بين “طوفان الأقصى” و”عملية السيوف الحديدية”

الدكتور ناصيف حتّي*

لم يكن مُفاجِئًا حصولُ انتفاضةٍ فلسطينية مُسَلَّحة (الإنتفاضة الثالثة)، وكنّا حذّرنا منذ عامٍ تقريبًا، كما حذّرَ غيرنا، وكرّرنا ذلك مرارًا في مقالاتٍ عديدة أنَّ الانفجارَ آتٍ وأنَّ الكَيلَ قد طفح، وتكفي شرارةٌ بسيطة لتُشعِلَ الانفجارَ الذي حصل.

وللتذكير، فقد أكملَ اتفاقُ أوسلو أو ما عُرِفَ باتفاقِ إعلانِ المبادىء الفلسطيني-الإسرائيلي عقده الثالث في الشهر الماضي، والذي أطلَقَ مرحلةً انتقالية (تشمل بالطبع مفاوضات) وتستمرُّ لفترة سنواتٍ خمس من الزمن، وتنتهي بالتسوية الدائمة على أساسِ قرارَي مجلس الأمن الدولي ٢٤٢و ٣٣٨. وكما ذكر رئيس الوزراء  الفلسطيني محمد اشتية أمام اجتماعِ المانحين في الشهر الماضي في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة، فإنَّ اتفاقَ السلام تَبَخَّرَ في كلِّ الجوانب الأمنية والسياسية والقانونية والمالية. وقد اعتبر كثيرون أنَّ الاتفاقَ دخلَ في حالةِ موتٍ سريري رُغمَ العديد من المحاولات عبر اجتماعاتٍ ثنائية ودولية هدفت لإنعاشه، ولكنها لم تُمارِس ما يُفتَرَض أن تقومَ به من ضغوطٍ على سلطات الاحتلال لتُحرّرَ خريطة الطريق التي نتجت عن ذلك الاتفاق وتُعيدُ تغعيلها. وقد دلّت السياساتُ الإسرائيلية غداة أوسلو على أنَّ الهدفَ من الاتفاقِ لم يَتَخَطَّ مَنحَ بعض الصلاحيات البلدية للسلطة الفلسطينية وبعض المسؤوليات الأمنية نيابةً عن سلطات الاحتلال في واقعِ الأمر. كما إنَّ الاتفاقَ كان يُفتَرَضُ أن يفتحَ البابَ تدريجًا أمامَ مسار التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية، الأمرُ الذي يُشَكّلُ هدفًا استراتيجيًا لاندماج إسرائيل في المنطقة والاستفادة من ذلك في مختلف المجالات. سقط “الملف الفلسطيني” عن جدول الأولويات الإقليمية، مع وجود قضايا ضاغطة ومُشتعلة في الإقليم، ومع حالات الضعف والتفكّك والانقسامات التي نخرت الجسم السياسي والمؤسّسي الفلسطيني .

حكومةُ اليمين الصهيوني الديني التي جاءت  بشكلٍ علني لتطرح تحقيق الحلم الصهيوني بإقامةِ إسرائيل الكبرى من نهر الأردن إلى المتوسط عبر سياسة صدامية قائمة على تهويد الديموغرافيا والجغرافيا، وذلك في ظلِّ صمتٍ عربي ودولي لا يتخطى في أفضل حالاته الإدانة والتحذير والمناشدة. ساهمَت أيضًا بشكلٍ كبير في إشعال صاعق التفجير الاعتداءات الإسرائيلية المُتكرّرة على المسجد الأقصى وعلى الأماكن والرموز الدينية الإسلامية والمسيحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمرُ الذي هَيَّأ الأرضية لإطلاق انتفاضة “طوفان الأقصى” لحركة “حماس” وانضمت إليها حركة “الجهاد الاسلامي”. وتشهدُ الأراضي الفلسطينية حربًا على الحدود الفاصلة بين شرق قطاع غزة وإسرائيل، وتحوّلًا نوعيًّا في القتال إذا طال الحكومة الفلسطينية وتل ابيب والداخل الإسرائيلي .

وتُذكّرنا الحربُ التي انفجرت والتي أطلقت عليها إسرائيل “عملية السيوف الحديدية”، كما كانت سمت الحرب ضد غزة في صيف ٢٠٠٦ والتي امتدت إلى تشرين الثاني (نوفمبر) ب”عملية أمطار الصيف” .

الوساطات والمبادرات الديبلوماسية انطلقت بهدف خفض التوتر والتهدئة، ولكن ذلك لن يُوَفّرَ الاستقرارَ المنشود والحقيقي وبالتالي الدائم، والذي يقومُ على إحياءِ عملية السلام ووضعها على سكة التسوية، حسب المرجعيات الدولية ولو بشكلٍ بطيء.

رُغمَ أنَّ القضية الفلسطينية ليست على سُلَّمِ الأولويات الدولية ولا الإقليمية، ولكن مخاطر استمرار التوتر والقتال والدخول في حرب استنزاف ممتدة تشهد تخفيضًا وتصعيدًا، ولو نجحت الأطراف المعنية موقتًا في احتواء التصعيد، يحمل انعكاسات سلبية على مستوى الإقليم وعلى مصالح القوى الدولية المعنية فيه ولو بدرجاتٍ مختلفة. الرباعي الدولي (الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الإتحاد الأوروبي  وروسيا الاتحادية) لا يمكنه أن يكون فاعلًا حاليًا، ولم يكن ذات فعالية كبرى اساسًا، بسبب الخلاف الروسي-الغربي في إطاره مما يشل قدرته على لعب أيِّ دور.

بقي أنَّ هناكَ قوى دولية وإقليمية مختلفة منها أطراف الرباعي قادرة أن تلعب دورًا، ضمن صيغ وهياكل تعاون متعددة، لإعادة إحياء عملية السلام. بالطبع يبقى العائقُ الرئيس أمامَ وَضعِ عملية السلام على سكة التسوية، وهي سكة طويلة، مُرتبطًا بقدرة العامل الدولي وكذلك الإسرائيلي الداخلي متى شعر الأخير بالسخونة وانسداد الأفق أمامَ تحقيقِ اهدافِ الحكومة الحالية، وبمخاطر انفجار الوضع والذهاب نحو المجهول وإحداثِ التغيير المطلوب داخليًا: تغيير الحكومة أو تغيير جذري في سياساتها، وهذا الأمرُ الأخير مُستَبعَد، لأنه ليس بالأمر السهل أو سريع التحقيق ولكنه بالممكن مع الوقت كشرطٍ ضروري، وأيضًا غير كافٍ لتلافي انفجارٍ كبير ستكون له ارتداداته في الإقليم بدرجاتٍ ومستوياتٍ مختلفة.  تلافي الانفجار بدل استراتيجيات تاجيله وشراء الوقت عبر مراهم التهدئة والاحتواء والوعود تستدعي ولوج باب التسوية الشاملة والعادلة وبالتالي الدائمة للصراعِ ذي الأوجه والأبعاد والتداعيات المختلفة على أطرافه وفي الإقليم، وأعتقدُ أننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق ذلك. ولكن تلك التسوية البعيدة تبقى المدخل الواقعي الوحيد لنزع فتيل الانفجار والدخول في مسارِ بِناءِ الاستقرار.

كلمة أخيرة: ماذا حول لبنان؟هل يحصل تصعيدٌ مُقَيَّدٌ على الحدود، نشهد إرهاصاته حاليًا، تصعيدٌ من نوعِ تبادل رسائل تحذير وردع استباقي. فلا مصلحة لأحد بانفجار الوضع والذهاب نحوالمجهول. ولكن يبقى الحذر قائمًا، فأيُّ تصعيدٍ عبر “لعبة تبادل الرسائل” قد يؤدّي إلى الإنزلاق نحو الحرب المفتوحة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى