مَن يَذبح اللَّيمون!؟

طرابلس الفيحاء: صارت صندوق بريدٍ لرصاصِ القتلة، منذ أن جندلوا ليمونها

 

بقلم رشيد درباس*

إن طرابلس لم تكن لتظن أن الفوضى المُستدامة، هي سياسة الحكم، لولا أن العجزَ كان موازياً لسوء النيّة. (عمر مسقاوي)

صارت الفيحاء صندوق بريدٍ لرصاصِ القتلة، منذ أن جندلوا ليمونها، وخلعوا عن كتفيها انسدال الخضرة وعن رأسِها وشاحَ الزهر، وخنقوا في صدرِها الأكمام حتى حَشْرجَ العِطْر وَخَرَّت بساتينُها يابسةً تحت الفؤوس.

لا أكتب تاريخ المدينة، على الرغم من أنّي ربيبُ مراحلها؛ فقد هلكت مني عقود في طريق جلجلة مُتناسلة الأزقة المعتمة، وبلغتُ أرذل العمر لأرى شعب طرابلس نهبًا “لنضال” السَّفلة، وأصحاب شركات الإجرام السياسية، الذين بقفازاتٍ بيضاء كاذبة، أقفلوا قلوبهم عن الخير، وطاحت يمناهم بشمال البَوْصَلَةِ، وأضلّوا الناس طريق مصالحهم فألهَوْهم بالقنابل والمولوتوف في هامشٍ مُخَلَّقٍ، يكاد يحتلُّ المتن، ويفتك بالأصل،  مُستغلّين غياب الدروع السياسية والفكرية التاريخية باستشهاد المرجعية الكرامية وإبعاد عبد المجيد الرافعي، وتحوّل الأحزاب العقائدية العريقة إلى مخلفات حرب.

زرع الجدود على خصر المدينة حزاماً أخضر يصدُّ عنها رطوبة البحر وسفَّ الرياح والرمال، فمزَّقَه أصحاب الجهالة الجهلاء الذين افترست جرافاتُهم البساتين، طمعًا بأرصدة في المصارف على حساب الليمونة العريقة الكريمة، التي واظبت على تقطير خيرها بلا كلل منذ أن كانت طرابلس. أسقطوا نصيفها وما اتقوا عُرْيَها بكفٍّ أو سعفة نخيل، وأغَرْوا بها عين الدخيل ولؤم البخيل؛ فكيف تكون للأقدمين بصيرة نفاذة، فيما تتنصل عيون أبناء العصر من سرحة الأخضر المفضي إلى الأزرق، وتغضي عن اغتصابها بأبنية عدوة التاريخ والجغرافيا.

كانت مدرسة الفرير بأسوارها المُلَوَّنة بالزهر الأحمر، تقبع في عمق طرابلس التاريخية، ومدرسة الأميركان في قُبَّتِها، ومدرسة الطليان في رَوْنَقها، والليسية الفرنسية في شارعها الرئيس، والقلبين الأقدسين في مينائها، وكلها تعج بالراهبات والرهبان والقسيسين، ومنهم الأجانب الذين ألِفَتْ قلوبهم أذان الصلوات، وتساكنوا مع النسيج وغزلوا من معارفهم خيوطًا مُضمَّخة برائحة المكان، واستقبلوا في صالاتهم كبار الشعراء والمفكرين، وربَّوا الأجيال المُقيمة والوافدة، وألَّفوا بين التلامذة، واتخذوا من اليخضور، أي “الكلوروفيل”، حمامًا زاجلًا موصلًا للثقافات عبر شميم التراث وعبير الانفتاح، لكن الإرساليات هُجِّرَتْ لحساب “العدو العقاري” وخرجت إلى الجوار ففقد الطلاب لذة الذهاب إلى المدارس سَيْراً أو على دراجات  هوائية، وحرمت الأسواق من الأنس الأجنبي، وخنق الإزدحام أصوات الأجراس المدرسية، وأسلم الطبشور غباره اللذيذ إلى تلوّثِ المحرّكات، وأقفل نادي نفط العراق بمناخه الثقافي الراقي وكذلك قصر المنتزه وتلاشت همزة الوصل بين الأقضية فتوارت إلى ضباب الذاكرة مدينة (كوسموبوليت) ضاهت الاسكندرية بتنوعها، فيما كانت من قبل مقراً لقناصل الدول الكبرى.

كان النَّحاسون يطرقون على الأواني ليستدرجوا الغريب والبعيد إلى سوقهم ، ويؤلفِّون مع خرير “أبي علي” أنشودة طرابلس، فُطُوِيَ الخرير واستبيح “البازركان” وأقْعَتِ القلعة على تَلَّتِها شاهدة حزينةً على مشهد حزين.

أما مصانع طرابلس الكثيرة والمتنوعة فقد هوت تحت مطارق “الحركة المطلبية”، وتَخَفُّفِ الأنجالِ من ثقل صناعة الآباء، وإيثارهم التجارة على الريادة، فأرسلوا العمال المهرة إلى بيات مديد، فازدادت المدينة فقرًا، والنفوس قهرًا، وغُصَّت شمس الشروق التي كانت ترسل أشعتها مع آلاف الدراجات الهوائية، يمتطيها النَّساجون والنجارون وصاهرو الحديد، وعمال المشروبات والمرطبات ذهابًا إلى أعمالهم، وخلت الدروب من حيوية المنتجين، وامتلأت بالمتسكعين يزحمون الغروب بتثاؤب البطالة.

ثم حلت سنة 1975  بأحداثٍ مريرة معظمُها من صنع ذوي القربى الذين عاملوا طرابلس بالاستهانة واستباحوا كرامتها واقتصادها. فإنَّ “الإخوان” حين اختلفوا على الوسيلة الفضلى لتحرير الجولان متراً متراُ والقدس الشريف شبرًا شبرًا، كان لهم شرف تدمير مصفاة طرابلس، خزّانًا خزّانًا، ومنشأة خلف منشأة، وقصفوا المصبَّ لكي يهرب المنبع، ويشيح بسُفُنِهِ إلى حيث تُكرَم وفادة مراسيها،  واستحدثوا في ما بعد الفتنة السنية العلوية، وأجَّجوا الفتنة الإسلامية المسيحية، واتخذوا من المنازل الفقيرة حقول رماية لقذائفهم، وزعزعوا المؤسسات، وجففوا الموارد، وامتصّوا رحيقها، وأرادوها الفيحاء “إمارة” نصبوا عليها مأمورين غرباء عن نسيجها و “قاعدة” ينسب إليها الإرهاب.

في إحدى روايات التاريخ المختلف عليها، أن المدن الثلاث، صيدون وصور وأرواد، كانت تتبادل التجارة والسياسة في منطقة وسطى، أنشأت كل مدينة فيها سوقًا ومقرًّا فكانت طرابلس؛ أما في التاريخ القريب الذي لا خلاف عليه فإن “نزار الدمشقي” أقام جسرًا بين فيحائه وفيحائنا، ثمَّ عَبَرهُ إلينا قائلًا: “من ذا الذي يرفض السكنى في قارورة طيب؟ استقبلتني رائحة زهرات النارنج… فهل تريدون لمدينتكم حدودًا أحلى من هذه الحدود التي لا تُرى ولا تُلمس؟ هذه أول مرة أقف فيها على منبر من صنع نيسان، وأنا حزين لأنني لا أستطيع أن أضيف فلذة جمال واحدة إلى هذا المرفأ الذي يغزل الجمال”. يردنا هذا إلى ذلك “الشعار الرجعي” الجميل الذي أطلقه ابن بار لطرابلس حين اقترح على مَن يُرشّح نفسه لرئاسة البلدية أن يتعهّد بإعادة المدنية خمسين عامًا إلى الوراء؟

ونرى في الحاضر الملموس، أن معرض رشيد كرامي الدولي الدرة المعمارية العالمية، تتآكل منشآته، وتصفر قاعاته وردهاته من إدمان الخواء، وأن منطقة اقتصادية خاصة أقرت بين العامين 2008 و2009، نامت في أدراج الانتظار والإهمال واللامبالاة، فما أن تحركت قليلًا حتى عادت إلى سُباتها العميق، وكانت خليقة بأن تكون أشبه “بجبل علي” في دبي، تنشط في نطاقها دورة اقتصادية جبارة.

ليست السطور السابقة رقيمًا أو نشيد حسرة، بل إشارة واضحة إلى أن طرابلس ذات هوية عصت على أنواع العبث وأنسال العابثين: رفضت أن تكون ملاذًا للتطرف، فأهالي الثغور أصدقاء الموج والسفين والأفق، وأبت أن تكون “قلعة”، فسمة الثقافة الإسلامية الانتشار لا التحصّن خلف الأسوار المنيعة، وأحبطت الأحلام المريضة، إذ لم يستهوِها يومًا العرَّافون والدجّالون والسَّاعون إلى أوائل التاريخ، ولن تكون مختبرًا لمشاريع هجينة، لأن العريقة لا تبحث عن هوية كما ذهب بعضهم، بل أكاد أقول إن دستور الطائف قاس عليها عندما دَوّن أن لبنان بلد عربي، ووطن نهائي لأبنائه جميعًا.

لكن علينا الاعترافَ بأنها تكاد تستنزف مناعتها المعروفة، بسبب نقص الأوكسيجين وفقر الدم الحاد، وسوء التغذية الذي أدى إلى تفشي التقرُّحات وانتشار الالتهابات، وتناسل الأوبئة في جسد مدينة لا تشغل حيِّزًا ولو صغيرًا من اهتمام الدولة التي أهملت شؤونها ومرافقها، وإنماءها، ولم تجد ضرورة للعناية بأمنها، بل تركتها نهبًا للدورات العنفية، وساحة مُستباحة لمن كان ينوي إسقاط جوهر انتمائها إلى لبنان بتدمير المراكز الرسمية وإحراقها، في استغلال بشعٍ للنقمة العارمة التي تعمر قلوب اللبنانيين جميعهم – والطرابلسيون من أوائلهم – من جراء التدمير المنهجي لبنية الدولة والعبث بدستورها، وصولًا بلبنان إلى الحصار والانهيار وتفشي الوباء وفقدان الدواء وتعميم الفاقة، خدمة لمشاريع سلطوية، بَيِّنَةِ الفساد والفشل. وهذا ما حدا بي إلى الارتياب بأن إحراق مبنى البلدية التراثي صنعته أيدٍ ثلاث، واحدة أضرمت النار،  وأخرى كان واجبها منع الحريق فلم تفعل، لأن يداً ثالثة عُلْيا كَبَحَتْها عن ذلك، بل حجرت الماء في حلوق خراطيم الإطفاء، بغرض إسقاط طرابلس من داخلها، بوساطة بعض المراهقين المُضَلَّلين من أبنائها وبعض الدخلاء، وذلك لمصلحة أغراض سياسية، قد تكشف ظهر الرئيس المكلف وتحمله المسؤولية أو تضع الطرابلسيين كلهم في خانة الشك وتبادل الاتهام بين ساعٍ لزعامة أو مُتداركٍ لها أو باحثٍ عن حصته في تركة ضائعة ، فيما يعيث الفاسدون ويستثمرون في البؤس المتمادي لتصديع وحدة الوطن.

إن الجولة التي دهمتنا، لن تكون الأخيرة رُغم انكشاف أمرها لدى التحقيق الذي يجب أن تُعلَن نتائجه رسميًّا، ذلك أن القاع الطرابلسي لم يبرأ من البؤر الاحتياطية الإجرامية، ولن يبرأ منها قبل أن تستعيد المدينة مناعتها من  خلال استعادة قواها الحيَّة لزمام المبادرة بتشكيل حلقات الضغط ووضع الاقتراحات الإنمائية الملموسة والارتفاع بالخطاب السياسي إلى مستواه الوطني وتوجيه رسائل حاسمة إلى كل الذين يحيقون بها شرًّا، ومن ذلك ما حدث في اجتماع دار الفتوى الذي وضع النقاط على الحروف كلها، ومن ذلك أيضًا تشكيل هيئة أهلية فوق الشبهات، لتكون وعاء للتراحم والتكافل الطرابلسي واللبناني والعربي.

نعم، لا بد أن تعود طرابلس موئلًا للتلاقح الفكري، والاختلاف الصحي، وبراحًا لتكايا العلماء حول أعمدة مساجدها وفي صحونها، ومقصدًا لجوارها لأن فضاءاتها لم تزل تنقل أصداء أجراس الكنائس عبر موجات الهواء النظيف. والأهم أنها ستبقى مُتسلحةً بالخطاب الوطني الصافي المُتمسّك بالدولة، حدودًا ودستورًا ونظامًا برلمانيًّا وتوازنات. وسيبقى مَصَبُّ “أبي علي” خافقًا ماؤه بمحبة ثلج قاديشا لأن المجرى لن ينحرف عما رسمته خطوط الطبيعة، ولأن “خان الصابون” العريق صرخ قائلاً: هذه الرَّغْوَةُ ليست مني.

  • رشيد درباس هو نقيب سابق للمحامين في شمال لبنان ووزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى