إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب

في هذه الحلقة الثامنة من مسلسل “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب” نتتبّع وعد “السلام الأبدي” بين كِسرى ويوستنيانوس في العام 532م، وكيف تحوّل من حُلمٍ على الورق إلى هدنةٍ قصيرة تُمهّد لحروبٍ أطول. ما الذي تكشفه التجربة عن حدود الديبلوماسية حين تصطدم بحسابات القوة؟

معاهدة “كامب ديابفيد: ذكرتها الباحثة مارتا ليسون في عرض لمعاهدات السلام المهمة من أقدم الأزمنة إلى اليوم.

(8)

“معاهدة السلام الأبدي”

 

سليمان الفرزلي*

عبارة “السلام الأبدي”، كلامٌ جميلٌ على الورق. أما على الأرض، فإنها عبارةٌ مستحيلةٌ، كما ثبت في جميع مراحل التاريخ، القديم، والمتوسط، والحديث.

مع ذلك، فإنَّ الحاكِمَين الكبيرين في بلاد فارس وبلاد الروم، كسرى الأول (أنو شروان)، ويوستنيانوس الأول الكبير، في بلاد الروم، أراد كلٌّ منهما أن يكونَ السلامُ طويلًا بين الدولتين اللدودتَين، لأسبابٍ داخلية تتعلق بالإصلاح العام لوقف التدهور الناجم من الحروب المتواصلة بينهما.

لكن الواقع أثبت، بعد أقل من ثماني سنوات على توقيع “معاهدة السلام الأبدي” في العام 532م، أنَّ الشيء الأبدي هو الحروب المتواصلة. وهذا ما أكّدته أيضًا الحروب والمعاهدات الحديثة منذ بروز الولايات المتحدة كلاعبٍ أول على المسرح العالمي بعد الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، بما يتشابه مع أوضاع الدولة الرومانية بعد أفول نجم الجمهورية، وسياسييها الكبار.

توقفت الحرب العالمية الأولى بعد دمارٍ واسع وملايين القتلى، فكان السلام القصير خلال الفترة الفاصلة بين الحربين بمثابة استراحة من أجل الاستعداد لحرب جديدة، فانطفأت فكرةُ “الحربِ التي تُنهي كل الحروب”، مثلما انطفأت فكرةُ “السلام الأبدي” التي نحن بصددها هنا، بين كسرى وقيصر، قبل 1400 سنة!

السلام الأطول الذي تحقق في التاريخ القديم هو الذي ساد نسبيًا خلال حكم الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر لمدة خمسين عامًا من حكمه الطويل، (من سنة 27 قبل الميلاد الى 14 ميلادية)، لكن بعد حربين أهليتين كبيرتين، ومتتاليتين، انتصر فيهما أغسطس قيصر، الأولى ضد قتلة راعيه يوليوس قيصر في مجلس الشيوخ في منتصف شهر آذار (مارس) من عام 44 قبل الميلاد (أغسطس قيصر هو ابن حفيدة يوليوس قيصر المغدور)، والثانية ضد مارك أنطوني وزوجته المصرية الملكة كليوباترا. وقد سميت مرحلة السلام الطويلة نسبيَّاً، خلال حكم أغسطس، “السلام الروماني” (باللاتينية: “باكس رومانا”).

والأهم من ذلك كله أنَّ عهد أغسطس قيصر شهد مولد ملك السلام، يسوع الناصري، الذي جاء من أجل سلام العالم، فنشبت باسمه حروبٌ لا تنتهي، حتى داخل الكنيسة التي حملت رايته!

أيضًا، لم يُتَح للرئيس الأميركي وودرو ويلسون، الذي لمع نجمه في “مؤتمر فيرساي للسلام” بعد الحرب العالمية الأولى، أن يُضفي على “السلام” الذي جاء إلى فيرساي من أجله، صفة “السلام الأميركي” (“باكس أميرِكانا”)، مُتَوَهِّمًا أنَّ ما قام به في ذاك المؤتمر، يؤهّله لنيل تلك الصفة، لكن ذلك لم يكنْ!

تمامًا مثل الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، يدَّعي أنه جاء ليُطفئ الحروب، طامحًا لنيل جائزة “نوبل”، فكأنه حقَّق “السلام الأبدي” الذي فات الأقدمين، لكن هذا أيضاً لم يكنْ!

ما حقَّقه ترامب في حرب غزة هو وقفٌ لإطلاق النار. لم يُنهِ حالة الحرب، حتى يُنجز أي شكل من أشكال السلام الحقيقي، ولو بصورة مؤقتة.

على أنَّ “سلام ترامب” في قطاع غزة تشوبه شائبة “التواطؤ”، لكونه طرفًا في النزاع إلى جانب إسرائيل، بما يجعل مسعاه أقرب إلى “الصفقة” منه إلى “السلام”، وهذا فنٌّ يتقنه الرئيس الأميركي، بصفته “ملك ملوك الصفقات” في الأزمنة الأخيرة!

ما يُرجح “صورة الصفقة” في “سلام ترامب”، ظهور عرَّابين وسماسرة، ظن الناس أنهم انزووا خجلًا مما اقترفوه بحق العراق والعراقيين في العام 2003، فأطلوا برؤوسهم كجوارح الطير حين تحوم حول الفريسة المحاصرة من كل جانب، وكأنها معسكر اعتقال.

المفارقة هنا، أنَّ الولايات المتحدة، بعد مضي أكثر من قرن على الحربين العالميتين الكبيرتين، وهي تخرجُ من حربٍ لتدخل في أخرى، وكأن إله الحرب الخفيِّ قد صادرها الى الأبد، لتصبحَ في مدارٍ غير المدار الذي قامت عليه.

أو لعلَّ دونالد ترامب، مثل سابقه وودرو ويلسون في القرن الماضي، لم يلحظ ما لحظه الإمبراطور يوستنيانوس، قبل 1500 سنة، من أنَّ مدرسة التجارب التاريخية، وانبلاج فجر المسيحية، قد دحضا الأمل الخرافي بأنَّ روما أقامتها الآلهة لتحكم فوق أمم الأرض. أو لعله صدَّق مقولة بعض الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة أنهم توخّوا أن يستعيدوا تجربة جمهورية روما القديمة، من خلال تفادي أخطائها، فوقعوا في المطب!

وما زال “السلامُ الأبديُّ”… “أضغاثَ أحلام!

في الثامن من أيلول (سبتمبر) 2016، أي قبل عشر سنوات فقط، أصدرت مطبعة جامعة كامبريدج، ترجمة جديدة لمجموعة القوانين الإصلاحية التي أصدرها الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس في القسطنطينية، وملاحقها، بعنوان “كوديكس يوستنيانوس”، حُدد سعر بيع النسخة الواحدة منها بمبلغ 1500 جنيه إسترليني، لأنها تضم عشرات المجلدات بما يربو على 7000 صفحة. وقد شملت تلك المجموعة الهائلة من القوانين الإصلاحية جميع مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، والثقافية، كلها بهدف ترسيخ السلام الداخلي، بين مكونات الشعب، والسلام الدائم بين الأمم.

وذلك أيضًا لم يَكُن!

*****

تبقى قصَّة الفلاسفة اليونانيين السبعة، الذين لَجَؤوا الى بلاطِ كسرى كملاذٍ آمنٍ، عبرةً رائعةً في كيفية تحقيق حصانة الفلاسفة والمفكرين، كما دوَّنها إدوارد غيبون بقلمٍ رشيقٍ، وفكرٍ عميق. ويُحْسَبُ لكسرى أنو شروان، أنه أصرَّ أن تكون حصانة الفلاسفة السبعة في بلادهم مكفولة ببند مميَّز في “معاهدة السلام الأبدي”.

كتب غيبون في موضوع الفلاسفة السبعة يقول: “سبعة أصدقاء من الفلاسفة، ديوجين، وهيرمياس، ويولاليوس، وبريسيان، ودماسكيوس، وإيزيدور، وسيمبليسيوس، انشقوا عن دين ملكهم، واتخذوا قرارًا بالبحث، في بلد أجنبي، عن حريَّةٍ حُرموا منها في بلدهم. فقد سمعوا، وصدَّقوا ساذجين، أنَّ جمهورية أفلاطون تحقَّقت في حكومة بلاد فارس المستبدَّة، وأنَّ فيها ملكًا وطنيَّا يحكمُ سعيدًا أمَّةً فاضلة. وسرعان ما اكتشفوا، بطبيعة الحال، أنَّ بلاد فارس تُشبه غيرها من بلدان العالم. وأنَّ كسرى الذي أسبغ على نفسه صفة “فيلسوف”، ما هو إلّاَ إنسانٌ مغرورٌ، شديدُ القسوةِ، وبالغُ الطموح. وأنَّ روحَ التعصُّب وانعدام التسامح سائدٌ بين رعاياه المجوس. وأنَّ النبلاء فيها متغطرسون متعجرفون، وخدَّامَ البلاط عبيدٌ خانعون. والقضاةُ طغاةٌ شطبوا العدل من وجدانهم. حيث المرتكبون والمذنبون يُفلتون من العقاب، والأبرياء غالبًا ما يُدانون بما لا يرتكبون. خيبة أمل الفلاسفة دفعتهم إلى عودة سريعة إلى وطنهم، معلنين بالفم الملآن، إنه من الأفضل لهم أن يموتوا على حدود الإمبراطورية (البيزنطية) من أن يستمتعوا بالثروة والمنافع من يد البرابرة”!

مع ذلك، أصرَّ كسرى أن يُدرج حماية الفلاسفة بندًا صريحًا في المعاهدة، ونصًّا ملزمًا في مجموعة القوانين التي كان الإمبراطور يوستنيانوس عاكفًا على تدوينها!

في الوقت ذاته، أعتق البيزنطيون قائدًا عسكريًا فارسيًا كان في الأسر، لكنه ارتدَّ عن الزرادشتية، واعتنق المسيحية. أُفرج عنه وعاد الى بلاده بموجب معاهدة “السلام الأبدي” ليلقى حتفه فيها، وقد عُرف باسمه المسيحي “الشهيد مار غريغور”!

*****

كان الإمبراطور البيزنطي بحاجةٍ ماسَّةٍ الى سلام طويل، لاعتبارَين أساسيين: أولهما برنامج عسكري طموح في الغرب، في شمال أفريقيا وإيطاليا وجنوب إسبانيا، في محاولةٍ لإعادة توحيد وإحياء الإمبراطورية الرومانية الغربية، بعد نحو قرن من سقوطها في أيدي الغزاة القوط. وثانيهما، حاجته الى تحديث وإصلاح القوانين، كما تبيَّن تاليًا من “كوديكس يوستنيانوس”.

نجح يوستنيانوس إلى حدٍّ كبير في حملته الغربية، لوجود قائد عسكري الى جانبه، هو الجنرال بليزاريوس، الذي يُعدُّ من أكبر وأنجح القادة الميدانيين في التاريخ العسكري العالمي. لكنه ما كان ليستطيع أن يفعل ذلك من غير سد الثغرات عند الحدود الشرقية للإمبراطورية، وهو ما توخاه من معاهدة السلام مع كسرى، وكان عليه أن يدفع للملك الفارسي كسرى أنو شروان مبلغًا كبيرًا من الذهب لقاء ذلك. فالسلام دائماً بحاجة الى الذهب بذريعة أو أخرى!

اللبنانيون يعرفون ذلك أكثر من غيرهم، لأنهم شاهدوه على الطبيعة في “مؤتمر الطائف” لسلامٍ أسوأ من الحرب!

العراقيون، بلغتهم الخاصة أيضًا، يقولون في مثل هذه المسائل: “يا معوَّد… ينراد لها”!

وهذا ما فهمه الرئيس الأميركي ترامب، بأنَّ “السلامَ تجارةٌ أيضًا”!

بالفعل، استطاع بليزاريوس أن يستردَّ كامل شمال أفريقيا من قوات “الفاندال” الذين استولوا على تلك المنطقة من الإمبراطورية قبل مئة سنة، وزحف إلى إيطاليا فاستعاد جنوبها إلى حضن الإمبراطورية. لكن علاقة الصداقة بين الإمبراطور يوستنيانوس، وقائد جيشه بليزاريوس، ما لبثت أن فترت وانتهت بتقاعد القائد، الذي مات حزينًا منبوذًا.

جاء في كتب السير أن سبب الفتور بينهما مناكدات نسائية بين ثيودورا زوجة الإمبراطور، وأنطونيا زوجة القائد، على القاعدة الإسلامية: “إن كيدَهُّنَّ عظيم”!

كذلك، وبالتوازي، انطلقت ورشة تحديث القوانين، وهي الورشة التي انتهت بوضع المجموعة القانونية المسماة “كوديكس يوستنيانوس”، كما مرَّ.

بذلك يمكن حصر الإنجازات الكبرى التي حققها الإمبراطور يوستنيانوس بثلاثة، هي:

أولًا، استعادة أجزاء كبيرة من المناطق التابعة سابقًا للإمبراطورية الرومانية في الغرب، شملت شمال أفريقيا كله، وأجزاء من إيطاليا، ومن جنوب إسبانيا.

ثانيًا، “معاهدة السلام الأبدي” مع الملك الفارسي كسرى أنو شروان.

ثالثًا، تدوين الإصلاحات القانونية وتحديثها في مدوَّنة سُميت “كوديكس يوستنيانوس”.

ولا ننسى طبعًا، أنَّ يوستنيانوس هو الذي شيَّد كاتدرائية “آيا صوفيا”، في القسطنطينية (إسطنبول) التي ما زالت إلى الآن من الآيات المعمارية الفريدة في العالم، حتى بعد تحويلها الى جامع إسلامي في أواخر القرن الخامس عشر، ثم إلى متحف في عهد مصطفى كمال أتاتورك في أوائل القرن العشرين.

*****

أما العمل الديبلوماسي الراقي الذي أنتج “معاهدة السلام الأبدي”، فإنه يستحقُّ أنْ يكونَ هو المؤبد الذي أخفقت المعاهدة في أن تكونه.

قبل بدء التفاوض، قام الوفد الفارسي بزيارة بروتوكولية للإمبراطور البيزنطي ليُقدّموا له هدايا الملك كسرى، فسألهم: “كيف حال أخينا بالله؟” (قاصدًا الملك كسرى). فأجابوه بأنه بخير ويبعث لكم سلامه. فردَّ عليهم قائلًا: “يُسعدنا جدًا أن يكونَ بصحة جيدة”.

يبدو أنَّ الصحة الجيدة للحاكم من مقتضيات السلام، عكس ما هو شائع بأنها من مقتضيات الحرب والطعان!

أما التفاوض على تفاصيل المعاهدة فقد قام به وفدان رسميان، مع كل منهما ستة مترجمين متمرّسين يتقنون ثلاث لغات: الفارسية، واليونانية، واللاتينية. وكان ذلك التشكيل بالغ الأهمية من أجل دقة التعابير بالمقارنة بين معانيها باللغات الثلاث السائدة في ذلك الوقت. وقد استغرقت الترجمة وقتًا طويلًا في التوصل الى النصوص النهائية.

ذلك، بالفعل، كان إنجازًا أهمَّ وأبقى من السلام الذي أريد له أن يكون أبديًا، فلم يكن.

تلك الإنجازات لم تكن سهلة. إذ إنَّ متطلبات الإصلاح الداخلي، والسعي إلى تحقيق السلم الخارجي، جعلت النظام السياسي في القسطنطينية يُسرع الخطى نحو مركزية السلطة، الأمر الذي لم يكن لمصلحة طبقة النبلاء وبعض النخب الأخرى، لكونه أبعدها عن مركز القرار.

*****

في القديم، قبل نحو أربعة قرون من المعاهدة، كانت أرمينيا أرض صراع بين الرومان والفرس، وقد تناوب عليها الفريقان. لكن في عهد الإمبراطور نيرون، في منتصف القرن الأول للميلاد، وقعت حرب مع الفرس بقيادة ملكهم فولوكاسيس، استمرَّت خمس سنوات من عام 58 الى 63 للميلاد، انتهت بتسوية حول أرمينيا لتحييدها عن الصراع بين الدولتين. وقد قضت تلك التسوية بأن يقوم الملك الفارسي بتسمية الملك الأرمني، ثم يجري تتويجه في روما على يد الإمبراطور الروماني!

“معاهدة السلام الأبدي” في القرن السادس الميلادي، أعادت إحياء هذا التقليد.

إنه أشبه ما يكون برئاسة الجمهورية اللبنانية في زمن الوصاية السورية، حيث كانت دمشق تُسمي الرئيس اللبناني، وواشنطن تُزكّيه!

صحيحٌ أنَّ أرمينيا، في وقت سابق، كانت جُزءًا من الإمبراطورية الرومانية تحت السيادة المباشرة لروما، لكنها، في الوقت ذاته، منطقة حدودية عازلة بين الفرس والروم، وبالتالي ظلت دائمًا عُرضةً للاقتسام عند احتدامِ الصدام.

المنطقة الثانية التي تم تحييدها عن الصراع الفارسي–البيزنطي بموجب المعاهدة، هي الجزيرة العربية. لكن الصراع بالوكالة ظلَّ قائمًا في جزيرة العرب بين المناذرة ذراع الفرس، والغساسنة ذراع الروم. هذه الحالة، عن طريق الأذرع الوكيلة، أنهاها كسرى الثاني (أبرويز) حفيد كسرى الأول (أنو شروان)، بقتله الحليف التاريخي المدلل للفرس في الجزيرة العربية، ملك الحيرة النعمان ابن المنذر، وإعلان سيادته المباشرة على تلك المنطقة. لكن ذلك أيضًا لم يدم، لأن عرش كسرى نفسه سقط تحت حوافر الخيول العربية بعد سنوات قليلة من هزيمته في سوريا ومصر على يد الروم البيزنطيين.

لكن تحييد الجزيرة العربية في الصراع بين الروم والفرس بدا وكأنهُ لمصلحة الفرس، لأن المزاج العام في الجزيرة العربية كان منحازًا الى الروم!

على أنَّ المناطق العازلة بين الإمبراطوريتين، هي مناطق شاسعة وتشكل كتلة كبيرة من الأرض بينهما تمتد من جبال القوقاز في الشمال إلى الصحراء العربية في الجنوب، وبينهما بلاد ما بين النهرين (بين دجلة والفرات في العراق). وتلك المناطق العازلة لم تكن رسمًا لحدود ثابتة كما هو مفهوم الحدود اليوم بموجب القوانين الدولية العصرية، بل كانت مناطق متحرّكة يجري عليها تبادل في الأراضي والسكان والحصون والمدن، حسب نتائج النزاعات العسكرية. وقد كانت مسألة نقل السكان من جهة الى أخرى بندًا أساسيَّا في “معاهدة السلام الأبدي”.

هنا أيضًا يعرف اللبنانيون أكثر من غيرهم معنى “نقل السكان”، من كل الأمكنة إلى مكان واحد، وصفه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري بقوله: “إنهم يجيئون إلى لبنان وكأنه مِكَبٌّ”. هذه كانت زلة لسان، لأن حكومته ووزير داخليته في ذلك الوقت، هما اللذان أصدرا مراسيم تجنيس مئات الألوف الذين لا يعرف اللبنانيون، ولا حكومة رفيق الحريري، من أين أتوا، ومن دقَّق في هوياتهم!

يبدو أنَّ ذلك أيضًا كان بندًا سريًا في “معاهدة العلاقات المميزة” تحت الوصاية!

إنَّ استيلاء فريق أو آخر على أراضٍ ومدنٍ في المنطقة العازلة، لم يكن من أجل التوسُّع بالحرب، ولم يكن يُحسَبُ عملًا حربيًا، إلّاَ إذا ارتأى الفريق الآخر أن يتخذ منه ذريعة لحرب كبرى، في حسابه أنه سوف ينتصر فيها فيملي شروطه على عدوه. ومن المفارقات في هذا المنحى الاستنسابي أنه كان يجري تبريره على أنه “لتوطيد السلام والعلاقات” بين الفريقين الجارين!

ما سمح بهذا “النظام”، إذا جاز التعبير، أنَّ القوتين المعنيتين بالأمر، الدولة البيزنطية والدولة الساسانية، كانتا متشابهتين ومتساويتين، فلم يكن ما بينهما صراعًا بين دولة صاعدة وأخرى متهالكة (كما يحلو لبعض المحللين اليوم أن يصفوا الوضع بين الصين وحلفائها في الشرق، وبين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في الغرب).

*****

يبقى السؤال المُحَيِّر: هل سبق للبشرية أن عاشت بسلام؟

هذا السؤال طرحته الباحثة مارتا ليسون في “كليَّة لندن الجامعية”، في عرض لمعاهدات سلام من أقدم الأزمنة إلى اليوم نشرته في مجلة “شتيرن”، وقد حلَّت “معاهدة السلام الأبدي” بين الروم والفرس، في القرن السادس، في المرتبة الثانية من بينها، بعد “المعاهدة الحثيَّة–المصرية” في العام 1259 قبل الميلاد. ثم “سلام نورمبورغ” بين الإمبراطور شارل الخامس والبروتستانت في العام 1532م، حيث جرى لأول مرة ضمان مشترك للسلام تحت حكم القانون. يليه “سلام براغ” في العام 1866م (وقبله سلام العام 1635م) لإنهاء الصراع النمساوي–البروسي. ثم “معاهدة فرساي” في العام 1919م لإنهاء الحرب العالمية الأولى. وبعدها معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية في العام 1979م، وأخيرًا “اتفاقية دايتون”، لتسوية النزاع في البوسنة والهرسك في العام 1995م. والآن، يأتي “سلام شرم الشيخ” بين إسرائيل و”حماس”، على يد عرَّابها دونالد ترامب، الذي لم يتبيَّن بعد إلى ماذا يرمي وإلى أين سيصل.

لكن الباحثة ليسون، قبل استعراضها لمعاهدات السلام الواردة أعلاه، طرحت السؤال نفسه: هل سبق للبشرية أن شهدت مرحلةً من السلام المطلق؟

أجابت عنه بكلام ساخر بقولها: ربما …في وقتٍ لا علم لنا به!

ثم جزمت بعبارة “الأرجح لا”، مؤكدة أنه لا مكان للتخمين أو الافتراض من هذه الناحية.

لكن استنتاجها الأخير يبدو واقعيًا وخفيف الظل، حيث قالت: “يبدو أنَّ الحرب، صغيرة كانت أم كبيرة، تجري في دمنا… لا ليس كلنا… يكفي أن يصلَ شخصان إلى موقع المسؤولية ليجعلا حياة بني البشر بائسةً تعسة”.

والدليل القاطع على صحة هذا الكلام المشاهد المروعة التي شاهدها العالم كله في قطاع غزة خلال السنتين الماضيتين، وكأنها تجري في المريخ وليس على الأرض!

(الحلقة المقبلة الأربعاء المقبل: “حروب السلام”)!  

Exit mobile version