- إلى انتشارِ مشاعر مُعاداة أميركا على نطاقٍ واسع في جميع أنحاء المنطقة ودفع وكلاء إيران إلى شنِّ هجماتٍ على العسكريين الأميركيين المُتَمَركِزين  في العراق وسوريا. إنَّ الطريقة التي سيُديرُ بها الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته تصرّفات إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، بالإضافة إلى التداعيات الجيوسياسية الأوسع للحرب، ستكون لها عواقب بعيدة المدى على الاستقرار الإقليمي وكذلك على قدرة واشنطن على مواجهة الخصوم وردعهم في الشرق الأوسط وأماكن أخرى.

يتجلّى ارتفاعُ المخاطر في التدفّق السريع لقوات عسكرية أميركية إضافية إلى المنطقة خلال الشهر الفائت، بما في ذلك حاملات طائرات وطائرات مقاتلة وأكثر من 1000 جندي، ونشر أنظمة دفاع جوي إضافية للشركاء العرب مثل الكويت، المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. كان الهدَفُ من هذه التحرّكات هو الإشارة إلى تصميم الولايات المتحدة وردع إيران عن السعي إلى تصعيدِ الأزمة في إسرائيل باستخدام شبكتها من الوكلاء، مثل “حزب الله”، لشَنِّ هجماتٍ على إسرائيل من لبنان وسوريا وأماكن أخرى. ولكن من خلال توسيع وجودها العسكري في الشرق الأوسط، قد تُسَبِّبُ واشنطن تفاقم التوترات الإقليمية وتزيد من مخاطر وتكاليف سوء التقدير – وبالتالي تُشعِلُ عن غير قصد الصراعَ ذاته الذي تسعى بشدة إلى تجنّبه.

كما يُمكنُ أن يؤدّي ضَخُّ واشنطن للمعدّات العسكرية والأفراد إلى توريط الولايات المتحدة في التزاماتٍ أمنية مفتوحة تجاه منطقة كانت تُحاوِلُ، حتى وقتٍ قريب، تحرير نفسها منها. بحلولِ الوقتِ الذي انتهت فيه القوات الأميركية من الانسحاب من أفغانستان وأنهت العمليات القتالية في العراق في العام 2021، أثبتَ نَهجُ الولايات المتحدة المُعتاد المُتمثّل في “الأمن أوّلًا” في الشرق الأوسط أنه مُكلِف، من حيث الدولارات والأرواح المفقودة، ومُدَمِّرٌ للمنطقة، بعدما ساهمت في سنواتٍ من الحرب والتمرّد والخراب الاقتصادي. ومع تزايد ال وجود أميركا مرةً أخرى، فإنَّ مشاركتها العسكرية العميقة في الشرق الأوسط يُمكِنُ أن تستمرَّ إلى ما بعد نهاية الأزمة الحالية وتُساهِمُ في التمّدد المُفرِط والمُرهِق الذي من شأنه أن يخلقَ فجواتٍ خطيرة في أماكن أخرى في المدى الطويل، وخصوصًا في منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ. في هذا السيناريو، سيتم التراجع عن الكثير من عمل إدارة بايدن للتمحور نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة الصين – وستُترَكُ الساحات الاستراتيجية الرئيسة مثل تايوان أكثر عرضة للعدوان الصيني.

ونظرًا إلى هذه المخاطر، فإنَّ سياسة واشنطن في الشرق الأوسط في حاجة ماسة إلى تصحيحِ المسار. كان هذا صحيحًا قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ويصدقُ ويصحُّ الآن بشكلٍ أكبر. مع ذلك، لم تُشِر إدارة بايدن إلى أيِّ تعديلاتٍ قصيرة أو طويلة المدى تهدفُ إلى معالجة إخفاقات ومخاطر الاستراتيجية الحالية. وبدلًا، فقد التزمت مُجَدَّدًا بنَهجٍ أمني شديد يعتمد على عمليات انتشار عسكرية أميركية أكبر من أي وقت مضى وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية كأساسٍ لكتلةٍ أمنية جديدة بقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

ورُغمَ أنَّ العواقبَ المُترتِّبة على الحرب الإسرائيلية في غزة لا تزال غير مؤكّدة، فإنه ليس من السابق لأوانه رسم الخطوط العريضة لسياسة أميركية أكثر استدامة في الشرق الأوسط. والأهم من ذلك، أنه بمجرد أن تبدأ الأزمة الحالية في الاستقرار، يجب على واشنطن أن تَعمَلَ على سحب القوات التي أعادتها بسرعة إلى الشرق الأوسط – وأن تذهب إلى أبعد من ذلك، من خلال تقليصِ حَجمِ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة وإعادة تنظيمه بشكلٍ كبير. وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن الاستثمار في بناءِ قُدراتٍ ومرونة شركائها الإقليميين حتى يتمكّنوا من العمل معًا بشكلٍ أكثر فعالية للحفاظ على الاستقرار وإدارة التحدّيات الأمنية بدعمٍ أقل من الولايات المتحدة. فقط هذا النهج ذو الشقين يمكنه دفع أميركا نحو سياسةٍ متوازنة في الشرق الأوسط تتجنّب الإفراط في التوسّع ولكن لا يزال بإمكانها طمأنة الشركاء وتجنّب الكوارث المستقبلية.

لم يتم طرح أي أسئلة

كانت استجابة الولايات المتحدة للأزمة الحالية سريعة وواسعة النطاق. في أعقابِ هجمات “حماس” مُباشرةً، أمَرَ بايدن مجموعتَين هجوميتين من حاملات الطائرات -قوات بحرية يبلغ عديد كل منها حوالي 7500 فرد- بالتوجه إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وأرسل غواصة ذات قدرة نووية من طراز أوهايو؛ طائرات مقاتلة وطائرات دعم جوي متقدّمة مثل “أف-16″ (F-16)، و”أف-15″ (F-15)، و”أف-35″ (F-35)، و”إي-10” (A-10)؛ وأكثر من 1200 جندي إضافي إلى المنطقة، بالإضافة إلى حوالي 45,000 جندي أميركي مُتَمَركزين أصلًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، أرسلت الولايات المتحدة كتائب دفاع جوي من طراز باتريوت إلى شركاء إقليميين منذ فترة طويلة، بما في ذلك العراق والأردن والكويت والمملكة العربية السعودية، كما نشرت “منظومة دفاع للمناطق ذات الارتفاعات العالية الطَرَفية”، واحدة على الأقل، “ثاد” THAAD) ) في المنطقة. تُمثّلُ هذه الزيادة العسكرية الأميركية المرة الأولى التي يتم فيها نشر بعض أنظمة الأسلحة هذه في الشرق الأوسط منذ غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في العام 2001.

وقد صاحب هذا التدفّق من القوات والأصول الأميركية تدفُّقٌ كبير من المساعدات العسكرية لإسرائيل، بالإضافة إلى ما يقرب من 4 مليارات دولار تتلقاها البلاد سنويًا من الولايات المتحدة. (قدمت أميركا لإسرائيل مساعدات عسكرية أكبر من أي دولة أخرى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت قيمتها أكثر من 124 مليار دولار منذ تأسيس إسرائيل في العام 1948). وبعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قدم بايدن طلبًا إلى الكونغرس للحصول على حزمة أسلحة طارئة بقيمة 14.3مليار دولار لإسرائيل – وهو الطلب الذي لم يتحقّق بعد ليس بسبب نقص الدعم لإسرائيل ولكن بسبب الخلل السياسي في الولايات المتحدة.

وتبرز هنا الطبيعة السريعة والحاسمة لهذا الرد، خصوصًا بالنظر إلى سمعة بايدن في التداول قبل انخاذ أي قرار والتثاقل في بعض الأحيان. كما إنه يتناقض بشكلٍ حاد مع النهج التدريجي لتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا في أعقاب الغزو الروسي، بخاصة في ضوء التهديد العسكري الأكثر محدودية الذي تُشَكّله إيران مع وكلائها مُقارنةً بالتهديد الذي تُشكّله روسيا. وعلى عكس الشفافية المُقَدَّمة بشأن المساعدات لأوكرانيا، فإنَّ عمليات نقل الأسلحة غير المشروطة إلى إسرائيل كانت مُغطّاة بالسرية، الأمر الذي أثار الذعر في الكونغرس واستقالة مسؤول في وزارة الخارجية يدعى جوش بول، الذي أصرَّ في بيانٍ علني على أنَّ حَجمَ دعم واشنطن لإسرائيل “ليس في المصلحة الأميركية في المدى الطويل”.

التفكير في الأمر من الداخل

مع مُضاعفة إدارة بايدن جهودها لزيادة الأسلحة والقوات الأميركية الإضافية إلى الشرق الأوسط، ليس من الواضح ما إذا كان صناّع السياسة الأميركيون فكّروا في التأثيرات من الدرجة الثانية والثالثة المترتبة على تضخيم الدور الأمني للولايات المتحدة في المنطقة وكيف سينظر إليه الخصوم والحلفاء على حدٍّ سواء. على وجه التحديد، هناك ثلاثة مخاطر يجب على إدارة بايدن الاعتراف بها ومعالجتها: التصعيد، وردّ الفعل العنيف، والتمدّد المُفرِط.

أوّلًا، على الرغم من أن البنتاغون قال إن عمليات النشر منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) تهدفُ إلى مَنعِ نشوبِ حَربٍ أوسع نطاقًا، يبدو من المرجح بالقدر عينه أن تؤدي زيادة القوات الأميركية في نهاية المطاف إلى إثارة دوامة تصعيدية بدلًا من منعها. منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تصاعدت هجمات وكلاء إيران على الأفراد العسكريين الأميركيين المتمركزين في العراق وسوريا، حتى مع تعزيز الولايات المتحدة لوجودها الإقليمي وشنّها ضربات انتقامية على أهداف البنية التحتية للميليشيات في سوريا. ولا يبدو أن هذه القوات الإضافية ولا الجولات المتعددة من الغارات الجوية، بما في ذلك بعض الغارات التي قيل إنها قتلت أفرادًا من الميليشيات، فعلت الكثير لردع خصوم الولايات المتحدة. بل إنَّ مثل هذه الهجمات أصبحت أكثر جرأة؛ على سبيل المثال، أسقط المتمرّدون الحوثيون المدعومين من إيران في اليمن أخيرًا طائرة أميركية مُسَيَّرة فوق البحر الأحمر، وشنّوا ضرباتٍ تستهدفُ إسرائيل منذ بداية الصراع الحالي.

من المُمكن أن يكون الوجودُ العسكري المُعَزَّز للولايات المتحدة قد أدّى إلى ثني إيران ووكلائها عن القيام باستفزازاتٍ أكثر أهمية – ولكن الأرجح هو احتمال عدم رغبة إيران أو “حزب الله” في التصعيد، حيث سيخسر كلاهما إذا اندلعت حربٌ إقليمية. ومن الممكن أن تتغيّر هذه الحسابات، خصوصًا إذا استمرّت الخسائر في صفوف الفلسطينيين في التصاعد أو إذا اختارت إسرائيل احتلال غزة لفترة طويلة من الزمن. وفي وَضعٍ حيث الخطوط الحمراء لكلِّ جانب تبدو غير واضحة، فإنَّ الوجود العسكري الأميركي المتزايد في المنطقة يزيد من خطر سوء التقدير والاستفزاز. كما إنه يمنح المُتَشَدّدين في طهران وبين الجماعات الوكيلة لإيران – التي تعتبر واشنطن شريكًا متآمرًا في الحملة العسكرية الإسرائيلية – مُبَرِّرًا لمواصلة حشدها العسكري والتهديد بالتصعيد.

ثانيًا، ليس فقط بين الخصوم حيث يمكن أن يؤدي هذا التدفق العسكري الأميركي الجديد إلى تحدياتٍ غير مُتَوَقَّعة. يمكن أن يؤدي أيضًا إلى تقويض العلاقات مع الحلفاء والشركاء الرئيسيين لأميركا مثل مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة وغيرها. لقد اعتمدت واشنطن منذ فترةٍ طويلة على توفير الضمانات الأمنية والمساعدة العسكرية باعتبارها جوهر مشاركتها في الشرق الأوسط. لكن الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، وموجات العداء لأميركا التي تجتاح العالم العربي، والخلاف الحقيقي بين الحكومات العربية وواشنطن بشأن تنفيذ إسرائيل لحملتها العسكرية، كلّها عواملٌ تُهدّد بتآكل الأساس الذي يقوم عليه التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والعرب، لا سيما مع تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة. لقد أصبح الوجود العسكري الأميركي في المنطقة أكثر وضوحًا وأكثر إثارةً للجدل.

على أقل تقدير، سوف ترغب الدول العربية تنفيذ أي تعاون أمني مستقبلي بشكلٍ أكثر تكتّمًا وسرية، وقد تجد واشنطن حريتها في العمل مُقَيَّدة بشكلٍ متزايد بسبب الحاجة إلى حماية القوات الأميركية العاملة في البلدان الشريكة. وفي الحالات الأكثر تطرّفًا، قد تقوم الأنظمة الشريكة بتعليق بعض الأنشطة، مثل التدريبات المشتركة، أو إيقاف بعض المشتريات الدفاعية. على الرُغمِ من أنه لن تقطع أي دولة علاقاتها مع الولايات المتحدة، إلّا أنَّ الصراعَ بلا شك يقلب العديد من افتراضات إدارة بايدن بشأن شركائها ويُعقّدُ العلاقات التي أصبحت أميركا تعتمد عليها في المنطقة للوصول العسكري وحماية المصالح الاقتصادية الأميركية. وعلى الرُغم من أنَّ المنافسة الأوسع بين القوى العظمى مع الصين وروسيا لا ينبغي أن تكون المُحرِّك الرئيس لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، فمن المحتمل أن يلجأ الشركاء الإقليميون إلى بكين أو موسكو إذا وجدوا أنَّ التعاونَ مع واشنطن مُزعِجٌ ومُضِرٌّ للغاية.

أخيرًا، يُمكِنُ لهذا الموقف الأميركي المُتجَدّد في المنطقة أن يُبشِّرَ بعودة الولايات المتحدة إلى العادات السيئة، وهو تجديدٌ لاستراتيجيتها المعتادة المتمثّلة في الاعتماد على عمليات نشر عسكرية أميركية كبيرة وعمليات نقل أسلحة لضمان أمن المنطقة ضد التهديدات الخارجية. وهذا النهج لم يجعل المنطقة أكثر أمانًا. بدلًا من ذلك، أدّت عقودٌ من التدخّلِ العسكري الأميركي إلى تفاقم المنافسات الإقليمية وأذكت سباقات التسلّح التي أدّت إلى تفاقم الصراعات المحلية، ناهيك عن التداعيات الكارثية للغزو الأميركي للعراق في العام 2003، والذي شمل مئات الآلاف من القتلى المدنيين، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتدهور سمعة الولايات المتحدة عالميًا. علاوةً على ذلك، فإنَّ سنواتٍ من المساعدة الأمنية الأميركية غير المشروطة لشركاء واشنطن في الشرق الأوسط شجّعت هذه الأنظمة في كثير من الأحيان على التصرّفِ بطُرُقٍ أدّت إلى تقويض الاستقرار الإقليمي وحقوق الإنسان بشدة – بما في ذلك، على سبيل المثال، دعم المملكة العربية السعودية للحكومة اليمنية في حربها ضد جماعة “الحوثي” المتمرّدة المدعومة من إيران، أو تدخل الإمارات العربية المتحدة في الصراع في ليبيا.

النَظَرُ إلى ما هو أبعد من المنطقة … كلّما اضطرت واشنطن إلى نشر القوات ونقل الأسلحة والمعدات إلى الشرق الأوسط، زادت مخاطر التمدّد المُفرط بطُرُقٍ من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها ورَدعِ الخصوم في أماكن أخرى – خصوصًا في منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ، حيث تواجه أميركا الصين المتزايدة عدوانية. إن العديدَ من أنظمة الأسلحة التي يطلبها شركاء واشنطن في الشرق الأوسط بشدة -مثل صواريخ هاربون وأنظمة الدفاع الجوي باتريوت- هي أيضًا أنظمة تحتاجها تايوان بشدة لتعزيز دفاعاتها ضد العدوان الصيني. وبالمثل، من المرجح أن تكون هناك حاجة إلى العديد من الأصول البحرية والجوية الأميركية المنتشرة الآن في الشرق الأوسط للصراع في منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ. وبمرور الوقت، قد تؤدي عمليات النشر المُوَسَّعة في الشرق الأوسط إلى تآكل هذه الأنظمة والأصول، ما يجعلها غير متاحة -وتعاني الولايات المتحدة من نقص الموارد- في حالة حدوث أزمة في آسيا. ولن تنمو هذه المقايضات إلّا إذا تضخّمَ الصراعُ بين إسرائيل و”حماس” ليشمل إيران، حيث قد تشعر الولايات المتحدة بالضغط لتزويد إسرائيل بصواريخ هجومية بعيدة المدى التي تعاني أصلًا من نقصٍ في المعروض؛ وإذا بقيت أعداد أكبر من القوات والأنظمة الأميركية في مسرح العمليات في المدى الطويل.

تخفيض وإعادة تنظيم

إنَّ التمزّقَ الذي سبّبه هجومُ “حماس” يوفّر فرصةً لتطويرِ نهجٍ أميركي أكثر استدامة وأقل مخاطرة تجاه الشرق الأوسط. تُوَضِّحُ الأزمة الحالية أنه طالما احتفظت واشنطن بعشراتِ الآلاف من الجنود في الشرق الأوسط، تظل هناك احتمالات كبيرة لإمكانية جَرِّ الولايات المتحدة إلى صراعٍ إقليمي مُطَوَّل ومُكلِف، حتى عندما تكون لها مصالح قليلة على المحك. ولتجنّب هذه النتيجة، تحتاج أميركا إلى تقليصِ وإعادةِ تنظيم وجودها العسكري في المنطقة. ومن دون هذا التقليص، لن تكون هناك طريقة تستطيع الولايات المتحدة أن تتحرّرَ بها من إرث نهجها المشؤوم الذي يعطي الأولوية للأمن. وتُشَكّلُ الوحدات الصغيرة من القوات الأميركية التي لا تزال في العراق وسوريا مثالًا على ذلك. إن هدفها العسكري المُعلَن –الهزيمة الدائمة لتنظيم “داعش”– هو هدف مفتوح وغير قابل للتحقيق إلى حدٍّ كبير، لكن إبقاء هذه القوات في مكانها إلى أجَلٍ غير مُسمَّى يتطلّب النشر المستمر لمزيدٍ من القوات وأنظمة أكثر تقدمًا لحمايتها، ما يستنزف الموارد العسكرية الأميركية من دون فائدة تُذكر.

يُمكِنُ للولايات المتحدة أن تُخَفِّضَ وجودها العسكري في الشرق الأوسط تدريجًا من دون ترك الشركاء الإقليميين في خوفٍ من التخلّي عنهم، على الرُغم من أنَّ هذا التقليص قد يحتاج إلى الانتظار حتى تستقر الأعمال العدائية الحالية في المنطقة. أوّلًا، كنقطةِ انطلاقٍ سَهلة، يجب إعادة انتشار القوات والمنصّات الإضافية التي تمَّ إرسالها إلى المنطقة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). ثانيًا، يجب سحب معظم أو كل القوات الأميركية في العراق وسوريا. ويبدو أن عمليات الانتشار الأميركية في هذين الموقعين تعمل على تغذية التصعيد الإقليمي من جانب إيران ووكلائها بدلًا من ردعه. علاوةً، أشار القادة العسكريون الأميركيون إلى أنَّ شركاء الولايات المتحدة في العراق وسوريا يقودون الآن عملياتٍ فعّالة لمكافحة “داعش” بمفردهم، ما يشير إلى أن هناك حاجة أقل لاستمرار الوجود البري الأميركي في هذه المواقع وتقليل خطر عودة ظهور “داعش” في غياب القوات الأميركية.

أخيرًا، يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ تقليل وجودها في بقية المنطقة من خلال تعزيز القوات الأميركية عبر عدد أقل من المنشآت. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة التركيز بشكلٍ خاص على القواعد في البحرين والأردن والإمارات العربية المتحدة، والاستثمار بشكلٍ أكبر في مخزون المعدات والقدرات اللوجستية الجاهزة التي من شأنها أن تسمح للجيش الأميركي تكثيف العمليات إذا لزم الأمر. ويرى بعض المراقبين أن هذا التعزيز من شأنه أن يُشجّعَ خصومَ أميركا -وبخاصة إيران- على توسيع عملياتهم الإقليمية. ولكن على الرُغم من المخاطر الحقيقية التي تفرضها إيران، فإنَّ القدرات العسكرية المحدودة للبلاد لا تُبرّر الوجود العسكري الأميركي المكثف الضخم حاليًا في الشرق الأوسط. إنَّ وجود عدد أقل من القوات الأميركية المنتشرة في المواقع الرئيسة، إلى جانب قدرة واشنطن الواضحة على إرسال قوات إلى المنطقة بسرعة –كما حدث بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر- يجب أن يكون كافيًا لإدارة الاستفزازات الإيرانية.

ومن شأن هذا التخفيض أن يُقَلّلَ أيضًا من خطر التمدّد العسكري المُفرِط ويخلق مساحةً لواشنطن لتطويرِ نَهجٍ اقتصادي وسياسي أكثر شمولية تجاه المنطقة. ومع مشاركة عسكرية أميركية أقل، سيكون لدى أميركا المزيد من الوقت والموارد لإعادة توجيه سياساتها في الشرق الأوسط نحو الديبلوماسية والمشاركة المُجتمعية وفن الحكم الاقتصادي – وهي أدواتٌ من شأنها أن تساعدَ على معالجة التحدّيات الناشئة، بما في ذلك تغيّر المناخ والانتقال نحو الطاقة النظيفة، التي يتصارع معها الناس في المنطقة أصلًا.

علاوةً على ذلك، يُمكِنُ لواشنطن تعويض وجودها المُتضائل ودعم المنطقة بشكلٍ أكبر ضد النفوذ الإيراني من خلال بذل المزيد من الجهد لتقليل اعتماد الحلفاء والشركاء الإقليميين على الولايات المتحدة. ينبغي على واشنطن تمكين الجهات الفاعلة الإقليمية مثل الأردن والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وشركاء أميركا الآخرين لإنشاءِ تحالفاتٍ تُعالجُ الاحتياجات الأمنية الإقليمية ذات الأولوية العالية وإدارة التوترات الإقليمية بمشاركة محدودة من الولايات المتحدة. لن يؤدي هذا النهج إلى تقليل العبء الواقع على القوات الأميركية فحسب، بل سيُخفّف أيضًا من المخاطر الأمنية الأوسع نطاقًا الناجمة عن رد الفعل العنيف ضد الوجود العسكري الأميركي في المنطقة ويخلق أساسًا أكثر استقرارًا لعلاقة الولايات المتحدة مع هذه الدول.

بناءً على ذلك، سيحتاج تركيز واشنطن إلى التحوّل بعيدًا من عمليات نقل الأسلحة الباهظة الثمن والجهود المبذولة لبناء إمكانية التشغيل البَيني مع القوات الأميركية نحو الأنشطة التي تساعد الشركاء الإقليميين على العمل بشكلٍ مُستقل باستخدام الترسانات الكبيرة التي لديهم أصلًا، والقيام بذلك جنبًا إلى جنب مع جيرانهم. في الماضي، فشلت الجهود الأميركية لتشكيل تحالفاتٍ أمنية إقليمية في الشرق الأوسط بسبب المنافسات الإيديولوجية والشخصية بين الدول العربية، وكان الخلاف الطويل الأمد بين المملكة العربية السعودية وقطر هو المثال الصارخ، فضلًا عن التصوّرات المُتباينة حول أفضل السُبُلِ لإدارة التهديد الذي تُمثّله إيران مع وكلائها. على الرُغم من بعض التخفيف، فمن المرجح أن تستمر هذه التوترات، لكن يمكن للولايات المتحدة أن تعمل حولها من خلال التأكيد على أشكال التعاون الأضيق والتحفيز حول القضايا ذات الأولوية العالية التي تتعارض فيها المصالح، مثل الأمن البحري والدفاع الجوي. ويمكن لواشنطن أيضًا أن تُفَكِّرَ في تشجيع تشكيل ما يسمى بالتحالفات المُصَغَّرة –مجموعات صغيرة من ثلاث إلى خمس دول ذات أهدافٍ محدودة– والتي استخدمتها دول جنوب شرق آسيا بنجاح لإدارة قضايا الأمن الإقليمي، مثل القرصنة والصيد غير القانوني، بمفردها من دون الاعتماد على الولايات المتحدة أو الصين.

قد تكون هذه التغييرات بمثابةِ تحوّلٍ كبير في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعيدًا من النموذج الأمني الثقيل الذي تقوده واشنطن نحو نهجٍ أكثر توازنًا يحمل مخاطر أقل للتصعيد أو التمدد المُفرط ويسمح للقوى الإقليمية بأخذ زمام المبادرة.  لن يكون هذا النهج الجديد ضمانًا ضد الأزمات الأمنية الإقليمية المستقبلية، لكنه سيحمي مرونة واشنطن العسكرية والديبلوماسية، ويُقلّل من احتمالات تورّط واشنطن في حربٍ أخرى في الشرق الأوسط، ويحافظ على قدرة عسكرية أكبر لأولويات الأمن القومي الأخرى. ومع ذلك، إذا فشلت واشنطن في تغيير مسارها، فقد ينتهي بها الأمر إلى السير في طريقٍ مألوفٍ للغاية.

  • جينيفر كافانا هي زميلة أولى في برنامج فن الحكم الأميركي في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وفريدريك ويهري هو زميل أول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى