تونس على حافَةِ الاختِناق: حينَ يلتقي الغضبُ الاجتماعي بالقَمعِ السياسي

من تلوُّث الهواء في قابس إلى السجون السياسية في العاصمة، تتقاطَعُ الأزماتُ البيئية والاقتصادية والحقوقية في تونس لتكشف نظامًا يُعالِجُ الاحتقانَ بالقمع، بينما تتراكَمُ أسبابُ الانفجار.

الرئيس قيس سعيِّد: عام 2026 سيكون قاسيًا عليه وعلى تونس.

 فرانسيسكو سيرانو*

لم يبدأ الغضب المُتصاعِد في تونس هذا الخريف من أزمةٍ سياسيّة مباشرة، بل من الهواءِ نفسه. فمنذ أيلول (سبتمبر)، نُقِلَ عشراتٌ من تلاميذ المدارس الثانوية وسكان محليين في مدينة قابس الصناعية، جنوب البلاد، إلى المستشفيات وهم يعانون من حالاتِ اختناقٍ ومشاكل تنفُّسية، في مشهدٍ أعادَ إلى الواجهة ملفًّا قديمًا طال تجاهله: التلوُّث الصناعي المُزمِن.

لسنوات، عَبَّرَ أهالي قابس عن سخطهم من الانبعاثات الكيميائية الصادرة عن مُنشآتٍ تابعة للمجمع الكيميائي التونسي، لكن شكاواهم بقيت حبيسة الوعود. ومع حلول منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، تحوّلَ هذا الاحتقان المُتراكم إلى احتجاجات واسعة، خرج خلالها الآلاف إلى الشوارع، في تعبيرٍ مباشر عن فقدان الثقة في قدرة الدولة على حماية صحّة مواطنيها أو الوفاء بالتزاماتها.

أساس الأزمة

تَعودُ جذور الأزمة إلى العام 2017، حين تعهّدت السلطات بتحديث المصنع، أحد الأعمدة الأساسية لإنتاج الفوسفات، المورد التصديري الحيوي للاقتصاد التونسي. غير أنَّ تلك الوعود اصطدمت لاحقًا بتعاقُب الأزمات السياسية وتفاقُم الضائقة المالية، ما أدّى إلى تجميد مشروع التحديث، وبقاء المنشأة تعملُ خارج المعايير البيئية الدولية، لتتحوَّل من رافعةٍ اقتصادية إلى مصدرٍ دائم للتوتر الاجتماعي.

تسبقُ الأزمةُ البيئية المُزمنة في الجنوب التونسي وصول الرئيس قيس سعيّد إلى السلطة في العام 2019، غير أنَّ طريقة تعاطي الدولة معها باتت تعكسُ بوضوح ملامح نظامه السياسي المُتَحوِّل. ففي قابس، لم تُواجَه الاحتجاجات السلمية باعتبارها مطلبًا اجتماعيًا مشروعًا، بل كتهديدٍ أمني، في مؤشِّرٍ إضافي إلى النزعة السلطوية المُتصاعِدة للحكم. فبعد تحرّكات تشرين الأول (أكتوبر)، أُوقِفَ أكثر من 150 شخصًا، وأُحِيلَ ما لا يقل عن 44 منهم—بينهم قاصرون—إلى الحبس الاحتياطي، بحسب الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان.

لكنَّ القبضةَ الأمنية لم تُفلِح في كسر زخم الاحتجاج. ففي تحدٍّ واضح، عاد آلاف المتظاهرين إلى الشارع في مسيرةٍ جديدة مُناهضة للتلوث يوم الأربعاء الفائت، شاركَ فيها نحو 2500 شخص، تزامُنًا مع الذكرى الخامسة عشرة لانطلاق انتفاضات “الربيع العربي”، في استدعاءٍ رمزي ثقيل الدلالة لمسارٍ لم يُغلَق بعد.

من هذه الزاوية، تبدو قابس أكثر من مدينةٍ مُحتَجّة؛ إنها مرآةٌ مُكَثَّفة لمسار تونس في عهد سعيّد. فمنذ قراراته الاستثنائية في صيف 2021، انزلقت البلاد تدريجًا من ديموقراطيةٍ برلمانية هشّة إلى نظامٍ رئاسي مُفرِط في التركيز، يجد صعوبة متزايدة في معالجة الأزمات المتراكمة—البيئية منها والاقتصادية والاجتماعية على حدّ سواء.

خيبة الأمل

خلال السنوات الأخيرة، أقرّ الرئيس دستورًا جديدًا وسّعَ صلاحياته إلى حدٍّ غير مسبوق، وقلّص دور البرلمان إلى هامشٍ رمزي. وبالتوازي، تصاعدت حملة الاعتقالات والمحاكمات، إذ وُجِّهَت إلى عشرات الصحافيين والمعارضين والناشطين تُهمٌ فضفاضة من قبيل “التآمر على أمن الدولة”، ما عزّز الانطباع بأنَّ الأزمة في تونس لم تَعُد محصورةً في سوء الإدارة، بل باتت أزمةَ حُكمٍ ونَمَطَ سلطة.

بعد ست سنوات في الحكم، لم تَعُد خيبةُ الأمل حكرًا على معارضي الرئيس قيس سعيّد التقليديين. حتى أولئك الذين تقبّلوا في البداية انحرافه السلطوي، على أمل أن يُتَرجَمَ تركيزُ السلطة إلى تحسُّنٍ ملموس في ظروف العيش، باتوا اليوم أكثر تشكُّكًا وإحباطًا. فبقدر ما تراجعت المكاسب الديموقراطية، تآكلت في موازاتها القدرة الشرائية والأمان الاجتماعي.

صحيحٌ أن معدّل التضخم السنوي تراجع إلى 4.9% في تشرين الأول (أكتوبر)، بعد أن تجاوز 10.4% في العام 2023، إلّا أنَّ هذا التحسُّن الإحصائي لم ينعكس على موائد التونسيين. فالأسعار الأساسية واصلت صعودها، إذ ارتفعت كلفة الخضراوات بنسبة 21.4%، ولحم الضأن بنسبة 18.8%، فيما زادت أسعار الفاكهة الطازجة بنسبة 9.2%، ما جعلَ الغذاء عبئًا يوميًا متزايدًا على شرائح واسعة من السكان.

في المقابل، بقيت سوق العمل في حالة جمود. فقد استقرَّ معدّل البطالة عند 15.4% في الربع الثالث من العام 2025، لكنه يقفز إلى 24.9% بين خريجي الجامعات، ويبلغ نحو 40% لدى الفئة العمرية بين 15 و24 عامًا، في مؤشِّرٍ خطير إلى انسدادِ آفاق جيلٍ كامل.

هذا التدهور الاقتصادي غذَّى موجةَ غضبٍ اجتماعي آخذة في الاتساع. فقد شهد العام 2025 تصاعُدًا لافتًا في الاحتجاجات المُرتبطة بالتشغيل والحقوق الاجتماعية، حيث سُجِّلَت 427 مظاهرة خلال شهر شباط (فبراير) وحده، معظمها ذات طابع محلي، بزيادة بلغت 138% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2024.

لكن المؤشّر الأشد قسوة إلى عمق الأزمة جاء في شكلٍ مأساوي. فبين كانون الأول (ديسمبر) 2024 وشباط (فبراير) 2025، أقدَمَ ما يصل إلى عشرةٍ من الخرّيجين العاطلين من العمل وموظّفي القطاع العام الساخطين على إحراقِ أنفسهم احتجاجًا على أوضاعهم المعيشية. هذا الفعل، إلى جانب كونه تعبيرًا أقصى عن اليأس، يحملُ في تونس حمولة رمزية ثقيلة؛ إذ يستحضرُ مباشرة واقعة إحراق البائع المتجوّل محمد البوعزيزي لنفسه عام 2010، الشرارة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي وأطلقت موجة “الربيع العربي” في المنطقة.

بالتوازي مع تفاقُم الأزمة الاجتماعية، بدأ نظام الرعاية الصحية في تونس يُظهر علامات انهيار متسارع. فمع تسارُع هجرة الأطباء والممرضين إلى أوروبا ودول الخليج، تراجعت قدرة المستشفيات العمومية على أداء وظائفها الأساسية. وفي منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، خرج آلاف الأطباء في إضرابٍ واسع، احتجاجًا على تدنّي الأجور، وتقادُم المعدّات، والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، في مؤشّرٍ إضافي إلى عمق الأزمة التي تضرب أحد أكثر القطاعات حساسية.

الرئيس يُدير الأزمة ولا يعالجها

سياسيًا، اختار الرئيس قيس سعيّد إدارة الأزمة لا معالجتها. فبدل اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة قد تُكلّفه شعبيًا، أبقى المسار الاقتصادي في حالة مراوحة، مُفضّلًا تحميل المسؤولية لما يسميه “المضاربين” و”العملاء الأجانب”، في خطابٍ يعكس ميلًا متزايدًا إلى تبسيطِ أزماتٍ هيكلية مُعقّدة وتحويلها إلى معارك خطابية.

لكن كلفة هذا النهج تتراكم سريعًا في المالية العامة. فديون المؤسّسات العمومية، إلى جانب منظومة الدعم، يُتَوَقّعُ أن تُثقِلَ كاهل الخزينة بنحو 3.9 مليارات دولار في العام 2026، في وقتٍ تعاني الموازنة أصلًا من عجزٍ مُزمِن ومستوياتٍ مُقلقة من المديونية. وفي ظلِّ تضاؤل الخيارات، باتت الحكومة تعتمد بصورة متزايدة على البنك المركزي لتمويل نفقاتها.

ووفق التقديرات الرسمية، تعوّل السلطات في العام 2026 على نحو 3.7 مليارات دولار كتمويلٍ مباشر من البنك المركزي عبر قروضٍ بلا فوائد تمتدُّ على 15 عامًا، إضافةً إلى 2.4 ملياري دولار جرى سحبها من خزائن الدولة خلال العام 2025. قد يُوفّرُ هذا الضخُّ النقدي مُتَنَفسًا مؤقتًا، لكنه يحمل في طيّاته مخاطر واضحة، أبرزها تغذية التضخُّم ورفع كلفة السلع ومُستلزمات الإنتاج على المستهلكين والشركات على حد سواء.

الأخطر أنَّ هذا المسار يُقوّضُ استقلالية البنك المركزي، ويضع استقرار النظام المالي على المحك، في وقتٍ لا تُقدِّمُ السياسات الاقتصادية المتقلّبة أي رؤية واضحة للمستثمرين الأجانب أو المقرضين المحتملين، الذين يراقبون المشهد التونسي بقلق متزايد.

ومع تضييق الأفق الاقتصادي، يضيق الهامش السياسي بدوره. ففي تونس اليوم، بات حتى توجيه النقد العلني لأكثر القرارات عبثية محفوفًا بالمخاطر. فمن خلال المرسوم عدد 54، الصادر في أيلول/سبتمبر 2022، جرّم النظام عمليًا حرية التعبير، تحت ذريعة مكافحة “الأخبار الكاذبة” و”الشائعات”، ما حَوَّلَ النقاش العام إلى مساحة مراقَبة، وعمّق الفجوة بين السلطة والمجتمع.

في أعقاب احتجاجات قابس وما رافقها من قمعٍ عنيف في تشرين الأول (أكتوبر)، وسّعت السلطات التونسية نطاق المواجهة ليشمل المجتمع المدني نفسه. فقد جرى تعليق نشاط عدد من المنظمات الحقوقية والاجتماعية، بدعوى إخضاعها لتدقيق مالي مرتبط بمصادر تمويلها الأجنبية. وبموجب هذه الإجراءات، أُوقفت مؤقتًا أنشطة منظمات بارزة، من بينها الجمعية التونسية للمرأة الديموقراطية، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب.

تأتي تهمة “التمويل الأجنبي” منسجمة مع الخطاب السياسي الذي يعتمده الرئيس قيس سعيّد، والقائم على تحميل أطراف غامضة مسؤولية الأزمات المتراكمة في البلاد. وغالبًا ما تُقدَّم هذه الأطراف بوصفها قوى متآمرة تسعى إلى زعزعة استقرار تونس أو النيل من هويتها. ولم يكن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على سبيل المثال، بمنأى عن هذا الاستهداف، إذ كان من بين الجهات التي عارضت علنًا في العام 2023 تصريحات سعيّد التي ربط فيها الهجرة الأفريقية بمؤامرةٍ دولية مزعومة لتغيير التركيبة الديموغرافية والهوية العربية الإسلامية للبلاد.

تصاعد حملات القمع

في المحصّلة، بات كلُّ مَن يشكّل تحدّيًا للسردية الشعبوية الرسمية عرضةً للتجريم أو الإقصاء. وخلال الأشهر الأخيرة، تصاعدت وتيرة الهجمات القضائية والأمنية على المنظمات غير الحكومية وشخصيات المعارضة السياسية على حدّ سواء. ففي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، أصدرت محكمة الاستئناف في تونس أحكامًا بالسجن تراوحت بين 10 و43 عامًا بحق أكثر من 40 سياسيًا معارضًا وصحافيًا ومحاميًا وناشطًا، بتهمة “التآمر على أمن الدولة” والسعي إلى الإطاحة بالرئيس.

وقد وصف الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان هذه القضية، التي لا تزال إجراءاتها جارية، بأنها ذات دوافع سياسية واضحة، ما يُعزّزُ المخاوف من تحوّل القضاء إلى أداةٍ في صراع السلطة، ويُكرّسُ مناخًا عامًا يضيق فيه المجال العام أمام أيِّ صوتٍ مستقل أو نقدي.

كلما ازداد شعور السلطة بالحصار، اتسع نطاق استهدافها للوجوه المعارضة الأكثر حضورًا. ففي 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، اقتادت قوات الأمن الكاتبة والناشطة السياسية شيماء عيسى بعنف إلى سيارة شرطة أثناء مشاركتها في احتجاجٍ سلمي وسط العاصمة، في مشهد وثّقته مقاطع مصوّرة وانتشر على نطاق واسع. وكانت عيسى قد حُكم عليها بالسجن 20 عامًا في ما يُعرف بقضية “التآمر”، فيما برّرت السلطات توقيفها بتنفيذ الحكم الصادر بحقها.

بعد أيامٍ قليلة من اعتقالها، أعلنت عيسى إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، احتجاجًا على حرمانها من العلاج الطبي داخل السجن، خصوصًا بعد إصابات تعرّضت لها أثناء توقيفها. ولم تكن حالتها معزولة؛ إذ أنهى السجين السياسي جوهر بن مبارك، البالغ من العمر 57 عامًا، إضرابًا عن الطعام استمرَّ 33 يومًا، خلّف تدهورًا حادًا في وضعه الصحي، ما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الحقوقية.

وفي مطلع كانون الأول (ديسمبر)، توسّعت حملة الاعتقالات لتشمل شخصيتين بارزتين من جيل المخضرمين في المعارضة التونسية: عياشي حمامي (66 عامًا) وأحمد نجيب الشابي (81 عامًا)، اللذين أُوقفا بدورهما في القضية نفسها. ويَجمَعُ هذه الاعتقالات خيطٌ واحد واضح، إذ استهدفت جميعها أعضاء في “جبهة الخلاص الوطني”، وهي تكتل يضم سياسيين معارضين وصحافيين ونشطاء مجتمع مدني، تشكّل في أيار (مايو) 2022 لمواجهة المسار الاستبدادي المتصاعد في البلاد.

وقد أسهمت إضرابات السجناء السياسيين عن الطعام، إلى جانب الارتفاع الملحوظ في وتيرة الاحتجاجات ذات الطابع السياسي، في إعادة تونس إلى دائرة الضوء الدولي بعد سنوات من التراجع عن واجهة الاهتمام. ويبدو أنَّ هذا الانكشاف الخارجي يثير قلقًا متزايدًا داخل دوائر الحكم.

يقول محامٍ تونسي فضّل عدم الكشف عن هويته خشية الملاحقة: “أكبر ما يخشاه قيس سعيّد هو أن تتحرّك الطبقة السياسية ضده بصورة جماعية ومنظمة”. ويضيف: “نحن أمام ديكتاتورية ذات بُعدٍ نفسي واضح؛ نظام يعكس مخاوف الرئيس وهواجسه، لأنه يمسك بكل مفاصل القرار، ولا يثق بأي مساحة خارجة عن سيطرته”.

إلتقاء مُعسكَرَي المعارضة

يشير استهداف السلطة لوجوه بارزة في “جبهة الخلاص الوطني”، وعلى رأسهم رئيسها أحمد نجيب الشابي، إلى أنَّ أكثر مخاوف قيس سعيّد قد بدأت تقترب من التحقّق. فخلال السنوات الماضية، ظل معسكرا المعارضة في تونس—الأول مدفوعًا بالغضب الاجتماعي والاقتصادي، والثاني منشغلًا بالدفاع عن الحريات العامة—يسيران في مسارَين متوازيين نادرًا ما يلتقيان. اليوم، ومع تصاعد الاحتجاجات على غلاء المعيشة وتزامنها مع عودة المطالب المدنية إلى الواجهة، تبدو هذه الأزمات وقد اندمجت في حركة احتجاجية واحدة، متواصلة ومتعددة الدوافع.

وقد تجلّى هذا التحوّل بوضوح يوم السبت الفائت (13/12/2025)، حين خرجت أحزاب المعارضة إلى شوارع العاصمة في استعراضٍ نادر للوحدة السياسية، مُطالبةً بإنهاء الحكم الفردي واستعادة المسار الديموقراطي، في رسالةٍ مباشرة مفادها أنَّ سياسة تفكيك الخصوم لم تَعُد كافية لعزل الاحتقان المتراكم.

لكن العامل الحاسم في المرحلة المقبلة يبقى موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، التي تُمثّل أكثر من مليون عامل. لطالما اختار الاتحاد تجنّب المواجهة المباشرة مع سلطة سعيّد، مفضّلًا الحفاظ على هامش مناورة مستقل. غير أنَّ اتساع رقعة القمع وتضييق الخناق على المجتمع المدني يضعان هذا التوازن تحت ضغطٍ غير مسبوق، ما يجعل الصدام بين الطرفين أقرب إلى الحتمية منه إلى الاحتمال.

وفي هذا السياق، أعلن الاتحاد في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الجاري إضرابًا عامًا مُقَرَّرًا في 21 كانون الثاني (يناير) 2026، احتجاجًا على تدنّي الأجور والقيود المتزايدة على الحقوق النقابية. وإذا ما نُفّذَ هذا الإضراب على نطاقٍ واسع، فقد يشكّل شرارةً لموجة احتجاجات تمتد إلى مختلف أنحاء البلاد، وتفتح فصلًا جديدًا من المواجهة الاجتماعية–السياسية.

بعد أن أحكَمَ قيس سعيّد قبضته على مفاصل الدولة، ووعد التونسيين باستقرارٍ سياسي وتحسُّنٍ اقتصادي، لم تحصد البلاد سوى مزيد من الفقر والقمع والخطاب الشعبوي. إنَّ تجريمَ المعارضة السلمية، واللجوء الدائم إلى شماعة “العملاء الأجانب” لتفسير أيِّ حراكٍ اجتماعي، يكشفان عن عجزٍ بُنيوي لدى السلطة عن مقاربة التحديات الحقيقية التي تواجه تونس.

ومع اقتراب العام 2026، يبدو أنَّ التلوّث الكيميائي في الجنوب لن يكونَ الخطر الوحيد الذي ينتشر في البلاد. فالتآكل المتزامن للبيئة، والاقتصاد، والمجال العام يُنذرُ بأزمة أعمق، لا يمكن احتواؤها بالأمن ولا بالخطاب، بل ستفرض، عاجلًا أم آجلًا، اختبارًا حاسمًا لقدرة النظام على الصمود أمام مجتمع يضيق به الخناق من كلِّ الجهات.

Exit mobile version