البراءة المسروقة: من الخيال الديني إلى الواقع السياسي

الدكتور داوود البلوشي*

في عالمٍ أصبح فيه تشكيل الوعي أداة أكثر فاعلية من إدارة السياسة نفسها، لم تعد أزمة فلسطين اليوم مجرّد صراع على حدود أو خرائط، بل تحوّلت إلى صراع حول تعريف الحقيقة ذاتها. هل تقوم السياسة على وقائع يمكن التحقق منها، أم على خيال ديني متجذر يتعامل مع الواقع كظلّ لنبوءة مقدسة لا تقبل النقاش؟

لم ينشأ هذا الخيال في فراغ، بل تشكّل بعمق داخل الوجدان البروتستانتي الأنغلوـ أميركي منذ القرن التاسع عشر. لم تُعرَض فلسطين حينها كقضية شعب واقع تحت الاستعمار، بل باعتبارها محطة لاهوتية في “سيناريو تاريخي” بانتظار لحظة التحقق. بهذا الانتقال، تحوّلت القضية الفلسطينية من نطاق القانون الدولي إلى حقل الخيال الديني.

هذا الانزياح من الواقعي إلى الرمزي تجلّى منذ البداية في التعامل مع قرارات الأمم المتحدة. ففي العام 1947 أقر القرار 181 تقسيم فلسطين إلى دولتين ووضع القدس تحت نظام دولي خاص (Corpus Separatum). ثم جاء القرار 194 ليؤكد حق اللاجئين في العودة والتعويض، وأعقبه القرار 303 لتثبيت تدوبل القدس. على الورق كانت هناك رؤية واضحة لتسوية عادلة، لكن في الواقع جرى التعامل مع هذه القرارات كمجرد اقتراحات معنوية يمكن تجاوزها كلما تعارضت مع “الرؤية المسبقة”.

منذ ذلك الحين، لم تُمنح الدولة الفلسطينية فرصة لتُولَد كواقعٍ سيادي، بل كملفٍّ قابل للإدارة فقط لا للتنفيذ. فالضفة الغربية قُسِّمت إلى مناطق (A/B/C)، وغزة فُصِلَت وعُزِلت جغرافيًا وسياسيًا، والقدس أُخرجت تدريجًا من معادلة العاصمة خلافًا لوضعها القانوني الدولي. لم يكن المسار مسار “حلّ نزاع”، بل عملية مستمرة لإعادة تعريف الصراع بحيث يبقى معلقًا إلى الأبد.

وعندما تُبنى السياسة على أساطير دينية، تتحول إلى عقيدة غير قابلة للمراجعة. تبعًا لذلك، أصبح “الدفاع عن إسرائيل” يتحول تدريجًا من موقف سياسي قابل للنقاش، إلى شرط أخلاقي مُسبق لإثبات البراءة الحضارية، خصوصًا في الوعي الغربي الذي لا يزال يحمل جرح المحرقة (الهولوكوست) كذاكرة أليمة تحوّلت إلى عقدة ذنب سياسية، يُستدعى وجودها ليس للإنصاف، بل لتبرير الإعفاء من المحاسبة.

من البراءة التاريخية إلى الحصانة السياسية

لم تكن الهولوكوست يومًا حدثًا محل إنكار، فهي جريمة إنسانية لا تُنسى ولا يمكن تجاهلها. لكن ما يحتاج إلى مساءلة هو كيف تحولت هذه المأساة إلى أصل أخلاقي يمنح إسرائيل حصانة سياسية مطلقة. في المخيال الغربي، لم تعد إسرائيل كيانًا سياسيًا قابلًا للنقد، بل رمزًا يجب حمايته حتى يبقى الغرب بريئًا من ماضيه. المعادلة الضمنية بسيطة: إذا ظلت إسرائيل بريئة، ظل الغرب بريئًا.

بهذا المنطق، لم يعد الدفاع عن إسرائيل مجرد دعم لحليف، بل طقس توبة تمارسه الحضارة الغربية عبر السياسة لا عبر الاعتذار. إنها حماية تُمارس باسم الأخلاق لكنها تخدم غاية التبرئة الذاتية. والخطورة هنا أن المسألة لم تعد تتعلق بما تفعله إسرائيل، بل بما يحتاجه الغرب من استمرار براءتها كي لا ينهار سردُ براءته هو.

الأسطورة كمحرّك للسياسة

من رحم هذا الوعي نشأت فكرة “الهوية اليهودية–المسيحية” التي تُقدَّم اليوم كإطار ثقافي مشترك للغرب. لكنها ليست توصيفًا تاريخيًا بقدر ما هي إعادة هندسة للذاكرة الأوروبية. فبهذا الخطاب تم محو قرون من الاضطهاد الأوروبي لليهود، وتهميش الدور الشرقي والإسلامي في بناء الحضارة الغربية.

بهذا، لم تعد إسرائيل مجرد دولة، بل أصبحت عنوانًا رمزيًا لبقاء “الحضارة الغربية” نقية من الذنب. وأصبح رفضها في هذا الخيال خيانة للحضارة، وليس مجرد موقف سياسي مشروع. هنا يتم تحويل السياسة إلى عقيدة مغلقة.

يتجلى الخيال الديني ليس كإضافة ثقافية، بل كمحرك خفي للقرار السياسي، يمنح الشرعية لمن يشاء ويمنع المحاسبة عمّن يشاء، لا بالقانون، بل بالأسطورة.

“السلام” كأداة إدارة لا حل

لفهم الواقع السياسي الراهن، يجب التوقف عند ما يُسمى خطأً بـ”عمليات السلام”. ما يُعرَضُ غالبًا ليس حلولًا حقيقية، بل هندسة مؤقتة للصراع، تُدار تحت عنوان “وقف الألم” بدون معالجة الجذور. منذ اتفاقيات أوسلو، لم يُمنح الفلسطيني مسار سيادة، بل مسار إدارة: تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق (A/B/C)، وفصل غزة جغرافيًا وسياسيًا، وسحب القدس تدريجًا من معادلة السيادة، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى جهاز إدارة واقع لا تغييره.

وعندما ظهرت مبادرات أُطلق عليها “سلام اقتصادي”، كانت في جوهرها محاولة تحويل الحق السياسي إلى استحقاق مالي: الإعمار مقابل الصمت، لا الدولة مقابل الاعتراف.

الأسئلة الجوهرية هنا لأيِّ مبادرة سلام حقيقية:

إن غابت هذه العناصر، فإنَّ ما يُقدَّم اليوم ليس حلًا للصراع، بل تأجيلًا منظَّمًا له.

ومع ذلك، لا يخلو المشهد من إشارات متباينة – ثمّة اعتراف أممي متسع بالدولة الفلسطينية (وإن ببطء)، وحوارات فكرية فلسطينية وإسرائيلية تستكشف صيغًا غير تقليدية مشتركة (كونفيدرالية، ازدواج سيادة، عاصمة مفتوحة). إلّا أنَّ نجاح أي نموذج مستقبلي يتطلب تحوّلًا أعمق على أن يُفهم أنَّ الخيال الديني ليس تفصيلًا ثقافيًا، بل مصدر قرار يجب مساءلته أخلاقيًا قبل مساءلة الخرائط سياسيًا.

الواقع القانوني والإنساني وتسمية الأشياء كما هي

حين تُسجَّل جرائم واسعة النطاق من قتل مدنيين، هدم بنية تحتية، حصار يمنع الدواء والغذاء، لا يمكن للعقل القانوني أن يختبئ خلف اللغة الديبلوماسية. كما إنَّ تقارير صادرة عن خبراء أمميين ومنظمات حقوقية دولية كبرى (مثل هيومَن رايتس ووتش وأمنيستي)، وصفت ما يجري بأنه “أشكال من التطهير والإبادة”، وتعتبر صياغات قانونية دقيقة، لا دعائية تُطلق فقط عندما تتحقق شروط محددة. كما إنَّ استخدام مصطلح “إبادة” (Genocide) هنا ليس موقفًا عاطفيًا، بل توصيفًا قانونيًا يستند إلى نمط من الأفعال يتجاوز مجرد “النزاع المسلّح” إلى محاولة محو وجود شعب وذاكرته وقدرته على البقاء. وهنا علينا طرح السؤال أمام الضمير العالمي:

صدام الحضارات — أم فخ البراءة الأخلاقية؟

ما يجري اليوم لا يقود فقط إلى حرب، بل إلى تثبيتِ وَهمٍ أخطر وهو تحويل إسرائيل إلى “رأس حربة حضارية” لا تُحاكم لأنها تمثل “الغرب الأخلاقي”. وإبقاء الفلسطيني رمزًا لصراع وجودي لا سياسي، وكأنه ليس كائنًا قانونيًا، بل “عامل خلل تاريخي” يجب احتواؤه لا الاعتراف به. وبهذه الصياغة، يُعاد إحياء منطق صدام الحضارات — ليس عبر خطاب الكراهية فحسب، بل عبر هندسة سياسية باردة تؤبد فكرة أن:

وهذه الفكرة أخطر بما لا يقاس من الحرب ذاتها، لأنها تُحوّل الإنسان إلى وظيفة رمزية داخل سردية الآخر، لا كقيمة ذاتية مستقلة.

الحل لا يبدأ من الخرائط — بل من إسقاط هذا الوهم.

سؤال للضمير قبل السياسة

إذا كانت الهولوكوست جرحًا حقيقيًا في الوعي الإنساني، فإن تحويلها إلى ذريعة لإنتاج هولوكوست سياسي جديد ليس فعل ذاكرة، بل خيانة للذاكرة نفسها. السؤال إذًا ليس:

إنَّ أيَّ سلامٍ لا يبدأ من كسر منطق “براءة بلا عدالة” سيبقى مجرد هدنة موقوتة — يُجهَّز من بعدها فصلٌ أكثر عنفًا. فالسلام الحقيقي لا يُصنع عندما يصمت السلاح، بل عندما يُعاد الإنسان نفسه من رمز في سرديات الآخرين إلى مرجعية أخلاقية لا يمكن تجاوزها. حينها فقط — لا يُعامل الحق كاستثناء، ولا العدالة كترف يمكن تأجيله.

Exit mobile version