هَلَعٌ في إسرائيل: لندن تَلتَفُّ على “بلفور”
محمّد قوّاص*
لم تكن خطوةُ رئيس الحكومة البريطانية، كير ستارمر، رمزيّةً حين أعلنَ عن اعترافِ بلاده بالدولة الفلسطينية. سألَ كثيرون من الفلسطينيين ماذا يعني ذلك، وما أهمّيته في صنعِ فارقٍ بين اليوم والأمس.
تبدو الإجابةُ عسيرةً تحتاجُ إلى اجتراحِ استنتاجات يختلطُ بها الموضوعي بالرغائبي. غير أنَّ غضبَ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وكافة وزرائه مما قد نعتبره رمزيًا شكليًّا في الاعتراف البريطاني، نبّهنا جميعًا إلى أمرٍ جللٍ تستفيقُ عليه إسرائيل بعد 108 أعوام على وعد بلفور البريطاني الشهير في العام 2017 الذي لم يَلحَظ دولة فلسطين.
مَن يُراقِبُ حججَ نتنياهو ووزير خارجيته جدعون ساعر، كما المتحدِّثين الإسرائيليين الذين تهافتوا على البوح والإفتاء والتفسير، يستنتجُ ضحالةَ تبريرات رفض إسرائيل لاعتراف بريطانيا بالذات بدولة فلسطين. لم يجدوا لردّ ما “ترتكبه” لندن إلّا عنوانين:
* الأول، مفاده أنَّ قيام دولة فلسطينية يُهدّدُ الأمن الاستراتيجي لإسرائيل وحتى وجودها. وتقوم تلك الحجّة في وقتٍ تخوض إسرائيل حروبًا وصفتها بأنها “وجودية” رُغم غياب هذه الدولة الفلسطينية العتيدة وأخطارها.
* الثاني، مفاده أنَّ الاعترافَ بدولةٍ فلسطينية هو مكافأة لحركة “حماس” ودعمًا للإرهاب الذي أدانه العالم بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، و “زحف” الزعماء الغربيون جميعًا نحو إسرائيل استنكارًا لأخطاره.
لم تَكُن الدولة الفلسطينية على “رادار” إسرائيل خلال السنوات التي سبقت “طوفان الأقصى”. انقطعت سُبُلُ الحوار مع السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، على الرُغم من أنَّ الأخير وسلطته تمسّكا بخيارِ السلم والحوار والتسوية، ودفعا ثمن ذلك انقطاعًا عن غزّة منذ سيطرة حركة “حماس” (صاحبة مشروع الكفاح المسلح والحرب المستمرة) على القطاع منذ العام 2007. ولم تكن الدولة الفلسطينية طبعًا مادة تداول في العلاقة الملتبسة والمتوتّرة بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزّة. سهّل نتنياهو، بالذات، ورعى رحلات تمويل قطري للحركة في القطاع. حرص على إبقاء غزّة والضفة الغربية كيانَين مُنفصلين متناقضين، لا مكانَ بينهما للحمة قد تتحوّل يومًا إلى مشروع دولة فلسطينية يمكن التفاوض بشأنها. بنى نتنياهو وحلفاؤه حملاتهم الانتخابية على إسقاط الدولة الفلسطينية من التداول. خرج الاحتمال من قاموس القوى السياسية اليهودية، حتي تلك المعتدلة أو اليسارية منها.
أتى حدث “الطوفان” ليحمل ماءً غزيرًا إلى طاحونة إسرائيل. ليس فقط لنفي احتمال الدولة، بل حتى الترويج بحيوية لدى العواصم الغربية، وفي مقدمها واشنطن، لفكرة النفي الشامل للشعب الفلسطيني من غزّة طبعًا ومن الضفة الغربية حتمًا.
يُمثّلُ الاعترافُ البريطاني نكسةً خطيرة لسردية بدأت مع وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور قبل أكثر من قرن. تُدركُ إسرائيل ذلك، يعرف نتنياهو، بأنَّ البابَ العريض للبيئة الغربية الحاضنة لفكرة قيام إسرائيل وبقائها كان في لندن. يعرفُ أيضًا أنَّ دعمَ بريطانيا لم يتزحزح، ولا يشبه “النزق” الذي أصاب فرنسا منذ موقف الرئيس الراحل شارل ديغول بعد حرب العام 1967. لكن “هلع” إسرائيل يكمن في ظروفِ إنتاجِ قرار لندن المقلق.
فرئيس الحكومة البريطانية أطلَّ في تموز (يوليو) الماضي ليُعلِنَ أنَّ بلاده تُخطّطُ لهذا الاعتراف إذا لم تتخذ إسرائيل إجراءات لوقف حرب غزّة ومباشرة مسار لتسوية سلمية شاملة. الأفدح من ذلك هو أنَّ هذا الإعلان أتى بعد ساعاتٍ من لقاء جمعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اسكتلندا. والأكثر فداحة، أنَّ رجلَ بريطانيا أعلنَ رسميًا قبل أيام الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد يومين على لقاءٍ جمعه بترامب أيضًا أثناء زيارته “الملكية” للبلاد. كان ترامب قبل أسابيع قد نبّهَ إلى تراجُعٍ غير مسبوق لدعم إسرائيل داخل الكونغرس.
يعرف نتنياهو علاقة لندن وواشنطن التاريخية و”الخاصة”. يعرفُ استناد الإدارات الأميركية على الخبرة البريطانية في الشرق الأوسط. يعرف أيضًا أنَّ استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تكشفُ تراجع تأييد الأميركيين لإسرائيل. علّقَ ترامب على قرار ستارمر بأنه مجرّد “خلاف”. لم يغضب. اعترى إسرائيل خشيةً من تمدُّد العدوى البريطانية الداهمة إلى واشنطن، عبر الرئيس الأميركي بالذات، وإن بدا الأمرُ مستحيلًا حتى الآن. إنه الهلعُ من تدحرُجٍ أُطلق من لندن ومرّ خلال الأيام الماضية في نيويورك.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).