في صيف 2025، تتشكل ملامح نظام دولي جديد يتأرجح بين صعود الشرق وتراجع الغرب، وسط صراعات اقتصادية وسياسية محتدمة. ومن قلب هذه التحوّلات، يبرز دور الولايات المتحدة والصين وروسيا كقوى ترسم خرائط النفوذ العالمي وتُعيدُ تعريفَ موازين القوة. والحلقة الرتبعة والأخيرة تسلط الضوء على الاتحاد الأوروبي وصحوته المؤلمة.
(4)
أوروبا والفراغُ الأميركي: بدايةُ الاستقلال أم بدايةُ الانهيار؟
الدكتور سعود المولى*
انهارت فجأةً الركيزتان الجيوسياسيتان اللتان بُني عليهما الاتحاد الأوروبي ما بعد الحرب الباردة. استند الأول إلى الرابطة الأطلسية الراسخة، بينما استند الثاني إلى الرهان على أنَّ التنظيم الدولي (النظام الدولي) سيُغير العالم. لقد اختفت هاتان الركيزتان.
أ. الناتو والاتحاد الأوروبي: إعادة نظر ترامبية
تأسس هذا التحالف العسكري، الذي يمتد على جانبي شمال الأطلسي، في العام 1949، في ذروة الحرب الباردة، في سياق حصار برلين الغربية، وكان مُوَجَّهًا ضد الاتحاد السوفياتي، ثم روسيا في ما بعد. تحتفظ الولايات المتحدة حاليًا بنحو 100 ألف جندي على الأراضي الأوروبية، تحت عنوان الدفاع عن أوروبا ضد موسكو. تطوّرت الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة واتجهت بشكل أكبر نحو منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. كما تحوَّل التنافس بين واشنطن وموسكو تنافسًا بين واشنطن وبكين. يطالب دونالد ترامب شركاءه الأوروبيين في التحالف ببذل جهود أكبر لكي يتولى مسؤولية الدفاع عنهم، ويدعو إلى أن يبلغ الإنفاق الدفاعي الآن 5% من ناتجهم المحلي الإجمالي، بينما بالكاد يصل العديد من الدول الأوروبية إلى 2%. لكن الدول الأوروبية مترددة في ذلك نظرًا لصعوبة الظروف (انخفاض النمو الاقتصادي، والديون، والحرب الاقتصادية الشرسة التي تُضعف أحد أكثر الأقطاب انفتاحًا على العالم، إلخ)، لكنها تدرك أنها لا تملك خيارًا آخر، إذ باتت تعتبر التهديد الروسي تهديدًا وجوديًا. يقترح الأمين العام لحلف الناتو، “مارك روته”، الوصول إلى سقف 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي وتخصيص 1.5% من التكاليف ذات الصلة للدفاع. في الواقع، تُعدّ واشنطن لانسحاب جُزئي من الساحة الأوروبية لمواصلة “التوجُّه نحو آسيا” الذي بدأه باراك أوباما. تُظهر قمة الناتو، التي عُقدت في لاهاي في 24-25 حزيران (يونيو) 2025، محدودية الاستقلالية لدى الأوروبيين. ففي الإعلان الختامي (الأربعاء 25 حزيران/يونيو 2025)، تعهدت الدول الأعضاء الـ32 في حلف شمال الأطلسي (ناتو) باستثمار نسبة 5% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي في القطاعات الدفاعية في أفق العام 2035، منها نسبة 3.5% للإنفاق العسكري و1.5% لحماية البنية الأمنية بالمعنى العام، كالأمن السيبراني والبنى التحتية الحيوية. وفيما وصف الرئيس الأمريكي هذا التعهد بـ”الانتصار العظيم للجميع”، فإن قادة أوروبيين، على رأسهم رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، عبروا عن تحفظهم وشككوا في إمكانية تحقيق هذا الهدف. وعبّر ترامب عن بهجته بالقول بأنَّ الحلفاء سينفقون “قريبًا جدًا” ما يعادل إنفاق الولايات المتحدة، وقال “لطالما طالبتهم بالوصول إلى نسبة 5%، وسيصلون إليها. إنها نسبة هائلة… سيصبح حلف الناتو قويًا جدًا معنا”.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “دي فولكسكرانت» الهولندية (26 حزيران/يونيو) معلقة “لقد أظهرت قمة لاهاي أنَّ أوروبا ودّعت الأوهام المتعلقة بسلام طويل الأمد بعد سقوط جدار برلين (…) وبهذا أصبحت قمة “لاهاي” حدثًا تاريخيًا. هذه الزيادة لا مفرَّ منها، ليس فقط بسبب التهديد الذي تمثّله روسيا، بل أيضًا بسبب المطلب المشروع من الولايات المتحدة بأن تدفع أوروبا المزيد من أجل أمنها الخاص.
ب-الدفاع الأوروبي المشترك
ليس المال وحده هو المشكلة في بلورة الدفاع الأوروبي، بل مشكلته الرئيسة هي عدم كفاية تكامل القدرات العسكرية القائمة ضمن سلسلة قيادة سياسية-عسكرية فعّالة ومستدامة وشرعية. وثمة تحديات كبيرة تواجه الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في سياق العلاقة الجديدة بين الولايات المتحدة وروسيا. اليوم، يتشكل “تحالف راغبين” صغير يضم حوالي عشر دول أعضاء، بقيادة المملكة المتحدة وفرنسا. ويبدو أنه مستعد لإرسال قوة “طمأنة” إلى أوكرانيا، ليس للقتال، بل لفرض وقف إطلاق نار افتراضي، والمساعدة على إعادة بناء القوات المسلحة الأوكرانية، وضمان حرية الحركة في البحر الأسود، بمساعدة تركيا بلا شك. إنَّ إرسال مثل هذه القوة، التي ستكون بدون أيِّ ضماناتِ دعمٍ أميركي، والتي ستتطلب إنشاء مقرّ قيادة مؤقت وقيادات عمليات أوروبية عدة، سيمثل خطوة نحو الدفاع الأوروبي الخاص – أي الدفاع عن أوروبا، من قِبل أوروبا، ولصالح أوروبا. لكن ماذا لو لم يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا؟ إنَّ عجز الدول الأوروبية عن مساعدة أوكرانيا في صد القوات الروسية، والخوف المتزايد من انقطاع المساعدات العسكرية الأميركية للبلاد، يُظهران بوضوح فشل ما يُسمى بـ”دفاع أوروبا”، وهو نظامٌ يضم جميع أنواع التعاون في المجالات العملياتية والقدراتية والصناعية والمؤسسية، كل ذلك ضمن إطار حكومي دولي، حيث يفعل الجميع ما يشاؤون، وكيف يشاؤون، ومتى يشاؤون، ومع من يشاؤون، والأهم من ذلك، إذا شاؤوا. بعد ثلاثة وثلاثين عامًا من معاهدة ماستريخت، وسبعة وعشرين عامًا من إعلان سان مالو، وخمسة عشر عامًا من دخول معاهدة لشبونة حيز النفاذ، وجميع وعود “الدفاع المشترك”، لا يزال الدفاع مسؤولية الدول القومية وحدها.
النتيجة هي أن هذه الدول القومية السبع والعشرين، التي يُمكن أن نضيف إليها المملكة المتحدة والنروج، غير قادرة على إرسال عشرين ألف جندي إلى أوكرانيا في أي لحظة، على الرغم من أنها تُشكل مجتمعةً تعدادًا سكانيًا يبلغ 525 مليون نسمة، وتدفع رواتب أكثر من مليون ونصف مليون جندي، وتنفق أكثر من 420 مليار يورو على دفاعها في العام 2024. وهذا دليل واضح على أن “الدفاع الأوروبي” على أساس وطني قد وصل إلى طريق مسدود، وأنَّ أيَّ دولة أوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا، غير قادرة على إبراز قوتها خارج حدودها للدفاع عن مصالحها بمفردها.
فهل حانَ الوقت إذن للتفكير “خارج الصندوق”، أي البدء من الصفر وبناء دفاع مشترك حقيقي، متكامل ومتَّسق مع التهديد. ولتحقيق ذلك، يجب أن تكون أوروبا قادرة على النأي بنفسها عن الحامي الأميركي، الذي لطالما أخبر، بكل ثقة، وبحق، أنه لم يعد يرغب في لعب دور الحامي. والحال أنه إذا انهارت أوكرانيا، سينهار معها الاتحاد الأوروبي، بصفته فاعلًا “جيوسياسيًا”، لأنه سيثبت عجزه عن الدفاع عن حلفائه ومصالحه وقيمه.
ت -الاتحاد الأوروبي
في صيف العام 2025، قدّم النائب الروماني جورجي بيبيريا (Gheorghe Piperea)، وهو عضو يميني متطرّف في الطيف السياسي، اقتراحًا بسحب الثقة من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. وينتقد بيبيريا لغياب الشفافية في فضيحة “فايزرغيت”، وهي الفضيحة التي أحاطت بلقاحات “كوفيد-19” التي أمر بها الرئيس، الذي رفض تقديم رسائل البريد الإلكتروني المطلوبة. ومن أصل 720 رفض 360 عضوًا في البرلمان الأوروبي اقتراح سحب الثقة، مقابل 175 صوتوا لصالحه. وبينما أيد نواب اليسار والوسط الرئيسة، انتقدوا بوضوح إدارتها الاستبدادية للغاية، التي لم تُجرِ معها سوى القليل من المشاورات. وانتقدت النائبة الوسطية ورئيسة حزب “رينيو” (Renew)، فاليري هاير، المفوضية ووصفتها بأنها “مركزية ومتصلبة للغاية”.
على مقلب آخر، أكدت ألمانيا وفرنسا وبولندا (في 27 آب/أغسطس) دعمها “الثابت” لمولدوفا في مسار انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في وجه “أكاذيب” موسكو و”تدخلاتها”. وجاء موقف قادة “مثلّث فايمار” خلال زيارة رسمية تشكل رسالة “دعم لمولدوفا من قبل القادة الأوروبيين”، قبيل الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل. وتأتي هذه الزيارة وسط اتهامات بتدخل روسي في مولدوفا. ووصف إيمانويل ماكرون الزيارة بأنها “فرصة تاريخية” لمولدوفا.
كما سافر الرئيس الفرنسي وزوجته إلى المملكة المتحدة في صيف العام 2025 في زيارة رسمية، وحظيا باحترام كبير. وقد توصل الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى اتفاق بشأن الهجرة غير الشرعية المتجهة إلى المملكة المتحدة عبر فرنسا، فأصبح بإمكان السلطات الفرنسية الآن التدخل بعيدًا من شواطئها لتفتيش القوارب الصغيرة، وفي مقابل كل مهاجر غير شرعي يُمنع من الوصول إلى الشواطئ البريطانية، ستقبل لندن مهاجرًا شرعيًا واحدًا، إذا لم يسبق له محاولة دخول البلاد بطريقة غير شرعية. وبالتالي، فقد يؤدي هذا إلى إعادة أكثر من 2600 مهاجر غير شرعي إلى فرنسا.
ث- المعلوم أن بريطانيا وفرنسا هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان اللتان تمتلكان جيشًا عاملًا فعليًا، وكلاهما عضو في حلف الناتو، وقد قررتا إقامة شراكة عسكرية من شأنها الحفاظ على استقلالية الردع وتطوير قوة التدخل السريع المشتركة (Combined Joint Expeditionary Force, CJEF)[1]. ولدى فرنسا والمملكة المتحدة كل المصلحة في الحفاظ على علاقات سليمة لأسباب استراتيجية. وفي حين دعا إيمانويل ماكرون الدولتين إلى “حماية النظام العالمي”، أعلنت الدولتان عن نيتهما تعزيز قوة التدخل السريع المشتركة، التي يمكن أن يزيد قوامها إلى 50 ألف جندي، أي ما يعادل فيلقًا عسكريًا، لتصبح هي القوة الفرنسية-البريطانية المشتركة التي يمكن استخدامها كقوة طمأنة في أوكرانيا. وستستثمر بريطانيا وفرنسا المزيد في مشروع يوتلسات Eutelsat[2]، في بادرة استقلالية عن ستارلينك الأميركية (Starlink). وستستثمر فرنسا في محطة طاقة نووية بريطانية. كما أُعلن عن تبادل للممتلكات الثقافية؛ حيث سيتم إعارة نسيج بايو Bayeux [3]إلى المتحف البريطاني.
ج– دور ألمانيا في أوروبا. منذ الوحدة الألمانية في العام 1990، كان الخطاب السائد والمكرر أنَّ على ألمانيا أن تتحمل مسؤوليتها وأن تتصرف كدولة رائدة في أوروبا. وكان هذا يعني دائمًا أنَّ ألمانيا ستدفع تكاليف الحفاظ على تماسك أوروبا، لكن كونها قائدًا لا يعني أن تكون هي الآمرة والموجهة للآخرين. وهذا أدى إلى أن أنغيلا ميركل، على وجه الخصوص، دائمًا ما كانت تختبئ وراء دول أخرى، وخصوصًا فرنسا.
غيّرت الحكومة الألمانية الحالية، بقيادة فريدريش ميرتس، المستشار الجديد، لهجتها. أصبح خطابها الآن يدور حول ألمانيا كأقوى دولة في أوروبا. ما يعنيه هذا في الواقع هو وجود رغبة في القيادة الفعلية، لا مجرد دفع الفواتير المالية . وهذا يُثير صراعًا، لا سيما مع فرنسا. فالفرنسيون لطالما اعتبروا أن أوروبا، بالاتحاد الأوروبي، لها قيادةً ثنائية، فرنسا بالأمام وألمانيا من ورائها. أما الآن، فيبدو أن الأمور يجب أن تتغير. بشكل عام، القيادة الألمانية الجديدة بقيادة ميرز تطمح الآن إلى دورٍ قيادي لألمانيا في الاتحاد الأوروبي، يتجاوز مجرد تحمّل الفاتورة. يُشير هذا إلى طموح ألمانيا بأن تبرز كقوةٍ مُهيمنةٍ على نظام الدول الأوروبية الغربية في عالمٍ مُتعدد الأقطاب. لكن ألمانيا لا تمتلك القدرة العسكرية الكافية لدعم هذا المشروع. منذ ستينيات القرن الماضي، عندما أنشأت فرنسا “قوة الردع النووي”، كانت الحكومات الفرنسية تضع على الدوام في اعتبارها إبرام صفقةً على هذا النحو: بما أنَّ قوة فرنسا النووية مُكلفة، فإذا وعدنا بتوسيع نطاق ردعنا النووي ليشمل الدفاع عن ألمانيا، يُمكن للألمان دفع جزءٍ من تكاليفه. ولأن الألمان لا يملكون قوةً نوويةً ولا يستطيعون امتلاكها، فإنَّ لديهم ما يكفي من المال لتمويل جيشٍ تقليديٍّ قوي، وهو عكس الوضع الفرنسي. وقد بذلت فرنسا جهودًا عديدةً لإبرام صفقةٍ كهذه، وكانت ألمانيا مستعدةً أحيانًا للنظر في أمرٍ مماثل، بدفع جُزءٍ من تكاليف “قوة الردع النووي” مُقابل الحماية النووية الفرنسية. ولكن عندما طلب الألمان قائمة أهداف الصواريخ النووية الفرنسية، علموا أنَّ تحديد الأهداف يجب أن يظلّ من اختصاص فرنسا كدولةٍ ذات سيادة. تكمن المشكلة هنا في أنَّ معظم الأهداف كانت في ألمانيا، إذ كانت الفكرة منع الجيش الروسي من الوصول إلى فرنسا، ولم يكن من الممكن إيقافهم إلّا في ألمانيا. لذا، لم يقترب الألمان والفرنسيون حتى من التوصل إلى اتفاق، مما عزز اعتماد ألمانيا على الولايات المتحدة.
أوروبا وسؤال المستقبل
يوجد في ألمانيا، 40 ألف جندي أميركي، أي ما يعادل حجم القوات الموجودة في أوكيناوا باليابان. بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد غير معروف من الرؤوس النووية الأميركية المتمركزة في ألمانيا. ويوجد في رامشتاين وفيسبادن، أهم مركزي قيادة للجيش الأميركي، إلى جانب ذاك الموجود في المحيط الهادئ. ومعلوم أنه لا يمكن القيام بأي شيء في الشرق الأوسط إلّا من خلال القيادة العسكرية الأميركية في فيسبادن. من هنا ضرورة النظر دائمًا إلى السياسة الخارجية الألمانية من هذا المنظور. كما إنَّ في ألمانيا نخبة سياسية تدربت على مدى عقود على عقلية أنَّ ألمانيا بمفردها لا تستطيع فعل أي شيء ما لم تدعمها الولايات المتحدة. ولا تزال ألمانيا وإيطاليا، تحت احتلال الولايات المتحدة العسكري بشكلٍ أساسي.
- تستضيف ألمانيا أعدادًا كبيرة من القوات الأميركية، حيث تُعد ألمانيا واحدة من الدول الخمس التي تضم أكبر عدد من القوات الأميركية المتمركزة فيها، وتحديدًا ما يزيد عن 34,000 جندي أميركي في حزيران (يونيو) 2025 وفقاً لـ”USAFacts”. وألمانيا هي الدولة الثالثة التي تضم أكبر عدد من القوات الأميركية المتمركزة بها، وتأتي بعد اليابان وكوريا الجنوبية. ويعكس هذا التواجد القوي العلاقة الإيجابية والوثيقة بين البلدين، والتي تتميز بالشراكة الوثيقة والتبادل التجاري العالي.
هذه القواعد العسكرية الأميركية المتنوعة في ألمانيا، مخصصة لأغراٍض عدة مثل دعم العمليات العسكرية والتعاون الأمني بين البلدين. تعتبر ألمانيا من أقرب حلفاء الولايات المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي، ويعتبر هذا التواجد العسكري مؤشّرًا إلى هذه العلاقة الاستراتيجية المتينة بين البلدين.
- توجد قواعد أميركية رئيسة عدة في إيطاليا، أبرزها قاعدة أفيانو الجوية في الشمال الشرقي، وقاعدة سيغونيلا البحرية الجوية في صقلية، ومقر الجيش الأميركي في فيتشنزا، ومطار كابوديتشينو في نابولي الذي يشكل جزءًا من البنية التحتية للدعم البحري. تشكل هذه القواعد جزءًا من شبكة استراتيجية واسعة للوجود العسكري الأميركي في أوروبا. وتساهم هذه المنشآت في تدريب القوات الأميركية وتخطيط العمليات العسكرية في المنطقة، وتدعم أنشطة الناتو. وتضم كل منها مجموعة متنوعة من المنشآت والمرافق لخدمة الأغراض العسكرية المختلفة.
هل ستغادر القوات الأميركية قواعدها إذا أمرها ترامب بذلك؟ من الصعب حدوث ذلك. فما حفروه وبنوه واستثمروه في الأرض من تكنولوجيا، لا يُمكن حتى التكهن بما سيحدث له في حال الانسحاب. ثمة مليارات ومليارات من الدولارات في هذه التكنولوجيا المتقدمة على الأراضي الألمانية، أو تحت الأرض. هل سيستخرجونها؟ فرص العمل في الجيش الأميركي مرتبطة بقواعدهم العسكرية البالغ عددها 750 قاعدة حول العالم. إذا كان ترامب يفكر في جعل “أميركا عظيمة مرة أخرى” من خلال إعادة بناء المجتمع الأميركي، وبناء مدارس ثانوية لائقة، ووضع نظام رعاية صحية لائق، والقضاء على وباء المخدرات، فعليه إعادة هؤلاء الأشخاص إلى الحياة الواقعية على الأرض الأميركية، حيث سيتعين عليهم أن يتعلّموا كيف يكونون رجال شرطة أو أطباء لائقين. هذا ما على ترامب فعله للبقاء في منصبه إذا كان شعاره “جعل أميركا عظيمة مجددًا” يتعلق بالولايات المتحدة كمجتمع لا كإمبراطورية.
عندما تولى ترامب منصبه خلال ولايته الأولى، وكذلك في بداية ولايته الثانية، كان هناك شعور بضرورة أن تكون للدول الأوروبية سياسة خارجية مشتركة وقدرة أمنية مشتركة لأنَّ الولايات المتحدة ستغادر أوروبا في النهاية، وأنها ستكون بحاجة إلى شيء مختلف عن الولايات المتحدة الأوروبية وعن أوروبا كامتداد عبر الأطلسي لأميركا. لكن هذه التوقعات لم تلبث أن ضمرت أمام الصعوبات والمشكلات الكثيرة.
بحسب كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، وفي أعقاب الحرب الإيرانية-الأميركية-الإسرائيلية، أصبح من الضروري التوقف للتأمل وإلقاء نظرةٍ فاحصة متأنية وعميقة، على الاضطرابات التي تفاقمت وجعلت عالم اليوم تسوده الفوضى والانقسامات الجيوسياسية وفقدان البوصلة الأخلاقية.
هناك ثلاثة أسبابٍ رئيسة لهذا الوضع: أزمة التعددية، وعودة المنطق الإمبريالي، وأزمة ثقافية في الغرب. أول هذه الاضطرابات الرئيسة هو انهيار التعددية، ذلك النظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية على الحوار والتوافق بين الدول ذات السيادة. فالأمم المتحدة، التي كانت في يومٍ من الأيام ضامنةً لنظامٍ قائمٍ على المساواة بين الدول واحترام السيادة الإقليمية، أصبحت الآن غير فعّالةٍ إلى حدٍ كبير بحيث تفقد القرارات معناها وجدواها، في حين لم تعد القوى الكبرى تتفق على المبادئ الأساسية. ويُعدُّ فقدان الثقة هذا خطيرًا بشكلٍ خاص بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي بُني على هذه القيم خصوصًا وأنَّ جوهر الاتحاد يقوم على التعددية. إنَّ استحالة العمل الجماعي بشأن القضايا الدولية الكبرى (المناخ والسلام والأمن) تضعف إلى حد كبير الحوكمة العالمية، ما يؤدّي إلى توسيع الفجوة بين الشمال والجنوب.
إلى جانب هذه الأزمة المؤسسية، يشهد العالم اليوم عودةً مقلقةً للمنطق الإمبريالي، في الصين وروسيا والولايات المتحدة: هذه القوى العظمى تتصرف مجددًا كإمبراطوريات تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها، غالبًا على حساب القانون الدولي. يستند هذا السلوك إلى رؤية عالمية تقوم على طموح اقتحام كل الحدود وغزوها: سواء في تايوان أو كندا أو أوكرانيا أو القطب الشمالي، أصبحت الأراضي مجددًا مجالًا لرهانات السيطرة والقوة. يتعارض هذا المنطق جذريًا مع منطق الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر الحدود ثابتةً لا تُمس. كما إنه يُمثل قطيعة مع نموذج ويستفاليا للتعايش السلمي بين الدول. تدفع أوروبا والغرب عمومًا الآن ثمن غطرستهما السابقة، لا سيما في علاقتهما بدول “الجنوب العالمي”. تُعتبر محاولات فرض النماذج السياسية أو الثقافية الغربية استعمارًا جديدًا. ويتجلى رفض هذه الهيمنة جليًا في عمليات التصويت في الأمم المتحدة، حيث امتنعت العديد من الدول الإفريقية عن التصويت أو صوّتت ضد القرارات التي اقترحتها أوروبا. حتى الدول التي حظيت تاريخيًا بدعم غربي، تُعرب الآن عن رغبتها في التحرر. هذا الانقسام بين الشمال والجنوب أصبح هيكليًا، إذ يرتكز على انعدام ثقة عميق.
وفيما يتعدى صراعات القوة الجيوسياسية، ثمة أزمة داخلية في الحضارة الغربية، إذ هي تعاني من فقدان معناها وجذورها، تغذي هذه الأزمة نزعات النسبية والفردية والاستهلاكية. أصبحت الذاكرة واللغة والتسامي، وحتى فكرة الحقيقة، موضع تساؤل. هذا التفكيك الثقافي يُضعف القدرة الجماعية على استشراف المستقبل. ونحن نشهد في أوروبا تراجع التعليم ونقل المعرفة والوعي التاريخي، لصالح ثقافة التعبير الفوري، وثقافة الذات الموضوعة في مركز كل شيء. هذا الفراغ الأخلاقي يُضعف التماسك الجماعي.
لا تدور إعادة الهيكلة العالمية هذه حول صدع مزدوج بين التعددية والقيم الغربية فحسب، بل إنها تعمل أيضًا من خلال تنافس استراتيجي على الموارد والتقنيات التي ستحدد مستقبل مجتمع الغد. لذلك، فإنَّ العالم بعيدٌ كل البُعد عن صراع حضارات واحد، حتى مع وجود هذا العنصر، لا سيما في بُعدِه الديني. كلُّ هذه التصدّعات تمتدُّ عبر الحضارات: بين الديموقراطية التشاركية والاستبداد التكنولوجي، بين التطلعات المحلية والعولمة الرقمية. إنَّ التبادلات الثقافية عبر الهجرات والتكنولوجيا، تجعل الحضارات مترابطة لدرجة تُلغي أي تفسير ثنائي. لم يعد العالم منقسمًا إلى كتل متعارضة، بل إلى مجموعات من المصالح المتغيِّرة.
لقد أعادت الرأسمالية تنظيم نفسها مرارًا وتكرارًا من خلال الحرب. أعيد تنظيم الرأسمالية عندما استولى الهولنديون على جنوة وانتقل مركز الرأسمالية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي. ثم هزم البريطانيون الهولنديين وانتقل المركز إلى لندن. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى التي دمرت الإمبراطوريات الأوروبية القديمة، واستبدلتها بالدول القومية الحديثة. وبعد ذلك جاءت فوضى الثلاثينيات، عندما لم تعد بريطانيا قادرة على الحفاظ على النظام العالمي بينما رفضت الولايات المتحدة القيام بالمهمة، مما أدى إلى الحرب العالمية الثانية، التي جعلت ألمانيا واليابان حليفتين، كل منهما تسعى إلى “منطقة نفوذها” الخاصة. ثم كانت تسوية ما بعد الحرب والتي أدت إلى ظهور النظام ثنائي القطب ومعها كانت حروب التحرير الوطنية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وأخيرًا جاءت نهاية الحرب الباردة التي جعلت الولايات المتحدة القوة المهيمنة الجديدة، وجلبت ثلاثة عقود من الليبرالية الجديدة -النظام العالمي الجديد لجورج بوش الأب- والذي أصبح الآن في حالة خراب. إذن حول أي قوة، أو قوى، ستعيد الرأسمالية تنظيم نفسها هذه المرة؟ وهل ستُعاد تنظيمها مرة أخرى بالحرب؟ هناك مرشحان فقط لهذا الأمر (الحرب): الولايات المتحدة والصين. يلفت الانتباه هنا أن الخبراء والاستراتيجيين في الولايات المتحدة يناقشون السيناريو الذي طرحه ثوسيديديس عند محاولة تفسيره سبب خسارة أثينا، القوة الرائدة في عصرها، للحرب البيلوبونيسية، كما يرويها. فقد هُزمت أثينا على يد إسبرطة لأنها لم تضرب مبكرًا بما يكفي، عندما كانت لا تزال تتمتع بالميزة الاستراتيجية. وهي ظلت تراقب صعود القوة المهيمنة الجديدة حتى فات الأوان، حين أصبحت إسبرطة أقوى من أن تُهزم.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
[1] كان تشكيلها نتيجة لمعاهدة لانكستر هاوس Lancaster House – الموقعة في 2 نوفمبر 2010، بين فرنسا والمملكة المتحدة – والتي تؤكد الرغبة المشتركة في تعزيز التعاون الدفاعي بين البلدين.
[2] يوتلسات شركة فرنسية تهتم بالأقمار الصناعية. توفر التغطية على كامل القارة الأوروبية، فضلاً عن منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، والهند، وأجزاء كبيرة من آسيا والأمريكيتين، وهي واحدة من الثلاث شركات الرئيسية في العالم مشغلي السواتل من حيث الإيرادات.
[3] نسيج بايو هو أثر نفيس صنع من الكتان بطول 231 قدمًا وبعرض 20 بوصة، وقد تحول لونه للبني الفاتح مع الزمن، وتم تطريزه بالإبرة على أقمشة صوفية من ثمانية ألوان، وبها مشاهد تمثل غزو إنجلترا من قبل النورمان.