إِشكالِيَّةُ السِلمِ والحَربِ بينَ إيران والغرب

في هذه الحلقة العاشرة من سلسلة “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، يعود سليمان الفرزلي إلى جذور الصراع بين الشرق والغرب عبر سيرة الإسكندر المقدوني، تلميذ أرسطو وخصم داريوس الفارسي. من “ستاجيرا” إلى بابل، تتقاطع الفلسفة مع الفتح، لتكشفَ كيف بدأت الحكاية التي ما زالت فصولها تُكتَبُ حتى اليوم.

الإسكندر على أبواب صور يواجه الشرق: مشهدٌ يختلط فيه المجد العسكري بالعنف والدمار – تمهيد رمزي لصدام الحضارات.

(10)

إسكندرٌ واحدٌ… لا إسكندران!

 

سليمان الفرزلي*

“ستاجيرا” بلدة ريفية في منطقة مقدونيا الوسطى في بلاد الإغريق، أسسها في العام 655 قبل الميلاد رهط من المهاجرين قدموا من أنحاء يونانية أخرى. بعد الحرب الفارسية التي دحرت فيها أثينا الأسطول الفارسي في معركة “سلاميس”، (480 ق.م)، انضمت إلى “حلف أثينا الأول”، لكنها انتفضت ضده في العام 424 قبل الميلاد، وخلال “حرب البيلوبونيز” انضمت الى اسبارطة ضد أثينا. وفي العام 348 ق.م، احتلها الملك المقدوني فيليب الثاني والد الإسكندر، ودمَّرها، وباع أهلها عبيدًا في سوق النخاسة!

هذه البلدة المتعوسة والمتقلّبة، اشتهرت في التاريخ القديم لكونها مسقط رأس الفيلسوف الإغريقي الكبير أرسطو، الذي اختاره الملك فيليب لتعليم ابنه ووريثه الإسكندر المقدوني. في ذلك الوقت، كان أرسطو قد قضى عشرين سنة يُدرِّس في “أكاديمية أفلاطون” في أثينا (منذ أن كان عمره 17 سنة حتى بلغ 38 سنة من العمر)، ولم يغادر “الأكاديمية” إلاَّ بعد وفاة أفلاطون في العام 348 قبل الميلاد.

لماذا اختار الملك فيليب الفيلسوف أرسطو لتعليم ابنه؟

السبب الأول، بطبيعة الحال، هو شهرة أرسطو وصيته الذي طبَّق الآفاق. والسبب الثاني أنَّ والد أرسطو كان صديقًا لوالد الملك فيليب، وطبيبه الخاص، أو بالأحرى طبيب البلاط المقدوني.

لكن كيف تمَّ ذلك، والملك فيليب هو الذي دمَّر بلدة أرسطو ومسقط رأسه (ستاجيرا) ودفع أهلها الى العبودية؟

الروايات التاريخية تُجمع على أنَّ الصفقة تمّت بطريقة “المافيا” في الزمن الحاضر، أي أنَّ الملك فيليب قدَّم لأرسطو عرضًا لا يستطيع أن يرفضه. فما هو هذا العرض؟

أولًا، يقوم الملك فيليب بإعادة بناء بلدة “ستاجيرا” كاملةً، ويُعيدُ أهلها إليها بعد إعتاقهم من العبودية.

(ما يُذكِّر اللبنانيين اليوم بخطاب السيد حسن نصر الله، بأنَّ “حزب الله” سوف يُعيد إعمار القرى الحدودية المدمرة في جنوب لبنان بأجمل مما كانت عليه).

ثانيًا، يقوم الملك فيليب ببناء أكاديمية باسم أرسطو في أثينا، تُخصَّص في البداية لتدريس الإسكندر وشلة من رفاقه المقرَّبين، الذين أصبح معظمهم جنرالات في جيشه، بعد جلوسه على العرش خلفًا لوالده.

ثالثًا، يدفع الملك المقدوني تكاليف الأكاديمية، وراتبًا يليق بمعلم مثل أرسطو.

رابعًا، يتعهّد الملك المقدوني بإلحاق بعثات علمية مرموقة يختارها أرسطو لمرافقة الجيش المقدوني في حملاته العسكرية لدراسة أحوال البيئة، والطبيعة، والمناخ، والحياة، والسكان، في البلدان التي يفتحها الجيش. وبالفعل قبل أرسطو هذا العرض الذي تمَّ تنفيذه من الفريقين بحذافيره.

استغرقت عملية التدريس هذه للإسكندر ورفاقه مدة أربع سنوات (منذ أن كان عمر الإسكندر 13 سنة، الى حين بلوغه 16 سنة). وقد شمل برنامج الدروس، الفلسفة، والرياضيات، والسياسة، والديبلوماسية، والشعر، والفلك، والموسيقى، بالإضافة الى برنامج للقراءة شمل كتابات منوعَّة من “الياذة هوميروس”، إلى “جمهورية أفلاطون”.

خلال تلك الفترة أثبت الإسكندر أنه محبٌّ للعلم، ومدمنٌ على القراءة، سريعُ البديهة، ذكيُّ الملاحظة.

*****

بعد إكمال هذا البرنامج الكثيف، انصرف الإسكندر ورفاقه الى التدريبات العسكرية، وإتقان فنون المناورة في الحرب، وشؤون التدريب والإدارة، ومعايير اختيار القيادات الميدانية. وفي العشرين من عمره توفي والده فجلس على العرش المقدوني ليصبح القائد العسكري الأول في التاريخ العالمي من ذلك اليوم الى هذا اليوم.

شغل الباحثين والمؤرخين لقرون طويلة، وما زالت الى الآن، تصدر كتب ودراسات تتناول سيرته من زوايا جديدة، بالإضافة الى كون عملياته العسكرية مادة أساسية يجري تدريسها في الكليات الحربية حول العالم. ومن أواخر الكتب المهمة التي صدرت أخيرًا عن مطبعة جامعة أكسفورد البريطانية، كتاب بعنوان: “جنديٌّ وكاهنٌ وإله: حياة الإسكندر الكبير”، من تأليف فريد نايدن، أستاذ التاريخ في جامعة نورث كارولينا الأميركية، الصادر في العام 2019.

لافتٌ في هذا الكتاب تسليط الضوء على التوجّه الديني للإسكندر المقدوني، لجهة أنه “مبتكر في الفكر الديني”، خصوصًا بعد فتحه لمصر، حيث تمازجت الثقافة الهلينية بسهولة مع الثقافة المصرية السائدة آنذاك، بحيث يمكن القول بأنَّ مصر “علّمته كيف يفكر لاهوتيًا”. لكن الإسكندر لم يتفاعل بسهولة مع الأديان الأخرى، إما لأنه لم يرغب في ذلك، أو لأنه لم يستطع، ربما لعلة في عقليَّات الشعوب الأخرى، أو بسبب رواسب في ثقافته الموروثة في المسائل الدينية، من حيث إنه لا يعتبر أنَّ كل الأديان متساوية في جوهرها، لكنه كان يتعاطى مع الديانات المحلية والأجنبية باحترام.

ما من قائد في العالم إلَّا وتأثر به، بعضهم حاول، وبعضهم راودته نفسه ولم يُقدم. فلم تجتمع الخصال العليا في قائد مثلما اجتمعت فيه: جندي شجاع، وقائد ملهم، وسياسيٌّ بارع، وكاهنٌ ورع، وشبيه الآلهة، أو متألهٌ فوق الملوك والحكام، شديد القسوة على أعدائه، ضنين على أصدقائه وحلفائه، مهنته الابتكار في الحرب فلا يتردد في القتل، كما لا يتردد في العفو.

كان يعرف مكانته، ويتصرّف على أنه وحيدُ زمانه، فلا عجب أنَّ ما من قائد في التاريخ من بعده استطاع أنْ يجاريه. والأهم من ذلك حمل الثقافة الهلينية، التي تشرَّبها من أغزر ينابيعها، ونشرها في العالم، منارةً للعقول، ووسيلةً للترقي. هكذا بقي العالم من بعده: إسكندر واحدٌ… لا إسكندران!

في كل الأوقات، حتى يوم وفاته في بابل في العام 323 قبل الميلاد، لم تفارق وسادته نسخة من “إلياذة هوميروس”، قدمها له معلمه أرسطو وعليها توقيعه.

*****

بعضُ الأثينيين الذين كانوا معارضين للحكم المقدوني، عاب على أرسطو قبوله تعليم الإسكندر ابن الملك فيليب، الذي قام، عامدًا متعمدًا، بتدمير بلدة “ستاجيرا”، مسقط رأس أرسطو، ونكَّل بأهلها، وأذلهم. ومنهم من نعته بأنه “معلم الطغاة”!

لهذا خلال السنوات الأربع التي تولى خلالها تدريس الإسكندر، لم يكتب أرسطو شيئًا، خشية أن يستثير الجدل والخلافات، وربما ليبرهن أنه قادرٌ على التأثير في تلميذه الى الأحسن. والثابت أنه وضع أهمَّ كتبه، التي ما زالت مادةً يجري تدريسها في الجامعات والكليات حول العالم، بعد انتهاء مهمته لتدريس الإسكندر ورفاقه.

لكن الباحثين والمؤرخين، ما زالوا إلى يومنا هذا، يدققون في كيفية وفاة الإسكندر في بابل وهو ما زال في ريعان شبابه وكامل عافيته، لا سيما حول ما إذا كان للمعلم أرسطو دورٌ في التخلص من تلميذه السابق، الذي بات يتصرَّف، بعد انتصاراته الميدانية الخارقة، وكأنه من صنف الآلهة. وقد انتشرت حوله أسطورةٌ مفادها أنَّ الإسكندر ليس ابن فيليب المقدوني، بل هو ابن الإله الإغريقي “زوس”!

ذلك أنَّ هناك شبهة تاريخية بأن الإسكندر لم يمت ميتة طبيعية، بل جرى تسميم الخمر الذي كان يحتسيه. فالرأي بدأ يميل إلى أنَّ الإسكندر شرب في بابل خمرًا مسمومًا!

ليس على هذا القول شواهد قاطعة بعد، لكن هناك قرائن لا يُستهان بها:

أوّلًا، الحساسيات بين الجنرالات الكبار الذين ورثهم في جيشه من أيام أبيه، والجنرالات الشبان الذين تصاحب معهم من أيام الدراسة، أو “شلة الرفاق”. وبالتالي، ليس من المستبعد أن يكون بعض الجنرالات القدامى قد فكر بالتخلص منه.

ثانيًا، بعد وصول جيش الإسكندر الى ضفاف “نهر الكانج” في شمال الهند، رفض ضبَّاط الجيش أن يكملوا مسيرة التوغل في شبه القارة الهندية، مطالبين بالعودة الى بلادهم. وهذا التمرد هو الذي حمل الإسكندر على العودة الى بابل، حيث لقي حتفه الغامض.

ثالثًا، الشبهات حول دور ما للمعلم أرسطو في التخلص من تلميذه السابق. هناك رواية تفيد بأن بعض قدامى القادة العسكريين السابقين في جيش الإسكندر، ممن تركوا الخدمة في الجيش، أو سُرّحوا منه تسريحًا تعسّفيًا، وعادوا الى اليونان، تشاوروا مع أرسطو في الأمر، ويقال إنه أبدى نوعًا من الموافقة، أو على الأصح، لم يبدر منه أي اعتراض!

لكن هناك روايات أخرى، تفيد بأن أرسطو لعب دورًا تنفيذيًا في “الجريمة”، بأن اقترح على المتآمرين نوع المادة الكيميائية الفعالة التي عليهم استخدامها، وبعضهم أخذ الرواية الى حدها الأقصى بالإيحاء أنَّ أرسطو قام بنفسه بتركيب الخلطة الكيميائية القاتلة!

*****

إنَّ حملة الإسكندر المقدوني في طريقه الى مصر، اصطدمت ببعض العقبات التي أخرجته عن طوره، وجعلته يرتكب مجازر ضد السكان غير مسبوقة منه. ففي مطلع العام 332 قبل الميلاد، وقف جيش الإسكندر على أبواب مدينة صور على الساحل اللبناني، فرفض أهل المدينة أن يستقبلوه، مما اضطره الى ضرب حصار عليهم امتد لسبعة أشهر.

خلال الحصار استطاع الإسكندر أن يقيم في البحر منصات وأبراج عائمة، يطلق منها ضربات شديدة بالمنجنيق على أسوار صور لخرقها، ومن فوق الأسوار لإنزال الضرر بالأهالي وممتلكاتهم. وفي النتيجة نجحت خطته فدخل الى صور ودمر ما يقرب من نصفها.

المرجع الأهم عن حملات الإسكندر العسكرية في الشرق، آريان، وهو مؤرخ وسياسي من مدينة نيقوميديا (حاليًا في تركيا الى الشرق من إسطنبول واسمها “إزميت”، وليست مدينة “إزمير” الكبرى على بحر ايجه) عاش في روما، وكتب، وجلس عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني في القرن الأول الميلادي، قال إنَّ الإسكندر قتل من أهل صور نحو ثمانية آلاف شخص بعد سقوط المدينة في يده، لكنه أصدر عفوًا عن الأهالي الذين اعتصموا في معبد الإله الصوري “ملكارت”، الذي كان الإغريق يساوونه بالإله الإغريقي “هيرا كليس”، أما الباقون وعددهم نحو 30 ألفًا، من المقيمين والأجانب، ومعظمهم من النساء والأطفال، فقد جرى بيعهم عبيدًا في سوق النخاسة!

وقال آريان أيضًا، إنَّ الإسكندر غضب على أهل صور لأنهم أعاقوا زحفه على بلاد فارس.

*****

بعد سيطرته على صور، زحف الإسكندر بجيشه نحو مصر، فاصطدم بعائق مماثل في مدينة غزة، عندما وصل إليها في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 332ق.م، لكنه وصل إليها مزوّدًا بخبرات واسعة تعلمها من حصار صور خلال الأشهر السابقة. وكانت غزة في ذلك الوقت الطريق الإلزامي إلى مصر، التي كانت تحكمها العائلة الفرعونية الواحدة والثلاثين تحت وصاية الملك الفارسي الإخميني داريوس الثالث. وكان داريوس قد عيَّن قائدًا لتحصينات غزة، المانعة لأيِّ عدو من اقتحام مصر، جنرالًا شديد المراس، اسمه “بتيس”، أعدمه الإسكندر بعد اجتياحه لغزة، لأنه تطاول عليه بالكلام، وقد احتقره الإسكندر لأنه في الأصل من الخصيان في البلاط الفارسي!

طلب الملك داريوس من “بتيس” أن يصمدَ في وجه الإسكندر مدة كافية تسمح له بتجهيز جيش قوي يطبق على القائد المقدوني من الخلف، لكن ذلك لم يحصل، لأن الإسكندر استخدم خبراته في حصار صور بقصف التحصينات البرية للمدينة من البحر. وبعد ثلاث محاولات فاشلة، قبل وصول الأبراج والمنصات من صور، خرق جيش الإسكندر الحصار واقتحم مدينة غزة، فانفتح أمامه الطريق الى مصر واسعًا.

المؤرخ الروماني كوينتوس روفوس، وقد كتب أيضًا في القرن الأول للميلاد، (في كتابه بعنوان “الكتب الباقية عن تاريخ الإسكندر المقدوني الكبير”، يقول: “إنَّ الإسكندر، بقتله الجنرال الفارسي “بتيس”، أراد أن يقلد معاملة “أخيل” للبطل المهزوم “هكتور”، كما في إلياذة هوميروس!

عندما دخل الإسكندر الى مدينة غزة، حسب المؤرخ روفوس، قتل جميع الذكور من سكان المدينة، وأرسل جميع نساء وأطفال المدينة الى البيع كعبيد في سوق النخاسة. (ولنا أن نتخيَّل كم أنَّ غزة سيئة الحظ لجوارها مع مصر، ولمعاناتها من الصراع بين الفرس والغرب)!

أما في المعارك، بعد اختراق الحصار، فقد سقط من الغزيين نحو عشرة آلاف قتيل. ويصف المؤرخ روفوس، طريقة إعدام القائد الفارسي “بتيس”، على طريقة “أخيل”، بقوله إنَّ المقدونيين ثقبوا رجليه من الكعبين بين العظم والوتر وأدخلوا فيهما حبلًا ربطوه بعربة مسرعة سحلته على الأرض الى أن مات!

بإزالته غزة، أزال الإسكندر العائق الأخير بينه وبين مصر، من غير أن يخشى انقطاع خط إمداداته من الشمال.

*****

قبل سنة من حصار صور، أي في العام 333 ق.م، (في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من تلك السنة)، تقابل الجيشان المقدوني والفارسي، بقيادة الإسكندر من جانب، وبقيادة داريوس الثالث من الجهة المقابلة في معركة “إيسوس”، (مدينة “إيسوس” القديمة تقع في السهل الساحلي لتركيا الحالية في مقاطعة “هاتاي” على الحدود السورية)، حيث انتصر جيش الإسكندر، فتراجع داريوس إلى بابل ليلتحق بجيشه هناك، وأكبر غنيمة كانت للإسكندر في تلك المعركة، أنه أسر عائلة داريوس المباشرة، المؤلفة من زوجته ووالدته وابنتيه، مما حمل الملك الفارسي على مكاتبة الإسكندر محاولًا التفاهم معه ديبلوماسيا. بالإضافة الى استيلائه على المناطق الفارسية في آسيا الصغرى، التي تشكل معظم أراضي تركيا الحالية.

كانت تلك معركة مشهودة كتبت بداية نهاية الدولة الفارسية، لأنها كانت حاسمة، وهي أول هزيمة تلحق بالجيش الفارسي وهو بقيادة الملك شخصيًا. وفوق ذلك، هرب داريوس بعدما تيقّن من انهزام جيشه.

يُجمع المؤرخون على أنَّ داريوس كتب الى الإسكندر ثلاث رسائل، كل واحدة منها تتضمّن عرضًا أرفع قيمة من سابقه.

الرسالة الأولى كانت رسالة مجاملة من داريوس قال فيها للإسكندر: “كانت هناك علاقة صداقة وتحالف بين والدكم الملك فيليب وملكنا ارتحششتا، لكن عندما صعد آر سيس ابن ارتحششتا الى العرش، كان فيليب هو المعتدي عليه، مع أنه لم يلحقه أي أذى من الفرس. لكن منذ توليَّ العرش، لم ترسلوا أي مبعوث لنا لتأكيد الصداقة القديمة والتحالف الذي تبعها، بل عبرتم بجيشكم الى آسيا وألحقتم بالفرس أذى كبيرًا”.

ردَّ الإسكندر على هذه الرسالة بقوله الى داريوس: “أسلافك غزوا مقدونيا، وبقية بلاد الإغريق، وألحقتم بنا أذى كبيرًا مع أننا لم نُلحق بكم أي ضرر. أنا عُينت قائدًا أعلى لليونانيين، وهدفي من العبور الى آسيا هو معاقبة الفرس، لأنكم أنتم البادئون بالعدوان”.

ثم عدَّد الإسكندر تلك الاعتداءات الفارسية بقوله: “دعمتم أهل بيرينثوس الذين أضروا بوالدي، وأرسلتم قوة الى “تراقيا” التي كانت تحت حكمنا. وقد توفي والدي على أيدي متآمرين حرضتموهم أنتم، كما تباهيتَ، في رسائلك بأنك أنت الذي قتلت آر سيس، ووصلت إلى العرش بطرق غير سويَّة، خلافاً للعادات الفارسية، وفيها إساءة للفرس، كما بعثت برسائل كثيرة إلى اليونانيين تُحرَّضهم ضدي، وتدفعهم إلى محاربتي. وبعثت بأموال الى أهل اسبارطة وغيرهم من اليونانيين، فلم تقبل أي مدينة يونانية أموالكم باستثناء اسبارطة. وقد حاول مبعوثوكم إفساد أصدقائي، وحاولتم تقويض السلام الذي أقمته بين اليونانيين، ولذا قدتُ هذه الحملة ضدكم، لأنكم أنتم البادئون بالنزاع”.

واسترسل الإسكندر في رسالته الشديدة اللهجة الى داريوس الثالث بالقول: “أما الآن وقد هزمت في البداية قادة جيشك وحكام ولاياتك، هزمتك شخصيًا مع جيشك، وبفضل الآلهة سوف أسيطر على بلادكم كلها. كلُّ الذين حاربوا إلى جانبك، ونجوا من الموت انضموا اليَّ بإرادتهم من غير إكراه، بل انخرطوا في الحملة ضدكم بإرادتهم الحرَّة”.

ثم راح الإسكندر يملي شروطه على داريوس بقوله: “بعد الآن خاطبني على أنني سيد آسيا كلها. وإذا كنت تخشى من الأذى للمجيء إليَّ بشخصك، فابعث ببعض أصدقائك لتلقي التطمينات اللازمة. تعال اليَّ بشخصك لتطلب مني إطلاق والدتك، وزوجتك، وأولادك، وأي شيء آخر ترغبه، وأي شيْ تستطيع إقناعي به سيكون لك”.

المعروف عن معركة “إيسوس”، أنَّ الملك داريوس، عندما انهزم جيشه أمام الإسكندر، فرَّ من المعركة هاربًا، تاركًا خلفه والدته وزوجته وابنتيه، فوقعن جميعًا في يد القائد المقدوني، وكان ذلك من الأسباب الجوهرية لهذه المراسلة.

ختم الإسكندر جوابه، بقوله للملك الفارسي: “عندما تتواصل معي في المستقبل، فليكن ذلك بصفتي ملك آسيا. لا تكتب لي كأننا على قدم المساواة، بل أعرض مطالبك الى سيد جميع ممتلكاتك، وإلّا سوف أتعامل معك على أنك مخطئ. أما إذا كنت مصرًّا على لقبك كملك، فقف ثابتًا وقاتل من أجله. فلا تهرب لأنني سوف أطاردك الى أي مكان تذهب إليه”!

*****

في العرض الثاني، طالب داريوس الإسكندر بإطلاق سراح والدته، وزوجته، وابنتيه، وخدمهم ومرافقيهم، لقاء مبلغ من المال قدره 500 وزنة من الفضة (نحو 13 ألف كيلوغرام من الفضة بمكاييل هذا الزمان)، بالإضافة الى منطقة آسيا الصغرى اللصيقة باليونان (تركيا الحالية). هذا العرض أهمله الإسكندر ولم يرد عليه.

أما العرض الثالث، فقد وجد الإسكندر من الضروري عقد مجلس عسكري لمناقشته، لأنه انطوى على بنود جديدة، أراد أن يستمزج آراء جنرالاته فيها، خصوصًا قدامى المحاربين منهم في أيام والده. وقد انطوى العرض الثالث على ما يلي: يُرفع المبلغ النقدي عشرين ضعفًا من 500 وزنة فضة الى عشرة آلاف وزنة (أي ما يعادل 260 طنًا حيث كل وزنة تساوي 26 كيلوغرامًا بالمكاييل الحديثة)، ويعطيه كل البلدان التي احتلها إلى الغرب من الفرات، أي تركيا، وجُزء من سوريا، وجُزء من العراق، والساحل الفينيقي (لبنان)، وفلسطين، ومصر. وفوق ذلك، عرض عليه أن يصاهره بتزويجه ابنته، فتصبح بينهما قرابة دم!

لم يفاجأ الإسكندر، وهو يستمزج الآراء، بأنَّ القادة القدامى أعربوا عن ميلهم الى قبول عرض الملك الفارسي. فقد وقف الجنرال بارمينيو يتحدث ناطقًا باسم العسكريين القدامى في جيش أبيه، من الوجهة الاستراتيجية، قائلًا إنه لا يحبذ المواجهة مع الجيش الفارسي في سهول سوريا والعراق المكشوفة، لأنها أنسب لجيش الخيالة الفارسي ورماته، حيث السهول المنبسطة تسهل عليهم استغلال تفوقهم العددي في مجال واسع للمناورة، وأشار بكلام ملطَّف إلى أنَّ اليونانيين لا يعرفون الكثير عن الوضع في بابل، لأنه قد يكون مشابهاً لمصر، ما يُغري الملك الإسكندر بترفيع عسكريين من أهل البلد، وكأنهم من “الرفاق”!

كان ذلك الاجتماع أول إشارة على وجود تباين بين القادة القدامى في جيشه وبين “الرفاق” الجدد. لم يفت ذلك على الإسكندر، الذي ردَّ على كلمة الجنرال بارمينيو اللطيفة اللهجة، بكلامٍ حادٍّ ومهين، قائلًا له: “لو كنتُ بارمينيو لقبلت العرض الفارسي، لكن بما أنني الإسكندر فسوف أرفضه. أما الزواج فهو شأني الخاص وأنا لا أرغب في اتخاذ زوجة فارسية. وأما الأسرى الفرس فهم ملكي الشخصي ولن أقبل بإطلاقهم مقابل عشرة آلاف وزنة”!

في الختام قرر الإسكندر أن يدعو داريوس الى الاستسلام، أو سوف يطارده الى أن يقتله أو يأسره!

*****

أخذ الإسكندر، مع ذلك، بالتحليل الاستراتيجي لقدامى الجنرالات، من حيث أخطار المواجهة في ميدان مفتوح، فراح يستدرج الجيش الفارسي إلى المرتفعات الشمالية في العراق، حيث حركة الخيالة ستكون بطيئة بالضرورة، وحيث علف الخيول شحيح. وهكذا ضرب الإسكندر الملك الفارسي داريوس الثالث الضربة القاضية في معركة “أربيل”، في العام 331 ق.م. وهذه المرة أيضًا هرب الملك داريوس شرقًا ليحاول جمع جيش جديد يواجه به الإسكندر، لكن “بيسوس”، كبير جنرالات جيشه، خانه وقتله في العام التالي 330 ق.م. وقد وجد الإسكندر جثة الملك الفارسي، فتعامل معه باحترام وإكرام، إذ أقام له جنازة ملكية رسمية، رفعت منزلته لدى الشعب الفارسي، فكسب إعجابهم ودعمهم أيضًا.

لكن موضوع جعل الحدود على نهر الفرات، كان خيار الجمهورية الرومانية بعد توسعها الى إمبراطورية شملت اليونان، وآسيا الصغرى، وسوريا ومصر، على قاعدة احتواء إيران بعزلها عن سوريا، بدلًا من خوض حروب مكلفة للسيطرة عليها. وهذا ما سنعرضه في الحلقة المقبلة، مع التحليل الروماني للتعاطي مع إيران، وهو تحليل ما زال ساريًا إلى اليوم، من حيث عزل إيران عن سوريا.

(الحلقة المقبلة يوم الأربعاء المقبل: احتواء إيران بعزلها عن سوريا“).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى