حَربُ غزّة: صَمتٌ خَجول وصَمتٌ خَبيث

سليمان الفرزلي*

يستطيعُ المُراقِبُ للدينامية التي أطلقتها حَربُ غزَّة في جميع أنحاء العالم أن يفهمَ الموقفَ الداعم لإسرائيل من قبل الدول الأوروبية. فالدول الأوروبية هي جُزءٌ من الحالة الصهيونية العالمية، ومُنضَوية في حلف شمال الأطلسي الحامي للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، والشرطي الحارس للمصالح الغربية حول العالم. وهذا التشخيص للدول الأوروبية ليسَ من نَسجِ الخيال، بل هو مُسَجَّلٌ بالصوتِ والصورة عندما تهافت الزعماء الأوروبيون على زيارة الكيان الصهيوني للتضامن معه في بداية حرب غزَّة، مُقتَدين بالرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكِن. وهم وقفوا هذا الموقف العلني حتى في وَجهِ شعوبهم التي هالها حجم الإبادة والدمار الذي أنزله الصهاينة بالشعب الفلسطيني، وكأنّهم يقولون لشعوبهم، قبل بقية العالم، إنّهم مع الكيان الصهيوني ظالمًا أو مظلومًا.
فالشعوب الأوروبية تضامنت مع اليهود عندما كانوا مظلومين، لكنَّ القوى الحاكمة في أوروبا تريدهم أن يتضامنوا مع الصهاينة عندما يكونون ظالمين أيضًا. وتفسير ذلك ليس صعبًا، وهو أنَّ الدول الأوروبية هي التي أنشأت دولة الاغتصاب الصهيوني في فلسطين المحتلة، وهي التي رعتها من البداية، وترعاها اليوم تحت قيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. والشعوب الأوروبية في غالبيتها، بسبب السيطرة الإعلامية الصهيونية الشاملة، لم تكن تعرف كيف يُدار العالم. لكن معرفتهم أخذت تتزايد مع كلِّ حربٍ كانت تشنّها القوى الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، في بلدانٍ عديدة نائية، تحت سرديات مُلَفَّقة، أو مُفتَعَلة، ووحيدة الجانب. بمعنى منع أو طمس أي رواية للجانب الآخر المُعتَدَى عليه بحجة أنه هو المُعتَدي.
لكن ما جرى في قطاع غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية كَشَفَ المستور، لأنَّ الفلسطينيين هناك مُحاصَرون حصارًا خانقًا، وكأنّهم جميعًا في معسكر اعتقال، وفريسة سهلة للصيد. كلُّ المعابر مَسدودة، وكل المسالك مُقفلة. يعيشون عيشةً مُرَّةً في حالةِ نقصٍ دائمٍ في الغذاء والدواء والوقود، ومعظمهم في مخيماتٍ للاجئين يعيشُ على صدقاتٍ مُتقطعة من الأمم المتحدة التي تعمل تحت أمرة الدول الغربية. هذا مشهدٌ لا يستطيع العالم أن يتحمّله خصوصًا أنَّ الكيانَ الصهيوني تَمادى في عدوانيته إلى درجة نفي إنسانيته هو بالإفراط في عمليات الإبادة النافية لإنسانية الشعب الفلسطيني، فكأنه ينحرُ قطيعًا من المواشي في مَسلَخٍ مُغلَق.
في البداية كان للحكومات الأوروبية حركة وضجيج، لكن مع الصمود الفلسطيني وتغيُّر المناخات الشعبية داخل بلدان تلك الحكومات، بدأت تلتزم الصمت، خصوصًا بعد تحرُّك حكومة جنوب إفريقيا بإقامة دعواها أمام محكمة الجنايات الدولية ضد أعمال الإبادة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في قطاع غزَّة. لكن هذا النوع من الصمت هو الصمت الخبيث. فاستهتارُ أميركا، وباقي الدول الغربية السائرة في ركابها، بالقوانين الدولية، وبالمبادئ الأخلاقية، وبالحقوق الإنسانية، هو منبت الاستهتار الصهيوني. فقد أسقطت القضية الفلسطينية من أيدي تلك القوى الموالية للصهيونية إشهار سلاح انتهاك الحريات، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، والقوانين الدولية، في وجه كل جهة لا تعجبها كما كانت في السابق، لأنها الآن أمام حالةٍ شعبية يقظة لا تنطلي عليها أيّ رواية وحيدة الجانب.
أما صمت الدول العربية والإسلامية فبعضه خجولٌ وبعضه تستُّر على انحرافاتٍ لم يُتَح لها أن تأخذ مداها. ومصدر الخجل أنَّ جهةً غير عربية وغير إسلامية هي التي تجرَّأت على مقاضاة إسرائيل نيابةً عن الشعوب العربية والإسلامية. وهذا الشعور بالخجل هو شعورٌ مُرَكَّب، لأنه ليس نابعًا من شعورٍ بالذنب لعدم المبادرة، أو للشعور بالعجز، بل لأنها كانت تقف على عتبة التطبيع مع الكيان الصهيوني عندما داهمتها الحرب، فوقفت حائرة مشدوهة.
صحيحٌ أنَّ معظم دول العالم لا يُعوِّل كثيرًا على المحكمة الجنائية الدولية، لكن تلك الخطوة من قبل دولة جنوب إفريقيا، صاحبة التجربة الرائدة في دحر التمييز العنصري، والاستيطان الاستعماري، لها قيمة رمزية وأخلاقية كبرى، لأنها الأنموذج الأرقى والأرفع أخلاقية بين حالاتِ مقاومة الاستعمار حتى الآن. وربما كان ذلك من أسباب الصمت العربي والإسلامي، من حيث إنَّ كلمة جنوب إفريقيا هي كلمة مسموعة ولها صدى كبير في كل أنحاء العالم، بينما كلمة الدول العربية والإسلامية ليس لها مثل هذا الوزن في عالم اليوم، باستثناء الوزن المادي للدول النفطية، وهو حتى الآن وزنٌ ضاغطٌ عليها أكثر مما هو مَبعثُ قوة فعلية في يدها.
هما صَمتان أصَمَّان إزاءَ حالةٍ واحدة، صمتٌ مفهوم وصمتٌ غير مفهوم!

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى