سوريا بعدَ عامٍ على سقوطِ الأسد: دولةٌ تَبحَثُ عن ذاتِها بين خَرابِ الأَمسِ ووُعودِ الغد
بعد عامٍ على تحوّلٍ سياسي غير مسبوق، تقف سوريا عند تخومِ مرحلةٍ انتقالية تتداخَلُ فيها رواسبُ الحرب مع ملامح دولةٍ تتشكّل ببطء. وبين توقُّعاتِ شعبٍ أنهكته السنوات ومُؤسّساتٍ تُحاولُ النهوض، تبدو البلاد كأنها تعيشُ اختبارًا مصيريًا يُحَدِّدُ شكلَ مستقبلها لعقودٍ مُقبلة.

السفير يوسف صَدَقَه*
بعدَ سنةٍ كاملة على سقوطِ نظام بشار الأسد وصعودِ أحمد الشرع إلى الحكم، تبدو سوريا كأنها تتلَمَّسُ طريقَها بين رُكامِ الماضي ووعودِ المستقبل، في لحظةٍ تختلطُ فيها الدهشة بالإرهاق، والحماسة الشعبية بالواقعِ القاسي الذي يفرضُ نفسه كلَّما بدا أنَّ طريقَ الخلاصِ قد أصبح أقرب. السنة الأولى كانت كافيةً لتُظهِرَ أنَّ إسقاطَ النظام لم يكن سوى الخطوةِ الأولى في رحلةٍ طويلةٍ ومُعَقَّدة، وأنَّ بناءَ دولةٍ جديدة فوقَ أرضٍ أنهكتها الحرب أصعبُ بكثيرٍ من هَدمِ منظومةِ حُكمٍ كانت مُتجذِّرة لعقود. ومع ذلك، فإنَّ ما حدث خلال هذا العام يمنحُ السوريين شعورًا قَلَّما عرفوه: شعورٌ أنَّ البلادَ تتحرَّك، ولو ببطء، خارج دائرة الموت السياسي التي حاصرتها منذ خمسين عامًا.
في الداخل، واجهت السلطة الجديدة منذُ يومها الأول ميراثًا ثقيلًا لا يشبه ميراث الدول التي تخوض انتقالًا سياسيًا عاديًا. فالمؤسّسات التي ورثتها كانت شظايا دولة لا دولة كاملة، مُنهَكة ومُحَطَّمة ومُنقَسِمة إلى مراكز نفوذ أمنية وعسكرية مُتَفلِّتة، كما إنَّ الحربَ الطويلة مزّقت الجهازَ الإداري نفسه وأفقدته القدرة على فرضِ سلطةٍ مركزية موحدة. هذا التفكُّكُ جعلَ مُمارسة الحكم مهمّة محفوفة بالعقبات؛ فالموظف الذي كان يعملُ داخلَ منظومةٍ قمعيّة مُتَرَهِّلة يجدُ نفسه اليوم داخلَ فراغٍ إداري، والمُواطن الذي تحرَّرَ من خوف الدولة وَجَدَ نفسه أمامَ خوفٍ جديد تُوَلِّده الفوضى الأمنية، فيما حاولت الحكومة إعادةَ تَفعيلِ أجهزة الدولة خطوةً خطوة، وسطَ مقاومةٍ من الشبكات القديمة ومطالب شعبية مُتَعطِّشة للتغيير السريع.
وبينما انصرفَ الخطابُ الرسمي إلى تبشير السوريين بـ”بدايةِ عهدٍ جديد”، كان الواقعُ الاجتماعي يكشفُ حجمَ الجرحِ المفتوح: ملايين النازحين في الداخل، ملايين اللاجئين في الخارج، وانقسامٌ أهلي صامتٌ يتخفّى تحتَ شعارات المصالحة. فالأرقام أمضى من العواطف: أكثرُ من 16 مليون سوري بحاجةٍ إلى شكلٍ من أشكال المساعدة الإنسانية، وسبعةُ ملايين نازح يعيشون في ظروفٍ لا تليق ببلد أنهكته الحرب لكنه يحاولُ أن ينهضَ على قدمَيه. وحين تتقدَّمُ مسألة العدالة الانتقالية إلى الواجهة، يتّضِحُ أنَّ جبر هذا الشرخ لا يكفيه قرارٌ سياسي أو لجنةٌ قضائية؛ فالمسألةُ تتعلَّقُ بذاكرةِ بلدٍ عاش عشر سنين من الكارثة ويتردّدُ كثيرًا في النظرِ إلى جراحِهِ مباشرة.
لكنَّ المشهدَ العام لم يَكُن سوداويًا بالكامل. فالتحوُّلُ السياسي حملَ إشارات، وإن رمزية، لكنها كانت ذاتَ وَقعٍ نفسي وروحي كبير على الناس. التقارير الصحافية التي وَثَّقَت السنة الأولى بعد سقوط الأسد لاحظت تغيُّرات كانت تبدو في السابق ضربًا من الخيال: اختفاءُ صور الأسد من المباني والطرقات، تراجُعُ الخوف المُزمِن من الأجهزة الأمنية، وانتهاءُ حالة “الحيطان لها آذان” التي حَكَمَت حياةَ السوريين لسنواتٍ طويلة. بل إنَّ الطائرات، التي ارتبطت بذكريات الموت، أصبحت تَحومُ فوق المدن لأسبابٍ أخرى، وحين أسقطت الحكومة الجديدة زهورًا من مروحياتها على تجمُّعات المدنيين، رآها كثيرون كأنها استعادةٌ رمزية للسماء التي حَوَّلها النظام السابق إلى مصدر رعب. كلُّ هذه التفاصيل الصغيرة شكّلت مُجتمعةً بداياتَ علاقةٍ جديدة بين الناس والدولة، علاقةٌ أقل رُعبًا وأكثر اقترابًا من فكرة المُواطَنة.
ورُغمَ هذا المناخ النفسي الجديد، فإنَّ الاقتصادَ بقي العاملَ الأكثر ثقلًا، ليس فقط لأنه يُحدِّدُ قدرةَ السوريين على الصمود اليومي، بل لأنه يمسُّ شرعيةَ الحكم الجديد وقدرته على إدارة الدولة. فالبلادُ فقدت أكثر من نصف ناتجها المحلي، والعملة المحلّية تدهورت، وغلاءُ المعيشة بلغ مستويات غير مسبوقة، بينما تقلّصت فُرَصُ العمل إلى حدودها الدنيا. الاستطلاع الواسع الذي أجراه “الباروميتر العربي” يُقدِّمُ صورةً صادمة: 86% من الأُسَرِ السورية لا يُغطّي دَخلُها احتياجاتها الأساسية، و65% من السوريين يُعانون في تأمين الغذاء، و77% غير راضين عن جهودِ خَلقِ فُرَصِ العمل. هذه الأرقام وحدها كفيلةٌ بتَوضيحِ أنَّ الشرع، رُغمَ شرعيته السياسية، يسيرُ فوقَ حقلِ ألغامٍ اقتصادي؛ فالشعب الذي احتفى بسقوطِ الأسد لن يبقى صبورًا طويلًا إذا بقيت الحياة اليومية على هذا القدرِ من القسوة.
وفي مُقابِلِ هذا الضغط الاقتصادي، تبدو الصورة السياسية أكثر تماسُكًا. السوريون، وفقًا للاستطلاع نفسه، ما زالوا يمنحون الشرع ثقةً عالية تصلُ إلى 81%، ويرون في حكومته فُرصةً لطَيِّ صفحة الماضي. المُفارَقة أنَّ هذه الثقة لا تستندُ فقط إلى الإنجازات، بل أيضًا إلى المُقارنة مع نظام الأسد الذي ترك إرثًا من القمع جعلَ أيَّ بديلٍ يبدو أفضل. لكن هذا الرصيد الشعبي قابلٌ للنفاد إذا لم يَقتَرِن بتقدُّمٍ ملموس، خصوصًا أنَّ السوريين باتوا للمرة الأولى قادرين على التعبير بحرّية نسبيًا عن غضبهم أو إحباطهم، ما يعني أنَّ النقدَ لم يَعُد محظورًا كما كان سابقًا.
وتزدادُ الصورة تعقيدًا حين نغوصُ في التوزيع الجغرافي للثقة السياسية. فالمناطق ذات الأغلبية العلوية والدروز—اللاذقية وطرطوس والسويداء—تبدو أقل حماسًا تجاه السلطة الجديدة. نسبةُ الثقة بالحكومة والرئيس في هذه المناطق لا تتجاوز 36%، وهي نسبةٌ تعكسُ مخاوفَ مُتجذِّرة من أن تتحوَّلَ مرحلةُ ما بعدَ الأسد إلى زمنِ انتقامٍ أو تهميش. هذا الشعورُ ليس جديدًا، لكنه يكتسبُ اليوم أهمّيةً مُضاعَفة لأنَّ أيَّ مشروعٍ وطني لا يُمكِنُ أن ينجحَ من دونِ تطمينٍ واضحٍ وقاطعٍ لجميع المُكوِّنات. والتقاريرُ تُشيرُ بوضوح إلى وقوعِ اعتداءاتٍ انتقامية في تلك المناطق خلال السنة الأولى، ما جعلَ الأقليات أكثر تشكُّكًا وأكثر حساسيةً تجاه خطاب الدولة. التحدّي هنا سياسي واجتماعي في آنٍ معًا: كيفَ يُمكِنُ لحكومةٍ يقودها تيارٌ جهادي من رَحمِ الثورة أن تُطَمئِنَ جمهورًا كان يخشى الثورة نفسها؟ وكيف يُمكِنُ إعادةُ بناءِ الثقة بين مكوّناتٍ مُضطَرِبة الهوية ومجروحة الماضي؟
ورُغمَ الانقسامات الداخلية، فإنَّ موقعَ سوريا الخارجي بدا أفضل مما كان عليه خلال سنوات الحرب. فقد استعادت مقعدها في الجامعة العربية، وانفتحت السعودية وقطر وتركيا على دمشق بدرجاتٍ مُتفاوتة. هذا الانفتاحُ لم ينطلق من دوافع سياسية بحتة، بل من ضروراتٍ أمنية واقتصادية إقليمية: الهجرة، المخدّرات، الحدود، والقلق من انهيارِ دولةٍ مُحطّمة في قلب الشرق الأوسط. ومع أنَّ الانفتاحَ الخليجي حملَ وعودًا بمُساعداتٍ مالية، إلّا أنه كان مشروطًا بإصلاحاتٍ حقيقية، في الأمن والإدارة والقضاء، وهي إصلاحاتٌ لم تتقدَّم بعد إلى مستوى يُبدِّدُ شكوكَ الحلفاء. أما الولايات المتحدة، التي استقبلت الشرع ورفعت بعض العقوبات، فكان تحرُّكُها نتاجَ رغبةٍ بتهدئة الجنوب السوري وتثبيت خطوط أمنية مع إسرائيل، وهي ملفّاتٌ حساسة للغاية لدى الشارع السوري الذي يرفضُ بشدّة أيَّ مُقاربةٍ تمسُّ السيادة على الجولان.
وعلى خلافِ ما قد يتوقّعهُ البعض، فإنَّ السوريين، وفقًا لنتائج الاستطلاع، لا يُعارِضون الانفتاحَ الخارجي ككل؛ بل يريدون مساعدات اقتصادية واسعة من الخليج وأوروبا وواشنطن، ويرون في الدعم الخارجي ضرورةً لا بُدَّ منها لإعادةِ إعمارِ بلدٍ يحتاج إلى أكثر من 200 مليار دولار. وربما المفاجأة أنَّ 66% من السوريين لديهم نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة بعد رفع العقوبات، بينما لا تتجاوز نظرة الإيجابية تجاه إيران وروسيا—حليفَي الأسد السابقَين—نسبًا هامشية جدًا. السوريون يريدون العالم إلى جانبهم، لكنهم لا يُريدون أيَّ تنازُلٍ سياسي يَفرضُ عليهم مسارًا يتصادم مع شعورهم الوطني، خصوصًا في ما يتعلق بإسرائيل.
ومع أنَّ الدولة الجديدة قطعت شوطًا مهمًّا في إعادةِ ترميمِ علاقتها مع الخارج، إلّا أنَّ توحيدَ الداخل يبدو المهمّة الأعقد. فالجغرافيا السورية لا تزالُ مُوَزَّعة بين خمسة نفوذ عسكرية وسياسية مختلفة، من إدلب إلى الشمال التركي، ومن مناطق “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) إلى البادية، التي لا تزال تَشهدُ نشاطًا مُتقطِّعًا لتنظيم “الدولية الإسلامية” (داعش). استعادةُ هذه الجغرافيا تتطلّبُ مُقاربةً لا تكفي فيها القوة العسكرية وحدها، بل تحتاجُ إلى عمليةٍ سياسية ومالية وتنموية قادرة على تقديمِ بديلٍ حقيقي للسكان المحلّيين.
بعدَ عامٍ على زوال الأسد، لم تَعُد سوريا غارِقةً في اليأس، لكنها لم تَصِل بعد إلى العافية. الصورةُ تبدو كأنها مسرحٌ واسعٌ قُطِعَت فيه الإضاءة فجأة ثم أُعيد تشغيلها على نصف طاقتها: تستطيعُ رؤيةَ الأشياء، لكن ليس بوضوحٍ كامل. يُمكِنُ لمسُ الدينامية الجديدة في حياةِ الناس، سماعُ نقدٍ لم يَكُن يُسمَع، ورؤيةُ احتفالاتٍ لم يَكُن يُسمَحُ بها؛ لكن في الوقت نفسه، يُمكِنُ رؤيةُ شوارع مُنهَكة، مؤسّسات تعملُ ببطءٍ شديد، مواطنين ينتظرون ساعاتٍ للحصول على كهرباءٍ أو ماء، وأُسَرًا تترقَّبُ نهايةَ الشهر بقلقٍ دائم.
وبين هذا وذاك، يبقى السؤال المركزي: ماذا يُريدُ السوريون الآن؟ الإجابة تبدو أكبر من السياسة وأقرب إلى الحياة اليومية نفسها. يريدُ السوريون دولةً لا يخافون منها، واقتصادًا يحمي كرامتهم، وعدالةً غير انتقائية، وديموقراطية لا تتحوَّلُ إلى شعارٍ فارغ، وأهم من ذلك كله: دولة تَحكُمُ الجميع لا دولة تُحكَمُ من لونٍ واحد. يريدون الخروج من ذاكرة الحرب من دون أن يدخلوا في ذاكرةٍ جديدة أكثر إيلامًا.
عامٌ واحد لا يكفي لبناء دولة، لكنه يكفي لمعرفة الاتجاه. وسوريا، رُغمَ كلِّ الصعوبات، تَسيرُ أخيرًا في اتجاهٍ آخر غير ذلك الذي قادها إلى الكارثة. يبقى أن يتحوَّلَ هذا الاتجاه إلى طريقٍ حقيقي، وأن يملكَ الحُكمُ الجديد الشجاعةَ والقُدرةَ على السَيرِ فيه حتى النهاية، قبلَ أن يُغلِقَ الزمنُ النافذةَ الضيِّقة التي فُتِحَت بعدَ سقوط نظام الأسد.
- السفير يوسف صَدَقه هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد.




يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.