أرمينيا ضَحِيَّة لعبة الأمم

خسرت أرمينيا إقليم “ناغورني قره باغ” (آرتساخ) وستعود غالبية الأرمن في الاقليم إلى أرمينيا، وسيقفل التاريخ صفحة آرتساخ المجبولة بالدماء والدموع.

خريطة المنطقة قبل ضم آرتساخ إلى أذربيجان

السفير يوسف صدقة*

المحنة تلاحق الأرمن من جديد بعدما طاردهم القدر الوجودي منذ النكبة الكبرى في العام 1915. يبدو إنه قدر الدول الصغيرة في لعبة الأمم.

بعد تسعة أشهر من حصار أذربيجان لإقليم “ناغورني قره باغ” (آرتساخ)، قامت القوات الأذرية بهجومٍ صاعق على المنطقة بالمدفعية والطائرات المسيّرة، حيث ادّعت السلطة في باكو أنَّ هدف العملية العسكرية هو “مكافحة الإرهاب”. استسلمت القوات الأرمنية في الإقليم، بعد قصفٍ غزير وحصار اقتصادي خانق. وبدأت على الأثر تظهر المآسي، والتي تُذكّر العالم بحروب البلقان في التسعينيات الفائتة.

لقد أظهرت قنوات التلفزيون الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي الهجرة الجماعية اليائسة للعديد من أرمن “ناغورني قره باغ” البالغ عددهم 120 ألفًا إلى أرمينيا. ويبدو أن أذربيجان، بدعمٍ صريح من تركيا ودعمٍ غير مباشر من روسيا، مُصمّمة على محو أيِّ وجودٍ أرمني في هذه المرتفعات، على الرغم من تأكيداتها عكس ذلك. ولم يصدر عن الديبلوماسيين الأميركيين والأوروبيين سوى بيانات تعاطف. وخلاصة القول هي أنَّ سكان “ناغورني قره باغ” يشعرون بأن المجتمع الدولي قد تخلّى عنهم، ولا يرون أنَّ لهم مستقبلًا في أرض أجدادهم.

جذور الصراع الأرمني–الأذري

تعود جذور الصراع بين أرمينيا وأذربيجان إلى العام 1991عندما أعلنت منطقة “ناغورني قره باغ” استقلالها من جانبٍ واحد في العام 1991 بدعمٍ من يَريفان، وقد اندلعت حربٌ طويلة من العام 1988 إلى العام 1994 خلّفت ثلاثين ألف قتيل بين الطرفين، مُني فيها الجيش الأذربيجاني بهزيمة كبيرة حيث سيطرت خلالها القوات الأرمنية على مناطق أذرية.

وفي خريف العام 2020، اندلعت حربٌ جديدة أسفرت عن مقتل 6500 شخص، وخلال ستة أسابيع إنهار الجيش الأرمني، حيث تدخّلت في حينه تركيا بالمسيّرات وبإدارة المعركة بواسطة ضباط أركان في غرفة العمليات الأذرية. وقد أُجبِرَت أرمينيا على التنازل عن المناطق الأذرية المحتلة واحتلال جزء مهمّ من إقليم ناغورني “قره باغ” ومحيطه. وقد نشرت موسكو، التي أدّت دور الوسيط لوقف إطلاق النار، قوات تدخّل في المنطقة لحفظ السلام، لكنّ هذه القوات لم تتمكّن من حفظ السلام ووقف التطهير العرقي في المنطقة.

التداعيات

بعيدًا من الأزمة الإنسانية والخلفية التاريخية الممتدة لعقود من الزمن، فإن أزمة اليوم لها أيضًا تداعيات دولية مُتعدّدة.

الواقع أنَّ التنافس بين روسيا والغرب في هذه الأزمة ليس بعيدًا من تأجيجها. تكره موسكو بشدة ما يسمى “الثورات الملوّنة”، وكان صعود رئيس الوزراء نيكول باشينيان إلى السلطة في العام 2018 نتيجةً لواحدة حدثت في ذلك العام في أرمينيا. تولى باشينيان منصبه سلميًا من خلال الانتخابات، بل وفاز في انتخاباتٍ مُبكرة بعد هزيمةٍ عسكرية ساحقة أمام أذربيجان في أواخر العام 2020. بالنسبة إلى موسكو، فهو يُمثّلُ نسخةً ناجحة من أليكس نافالني، شخصية المعارضة الروسية، وأيّ مشكلة سياسية داخلية لباشينيان هي موسيقى مُمتِعة لآذان الكرملين.

فضلًا عن ذلك فإنَّ روسيا وتركيا لن ترحّبا بوساطة الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي في أزمة ناغورني قره باغ الحالية. وهذا يجعل موقف أرمينيا أضعف، على الرغم من أنها تتمتّع بدعمٍ سياسي غربي قوي. ولم تسفر الزيارات الحكومية الأميركية إلى أرمينيا وأذربيجان، أو مبادرات الاتحاد الأوروبي لعقد اجتماعٍ لكبار المستشارين من أرمينيا وأذربيجان في بروكسل، عن تقدّمٍ ملموس حتى الآن.

ويركب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الحليف الوثيق لباكو، موجة إعادة انتخابه الناجحة في أيار (مايو) الماضي، ويرى فرصتين لهما أهمية تاريخية في الأزمة الحالية. أوّلًا، يريد محو القضية الشائكة المتعلقة بالوجود الأرمني في ناغورني قره باغ من الأجندة الدولية. ويصف أردوغان بالفعل “النصر التاريخي” الذي حققته أذربيجان بأنه “مصدرُ فخرٍ” لتركيا. ثانيًا، يأمل في إنشاء ممر بري بين أذربيجان، وجيب ناخيتشيفان، وتركيا نفسها، وبالتالي إعادة توحيد أذربيجان وخلق استمرارية إقليمية بين تركيا والجمهوريات الناطقة باللغة التركية في آسيا الوسطى، وهو الإنجاز الذي سيكون رمزًا لجهود تجديد السياسة الخارجية للرئيس التركي. وليس من المستغرب أن يحظى ما يسمى بممر “زانجيزور” بمعارضة أرمينيا وإيران. وإذا تم إنشاؤه فإن مسألة السيطرة عليه ستصبح أحد الأبعاد الشائكة للأزمة الإقليمية.

من جهتها، تراقب إسرائيل أيضًاً المنطقة، نظرًا إلى تحالفها السياسي والعسكري القوي مع أذربيجان. وتُرجِمَ ذلك بتوفير الطائرات الهجومية المُسَيَّرة وبيانات الأقمار الاصطناعية خلال حرب العام 2020 ضد أرمينيا، وهما عنصران حاسمان في انتصار باكو في ذلك الوقت. إنَّ علاقات إسرائيل الديبلوماسية والعسكرية مع أذربيجان هي الأقرب حتى الآن مع دولة إسلامية، وتُشكّل وسيلة لتعزيز الموقف الإسرائيلي ضد إيران في حالة حدوث مواجهة محتملة.

أخيرًا، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقفٍ حرج مع أذربيجان بعد التوقيع في تموز (يوليو) 2022 على مذكرة تفاهم بشأن مبيعات الغاز. وقد تم تصميم هذه الاتفاقية لتقليل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي والاعتماد على باكو باعتبارها “شريكًا أكثر موثوقية وجديرة بالثقة”. ويبدو أن الصفقة، التي تعرّضت للانتقاد لأنها تتعارض مع هدف الاتحاد الأوروبي المتمثّل في إزالة الغاز من مزيج الطاقة (ليس من السهل تحقيقها في المدى القصير)، تبدو الآن بمثابة أداة أذربيجانية قوية للضغط على بروكسل.

رُغمَ أن المساعدات الإنسانية في طريقها بالفعل، إلّا أَّنَّ الأولوية التالية هي تقديم المساعدات الإنسانية للأرمن من ناغورني قره باغ. وستجد أرمينيا صعوبة في العثور على المساعدة والتمويل لوصول ما بين 60 ألف إلى 120 ألف شخص. وسيشمل ذلك السكن لفصل الشتاء، والتعليم للأطفال، والرعاية الصحية للجميع، ناهيك عن الوظائف المُدِرّة للدخل. ومثل هذا الوضع يمكن أن يُغذّي الاقتتال السياسي الداخلي في البلاد. والمشكلة هائلة بالنسبة إلى دولة بحجم أرمينيا، ولكن الخبرة والأموال متوافرة في الدول الغربية، وهي الجهة الوحيدة المحتملة التي تقدم مثل هذه المساعدة. وينبغي أن يكون هذا موضوعَ اتفاقٍ عاجلٍ ومُفصَّل وقابل للتطوير بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة والسلطات الأرمينية من جهة أخرى. ومهما حدث على الصعيد الديبلوماسي، فإنَّ على القوى الغربية واجب حماية اللاجئين الأرمن من الشتاء القاسي.

على الجبهة الديبلوماسية، ليس من المؤكد على الإطلاق أن الجهود الأميركية والأوروبية ستؤدي إلى نتائج إيجابية في الأسابيع المقبلة. السبب الرئيس هو أن الهجوم العسكري والمبادرة السياسية اللذين أطلقتهما أذربيجان في 19 أيلول (سبتمبر)، بمساعدة تركيا وموافقة روسيا، توضحان الهدف المشترك لزعماء الدول الثلاث: منع القوى الغربية من لعبِ دورٍ لتعزيز السلام الدائم والتعايش في جنوب القوقاز.

ويبدو من الواضح أن باكو تنظر إلى هذا على أنه “وقت الثأر” في ما يتعلق بالأرمن، وأن أنقرة تريد اغتنام الفرصة لمتابعة سياستها الخارجية التركية الشاملة وتأكيد زعامتها الإقليمية، وأن موسكو تهدف إلى إضعاف باشينيان والحفاظ على وجودٍ روسي في أرمينيا – قاعدة عسكرية، وحرس حدود، وبنية تحتية. وترغب موسكو أيضًا في التصدي لأيِّ وجود غربي كبير في البلاد. ويخشى المحللون من أن يكون السلام الدائم احتمالًا بعيد المنال، لأنَّ تنفيذَ اتفاق السلام يتطلب دعمًا ومراقبة دوليين قويين، وإلّا قد يحدث المزيد من العنف.

سوف تتأثر المناقشة التي سيعقدها المجلس الأوروبي في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) في غرانادا (غرناطة) بثلاثة أمور. أوّلًا، الأولوية القصوى المتمثلة في الحفاظ على الدعم لأوكرانيا ضد العدوان الروسي. ثانيًا، إيجاد أرضية مشتركة بين أعضائه بشأن أرمينيا (المجر هي الدولة المعترضة، كما أكدت وكالة الأنباء الأذربيجانية الرسمية). وثالثًا، إنتاج مزيج متوازن وفعال من السياسات بين الإجراءات الإنسانية والتدابير الأكثر عمومية بشأن إمدادات الغاز، واتفاقية السلام بين أرمينيا وأذربيجان، والضمانات الأمنية المرتبطة بها. قد تكون مذكرة تموز (يوليو) 2022 عائقًا كبيرًا أمام عمل الاتحاد الأوروبي في المستقبل.

في نهاية المطاف سوف يتبين أن أزمة ناغورني قره باغ كانت بمثابة اختبار آخر للتنافس الروسي-الغربي ومصداقية الاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية.

في المحصلة النهائية، خسرت أرمينيا إقليم “ناغورني قره باغ” وستعود غالبية الأرمن في الاقليم إلى أرمينيا . وسيقفل التاريخ صفحة آرتساخ المجبولة بالدماء والدموع. وستعود التراجيديا تخيّم في قلب كل أرمني من مجازر العام 1915 الى التخلّي عن ناغورني قره باغ. إنه القدر التركي يطارد الأرمن في كيانهم وتاريخهم.

هذا هو قدر الأمم الصغيرة في لعبة الأمم، حيث لا تنال سوى التعاطف والاستنكار والبيانات العاطفية، أما الدعم الفعلي فيكون من نصيب الدول الغنية مثل أذربيجان مدعومة بالفكر الطوراني (أو البانطوراني) الذي يجسده الرئيس التركي.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى