هل تستطيع المقاومة الشعبية السلمية تحرير فلسطين؟

إن غياب دعم النخبة الفلسطينية العملي للاحتجاجات السلمية واللاعنفية في فلسطين يجعل النموذج المحلي للمقاومة محكوماً بالبقاء على الهامش.

عهد التميمي تواجه جندية إسرائيلية قبل أن تصفعها: صارت رمزاً للإحتجاجات الشعبية الفلسطينية

بقلم محمود جرابعة*

الإحتجاجات السلمية الأسبوعية في قرية النبي صالح، شمال غرب رام الله، ضد مصادرة أراضي القرية من قبل المستوطنين من مستوطنة حلميش، كانت غير معروفة إلى حد كبير إلى أن ألقي القبض على عهد التميمي، إحدى المشاركات فيها في 19 كانون الأول (ديسمبر) الفائت بعد ظهور شريط فيديو لها وهي تصفع جندياً إسرائيلياً، والذي إنتشر بشكل كبير على مواقع التواصل الإجتماعي. لقد إعتقلت السلطات الإسرائيلية التميمي وهي تخضع منذ 13 شباط (فبراير) للمحاكمة في محكمة عسكرية إسرائيلية. وبحثاً عن رمز قوي عاطفي لحشد المؤيدين، يحرص النشطاء والحركات الشعبية، في مثل الاحتجاجات الأسبوعية في النبي صالح، على تشجيع التميمي والإشادة بها، وبأمثالها من الشباب، وإعتبارها من الشخصيات الملهمة التي يُمكن أن تحفز الناس وتجذب الإنتباه الدولي لإحتجاجات القرية وتصبح بالتالي جزءاً من وجه جديد لما يشير إليه الفلسطينيون بـ”المقاومة الشعبية”. ومع ذلك، فإن غياب دعم النخبة العملي لهذه الاحتجاجات اللاعنفية يجعل نموذج هذا النوع من المقاومة محكوماً بالبقاء على الهامش.
تدعم الفصائل السياسية الرئيسية، بما فيها حركتا “فتح” و”حماس”، المقاومة الشعبية من حيث المبدأ. لقد إتفقت الحركتان من خلال إتفاقات المصالحة المختلفة التي جرت عبر السنوات الماضية على إعتماد المقاومة الشعبية. ومع ذلك، لم يقم أيٌّ من الفريقين بتطوير إستراتيجية تُعطي الأولوية لها أو تتبعها. وسواء في غزة أو في الضفة الغربية، لا تزال “حماس” تُعطي الأولوية للمقاومة المسلحة وتحاول إعادة بنائها. العديد من سكان قطاع غزة، الذي يخضع للحصار منذ أن سيطرت “حماس” عليه في العام 2007، لم يعد يرى المقاومة الشعبية كخيار. وفي الضفة الغربية، تنظر “حماس” إلى المقاومة الشعبية وإسهامها المُحتمَل في القضية الفلسطينية بشك. فهي تعتقد أن المقاومة الشعبية لن تكون قادرة على وقف توسيع المستوطنات الإسرائيلية أو الرد على هجمات المستوطنين على الفلسطينيين.
وفي الوقت نفسه، فإن حركة “فتح” يعوقها التداخل المؤسسي ما بين الحركة ومؤسسات السلطة الفلسطينية الرسمية ولا سيما الأجهزة الأمنية، التي لها مصلحة في إحتواء كل نشاط سواء كان عنيفاً أو سلمياً. وقد إستقبل الرئيس محمود عباس عائلة عهد التميمي بعد إعتقالها، واصفاً المقاومة الشعبية بأنها “سلاح قوي بيد الشعب الفلسطيني يكشف زيف الاحتلال، ويظهر للعالم أجمع وحشية هذا الإحتلال”. ومع ذلك، لم يُسخّر عباس قوة هذا الجيل الجديد من الناشطين لبدء الإحتجاجات في أنحاء الضفة الغربية. وهذا يعكس موقف “فتح” الغامض والخوف من أن الإحتجاجات قد تتحوّل إلى إنتفاضة شاملة يُمكن أن تنقلب ضد الحركة، التي ينظر إليها كثير من الفلسطينيين كجزء من بنية قديمة وغير فعالة بل فاسدة.
ففي حين أن الإنتفاضة الأولى أعادت تنشيط منظمة التحرير الفلسطينية، التي بقيت المنظمة الوحيدة القادرة على الحكم في فلسطين، فإن إنتفاضة الأقصى التي تحوّلت إلى العسكرة أضعفت بشدة منظمات السلطة الفلسطينية بعد أن دمرت إسرائيل غالبية مؤسساتها عندما إجتاحت الضفة الغربية. وهذا ما يُفسّر الإستجابة المُتردّدة لعباس لأي إحتجاجات جديدة. إن الرئيس الفلسطيني يخشى من أن تؤدي موجة جديدة من المقاومة الشعبية إلى فقدانه السيطرة على حركة “فتح” أو خلق قادة محليين ينافسون السلطة الفلسطينية الهشّة أصلا كما حدث في إنتفاضة الأقصى.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن المجلس المركزي الفلسطيني، وهو أعلى هيئة تشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قد قرّر في العام 2015 إنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، لا يزال عباس يُحافظ على هذه الترتيبات، وبالتالي فهو مُلزَم بوقف أي إحتجاجات شعبية في الضفة الغربية. وتخشى السلطة الفلسطينية أيضاً من أن يتم إختطاف الإحتجاجات السلمية من قبل جماعات أخرى عنيفة أو أن تتحوّل إلى إحتجاجات عنيفة من تلقاء نفسها، مما يجعل إسرائيل والولايات المتحدة تحمّلان السلطة الفلسطينية المسؤولية وتبعاتها. ومع المشاعر الغاضبة من الهجمات العنيفة الأخيرة، مثل تلك التي وقعت في كانون الثاني (يناير) الفائت والتي قتلت خلالها كتائب عز الدين القسّام التابعة ل”حماس” حاخاماً في نابلس، تخشى السلطة الفلسطينية من إمكانية خروج الاحتجاجات عن السيطرة في إنتفاضة مسلحة جديدة، على غرار إنتفاضة الاقصى. وبالتالي فإن عباس مُستعدٌ لإجهاض الإحتجاجات حتى وإن كان ذلك يضعف شعبيته من طريق زيادة الاعتقاد السائد لدى الفلسطينيين بأن السلطة الفلسطينية مستعدة حتى لتقديم معلومات أمنية لإسرائيل لتنفيذ الاغتيالات ضد الناشطين الفلسطينيين.
ونتيجة لذلك، فإن المقاومة الشعبية والإحتجاجات السلمية التي تُمثّلها التميمي لا تحظى بتأييد واسع بين الفلسطينيين. ففي إستطلاع للرأي أُجري في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أيد 44 في المئة من الفلسطينيين إستئناف العمليات العسكرية بإعتبارها “أكثر الوسائل فعالية لإقامة دولة فلسطينية”، مقارنة بنسبة 35 في المئة في إستطلاع أُجري قبل ثلاثة أشهر. بالمقارنة، فقد فضّل 27 في المئة المفاوضات و23 في المئة فقط فضلوا المقاومة الشعبية السلمية. ونظراً إلى عدم توفّر الدعم الشعبي على نطاق واسع، فإن هذه الإحتجاجات اللاعنفية إقتصرت إلى حد كبير على المناطق المتأثرة بالجدار الفاصل أو المستوطنات، وفشلت في وضع خطة عملية متكاملة. وقد دفعت إتهامات من قبل بعض فلسطينيين بأن هذه الاحتجاجات يديرها نشطاء أجانب وبتمويل أجنبي العديد من الفلسطينيين إلى النظر إلى الاحتجاجات بشك، بخاصة عندما ينضم إليها نشطاء إسرائيليون – بعضهم خدم سابقاً في أجهزة الأمن الإسرائيلية. إن صغر حجم حركة المقاومة الشعبية يجعل قادتها غير قادرين على الجمع بين الفلسطينيين، ناهيك عن لفت الإنتباه الدولي إلى القضية التي طال أمدها.
يبدو أن هذا النوع من الاحتجاجات الشعبية محكوم بالبقاء على الهامش. ومن دون دعم النخب السياسية الفلسطينية العملي، من غير المرجح أن تحظى المقاومة الشعبية اللاعنفية بتأييد شعبي واسع. وبما أن عملية السلام ميتة بشكل أساسي، فلا عجب أن يرى العديد من الفلسطينيين بأن المقاومة المسلحة هي الخيار الأفضل.

• محمود جرابعة، باحث في مرحلة ما بعد الدكتورة في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية، ألمانيا. لمتابعته عبر تويتر: MahmoudJaraba@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى