إشكالِيَّةُ السِلمِ والحَربِ بينَ إيران والغرب

في هذه الحلقة التاسعة من مسلسل “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، يتتبع سليمان الفرزلي كيفَ تحوّل مفهوم “السلام” في الخطاب الغربي إلى غطاءٍ لحروبٍ لا تنتهي، حيث تُصنَعُ القوة لتبرير العدوان، ويُستباحُ التاريخ باسم الأمن والاستقرار.

سلامٌ يُصنع بالحرب، وعدالةٌ تُعلن فوق الركام.

(9)

حروبُ السلام! ترامب للعالم: “سبحاني … ما أعظم شاني”

 

سليمان الفرزلي*

“السيرك” الذي أقامه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على مسرح الكنيست الإسرائيلي ثم في قمة شرم الشيخ، يحكي الكثير عن الحالة البائسة التي وصل اليها العالم، خلال الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى اليوم. وقد لا يكون من المصادفات أنه في خلال هذه الفترة تحديدًا، انطلق وتنفَّذ مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وما أسفرت عنه من حروب ومجازر واضطراب مستدام في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط، وفي العالم الأوسع.

كان لافتًا، وليس مفاجئًا، ما جاء في الخطاب الإسرائيلي وفي الخطاب الأميركي على مسرح ذلك “السيرك” في الكنيست الإسرائيلي، سواء لجهة استحضار التاريخ الفارسي القديم من قبل الجانب الإسرائيلي، ولجهة الدور الأميركي المعاصر الذي ساوى، أو بزَّ، أفضال الملك الفارسي قورش، مؤسس الدولة الإخمينية قبل نحو 2600 سنة، على اليهود المأسورين في السبي البابلي.

دونالد ترامب، حسب الخطاب الإسرائيلي، لم يقف في الكنيست بصفته “رئيسًا أميركيًا آخر”، بل بصفته “من عمالقة التاريخ، الذين لا ينساهم الشعب اليهودي”. وضعوه في صف واحد مع الملك الفارسي قورش، وبينهما آلاف السنين!

لكن خطاب ترامب كان أكثر واقعية عندما أعلن أنه أعطى نتنياهو من الأسلحة كلَّ ما طلبه، وقد “استخدمها بيبي جيدًا” (في تدمير غزة وشعبها)، ومنها أسلحة لم يكن هو، كما قال، قد سمع بها أو عرف عنها شيئًا!

هذا في، رأيه، هو ما صنع “السلام” على يده. أي أنَّ “السلام” لا يتحقق إلّاَ بالقوة المفرطة، القوة الغاشمة العمياء، إلى حدِّ الإبادة الجماعية.

كأن ترامب قال ما قال، ليوحي بأنَّ جميعَ الحروب العدوانية التي قامت بها إسرائيل، ضدَّ الفلسطينيين والعرب، بدعمٍ مُطلَق من الولايات المتحدة، ليس لها من هدف سوى “السلام”. أي السلام عن طريق القوة!

لكن الحروب، كل الحروب التي نشبت في العالم، لم تكن قطُّ من أجل السلام، بل من أجل الغزو والسيطرة والاستيلاء على أراضي وثروات الآخرين. ليست هناك حروبٌ من أجل السلام بالمطلق.

لا أحد يعرف ذلك مثل المؤرّخين الأميركيين، الذين عاصروا الحروب التوسُّعية للولايات المتحدة، باسم توطيد السلام وإشاعة الديموقراطية!

بالمقابل، فإنَّ التعريف الحقيقي للسلام، هو الذي نادى به الرئيس المكسيكي بنيتو خواريز في القرن التاسع عشر (1806–1872)، يوم كانت جيوش الولايات المتحدة تقضم أراضي المكسيك من كاليفورنيا، الى تكساس، ونيو مكسيكو، حيث قال في دحض “السلام الأميركي” (القائم على القوة بشكل لازم): “السلامُ هو احترامُ حقوقِ الآخرين”، وبالتالي فإنَّ أيَّ سلامٍ غير ذلك يدخل في “باب الحرب”، سافرةً كانت أو مقنَّعة.

*****

في اليوم التالي لسيرك ترامب في شرم الشيخ، نشرت جريدة “غارديان” البريطانية ما قاله ترامب للقادة والزعماء الذين اصطفّوا لتحيته، وهو واقف على المسرح منفردًا، يصافحهم واحدًا واحدًا، واختارت أن تنشر في عنوانها الرئيسي عبارة نطق بها “حاكم العالم”، قال فيها:” أنا هو الشخص الوحيد، صاحب الشأن، الذي له معنى”!

لو كان محرر جريدة “غارديان”، مُلمًّا بالتراث العربي والإسلامي، لاختصر العنوان بكلمتين، باستحضار قول الحلّاج عن نفسه: “سبحاني ما أعظم شاني”!

طبعًا له أن يقول ذلك، طالما أنَّ الإسرائيليين جعلوه في مقام الملك الفارسي قورش. هو أراد من ذلك أن يُبيِّنَ الفرق الشاسع بين مقامه ومقام الذين أمامه ووراءه من الرؤساء. لكن ذلك يعطي صورة زائفة عن واقع الحال، حيث جاء ليصنع السلام في الشرق الأوسط، بينما حكومة بلاده معطلة منذ نحو شهر!

حديث الرئيس الأميركي عن القنابل والأسلحة المدمرة التي أمر بإعطائها الى نتنياهو، ليست الدليل الوحيد على يقينه بأنَّ الحرب، أو على الأصح، القوة المفرطة، هي طريق السلام. فقد سبق له أن أمرَ بتغيير اسم “وزارة الدفاع” في بلاده الى “وزارة الحرب”، وهذا ما لم يفعله الإسرائيليون حتى الآن، ولو انهم مارسوه على أرض الواقع بأفظع ما يكون. وآخر دليل على الإطار “الحربي” للسلام، الذي يقوم ترامب بتظهيره في هذه الأيام، الأمر الذي أصدره بصرف رواتب العسكريين فقط، فيما رواتب كل العاملين الآخرين في الدولة متوقفة بسبب تعطُّل الحكومة المشار إليه!

أمّا الدليل الأوضح على خطأ القول بأنَّ القوة العسكرية هي طريقُ السلام، فهو في كتب التاريخ من أيام هيرودوتس، المؤرخ الأول (الملقب بأنه “أبو التاريخ”)، إلى اليوم، وخصوصًا في الكتاب الذي وضعه المؤرخ الإغريقي ثوكيديدس عن “حرب البيلوبونيز” (431 ق.م–404 ق.م)، وهي الحرب الأهلية التي نشبت بين أثينا وحلفائها، واسبارطة وحلفائها، بعد نحو خمسين سنة من دحر الأثينيين، بقوتهم البحرية، الأسطول الفارسي في معركة “سلاميس”، وقال في مقدمته إنه “كتبه لجميع الأزمنة”.

كل ما كانوا يسمونه “سلام” من بداية التاريخ البشري ما هو إلّا عبارة عن “هدنة مؤقتة بين حربين”. وما كان أي “سلام” منها قائمًا على “احترام حقوق الآخرين”، بل على العكس تمامًا، فما كانت حربٌ إلاَّ اعتداءً على حقوق الآخرين، أو لرد مثل هذا الاعتداء.

أو على الأصح، هو “هدنة خادعة” في ثوبِ “سلامٍ كاذب”!

هذا ما أكده ثوكيديدس بقوله: “كل معاهدة سلام لها صلاحية زمنية مهما طالت. هي مجردُّ هدنة بين حربين: الحرب التي مضت، والحرب المتوقع لها أن تُستأنف”!

*****

ما قاله ترامب خلال وقوفه على منبر الكنيست الإسرائيلي، وعلى منصة قمة شرم الشيخ، ينبىء بمفهومٍ مشوَّه للسلام، يتعدّى مفهوم السلام بالغصب. ويتّضح ذلك من نقيض هذا المفهوم للطرف المغبون، في حالِ رفضِ ذلك الطرف لسلام القوة، لأنه يُكرِّس الغُبن. إذ إنَّ هذا المفهوم يحمل تهديدًا صريحًا بحربٍ لا نهاية لها، لمجرد شعوره بالتفوُّق على الأعداء الظاهرين والمحتملين.

خطورة الاعتداد بالتفوُّق أنه يحمل الطرف الأضعف على الشعور بالهزيمة مسبقًا، بسبب فداحة الأثمان التي سيتكبّدها من خلال الاستمرار في الحرب أو المقاومة. وقد بيَّن المؤرخ ثوكيديدس هذه النقطة، من خلال عرضه لانتشار مرض الطاعون في أثينا، مباشرةً بعد خطبة رثاء القائد الأثيني بيركليس. ويرى بعض المعلقين والدارسين، أنَّ المؤرخ الإغريقي تعمَّد ذلك، ليُذكِّر العالم بأنَّ هناك حدودًا لقدرة البشر على التحمُّل، ولتضحياتهم المفترض أنها للصالح العام.

هذا ما أكده أيضًا المفكر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوزفيتز، في العصور والحروب الحديثة، من أنَّ التضحيات المطلوبة في زمن الحرب، “يمكن أن تتجاوزَ نقطة التحمُّل الاجتماعي”.

تطرق ثوكيديدس أيضًا إلى موضوع “القوى التوسعية” التي ترفض إقامة السلام إلّاَ باستسلام الطرف الآخر لشروطها. وحيث تدعو الحاجة، أو تسنح له الفرصة، لوقف توسُّعه أو استئنافه، ينشأ مناخٌ من الخوف والرعب لدى قوى أخرى غير معنيَّة بالصراع، ما يستدعي تدخُّل تلك القوى لوضع حدٍّ لهذا التمادي. وكان من المكن تفسير تدخُّل ترامب في هذا السياق، لو لم يكن في الأصل منخرطًا في التوسّعية الإسرائيلية المانعة للسلام الحقيقي القائم على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين.

إنَّ هذا التصوُّر، يصحُّ في حال أنَّ الطرف الثالث، غيرُ معني بالصراع ويخشى أن ينجرَّ اليه. لكن الولايات المتحدة التي يمثلها ترامب، بل يدّعي حصرية تمثيله لها، بشتم من سبقه من الرؤساء والمنافسين على كل المنابر، في الداخل والخارج، ليس طرفًا محايدًا ليستوفي الشرط الذي وضعه المؤرخ الإغريقي، بأن وَضْعَ الحدِّ للطرف المتمادي في حرب التوسع، عن طريق القوة والتفوق العسكري، يقتضي “قلب نظامه إذا لزم الأمر، وإقامة وضع في مكانه أقل خطرًا وتهديدًا”. أما ما يجري الآن فهو قلب أنظمة المعتدى عليهم، والمطالبة بنزع سلاحهم، وتفكيك أنظمتهم، واغتيال قادتهم، وحملهم بالقوة على التخلي عن حقوقهم في أرضهم!

بأيِّ مقياس قيس مفهوم “الحرب من أجل السلام، أو الاستعدادات لها”، فإنَّ النتيجة لا تُحقِّق سوى الحرب. لأنَّ “الحرب من أجل السلام”، من هذه الناحية، هي مثل الحرب من أجل التوسع، لأنَّ “السلام” بالقوة يعني إلزام الطرف الأضعف بالتنازل عن حقوقه، خلافًا لتعريف السلام الحقيقي، الذي نادى به الرئيس المكسيكي خواريز، قبل نخو قرنين من الزمان، بأنه لا يقوم إلّاَ بالاعتراف بحقوق الآخرين، بصرف النظر عن موازين القوة.

*****

الفيلسوف البريطاني في القرن السابع عشر، توماس هوبز، كان أول من ترجم كتاب ثوكيديدس عن “حرب البيلوبينيز”، من اليونانية الى الإنكليزية، ونشره في العام 1629م، في بداية عهد الملك تشارلز الأول (الذي جرى إعدامه لاحقًا في ثورة كرومويل). ومع أنَّ المؤرّخ الإغريقي وضع مقدمة لكتابه، أعلن فيها أنه “وضع كتابه لجميع الأزمنة”، فإنَّ الفيلسوف البريطاني هوبز، وضع هو الآخر مقدمة لذات الكتاب المترجم، ليبرهن “أنَّ الحالة الطبيعية للجنس البشري هي حالة الحرب”!

ما من شك في أن هوبز أقدمَ على ترجمة كتاب ثوكيديدس، لإعجابه به، وتقديمه على أيِّ مؤرّخٍ آخر، بمن فيهم هيرودوتس (أبو التاريخ). فقد قال هوبز عن ثوكيديدس: “هو بين المؤرخين مثل هوميروس بين الشعراء، ومثل ديموسثينيس بين الخطباء، ومثل أرسطو بين الفلاسفة”. وقد صدرت طبعات عدة من ترجمة هوبز هذه، بعد الطبعة الأولى المذكورة أعلاه، (في العام 1629م)، واحدة في العام 1634م، وثالثة في العام 1648. وقد فكّر هوبز في أواخر حياته عام 1676م أن يُصدِرَ طبعةً جديدة، لكن الوقت فاته بوفاته!

بصرف النظر عن تفاصيل الحرب، ونصوص معاهدات السلام التي تليها، فقد أكدَّ المؤرّخ الإغريقي ثوكيديدس، أنَّ كلَّ معاهدة سلام، أيًّا كان مضمونها، لها صلاحية زمنية مهما طالت مدتها. هي مجردُّ “هدنةٍ بين حربين”، الحرب التي مضت، والحرب المتوقع لها أن تنشبَ من جديد.

أما هيرودوتس، المؤرّخ الأول، فقد كتب التاريخ على شكل حكايات سمعها في تجواله في بلاد الإغريق، وفي مصر، وبلاد فارس، بينما ثوكيديدس من بعده، كتب التاريخ بموضوعية نقدية مجرَّدة، حتى يمكن القول بأنه أول صحافي ميداني في التاريخ، لأنه كان شاهد عيان على “حرب البيلوبينيز”، وعرف قادتها وأقطابها، وآراء مواطنيه الأثينيين فيهم، وفي مجريات الحرب.

يمكن، في المقابل، مقارنة أسلوب هيرودوتس القائم على الأمثال الشعبية الدارجة، السماعية المصدر، مع أسلوب ثوكيديدس العلمي القائم على المعلومات وتحليلها، من خلال مثال واحد أورده هيرودوتس، وفيه يقول: “في السلم الأبناء يدفنون آباءهم، وفي الحرب الآباء يدفنون أبناءهم”.

هذا الكلام المبسَّط، يُذكّرني بخطبة لأحد مشايخ الدين يرثي فيها والد أحد الوجهاء في لبنان، بعد توقُّف الحرب الأهلية بما انتهت إليه في “سلام الطائف”، حيث خاطبه بقوله: “الحمد لله الذي أعزَّك بوقوفك على قبره، ولم يُذِلَّهُ بوقوفه على قبرك”!

*****

في “حروب السلام المزعوم”، تلفيقات سببية كثيرة، لكن تبقى فيها شذرات تدلُّ على “المنزلة الأخلاقية” للأطراف المتحاربة. بل إن التلفيقَ يصل أحيانًا الى حدِّ ادعاء الطرف الأقوى المعتدي بأنَّ له المنزلة العليا أخلاقيًا. وهذا ما دأبت عليه إسرائيل في جميع حروبها، النظامية وغير النظامية، بمساعدة جوقة إعلاميَّة عالمية. لكنها بسبب استخدامها قوة الإبادة المفرطة ضد الفلسطينيين في غزة، ولمدة سنتين كاملتين، فقدت منزلتها الأخلاقية في نظر الرأي العام العالمي قاطبةً. فلم تعد شعوب العالم تنظر الى إسرائيل على أنها في المركز الأخلاقي الأعلى، وهذا من نوع الكسور التي لا تُجبر.

حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أشار الى ذلك إشارة بعيدة وغامضة، في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي، حيث قال: “إنه من المستحيل أن تغلب العالم، إن العالمَ شيءٌ قويٌّ”.

على أنَّ في هذا الكلام مخالفة عقائدية صريحة لتعاليم السيد المسيح، الذي أعلن لتلاميذه خلاصة مجيئه المظفر بقوله لهم: “ثقوا أني قد غلبتُ العالم”. المهم أن يعرف كلُّ واحدٍ أي عالم يقصد. فإذا كان المقصود هو النظام العالمي الروماني، فإنه ينطبق حاليًا على النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث لدولة إسرائيل فيه مركز الصدارة.

إنَّ ما قاله ترامب من ناقضٍ ومنقوض، في مسألة السلم والحرب، لم يستطع أن يُخفي حقيقة حروب إسرائيل من حيث كونها “حروبًا محميَّة”، بل هو فاخر بحماية أميركا لحروب إسرائيل المستمرة من عشرات السنين، وتمكينها من الغلبة على جميع جيرانها مجتمعين ومتفرّقين، بما في ذلك تغطيتها لحرب الإبادة في غزة على مدى سنتين كاملتين.

*****

في الحرب الأهلية اليونانية بين أثينا واسبارطة، قامت الدولة الفارسية الإخمينية بالتدخل في تلك الحرب بهدف تدمير أثينا، لأنها هزمت الأسطول الفارسي الجبَّار في معركة “سلاميس” (عام 480 قبل الميلاد). لكن التدخّل الفارسي في تلك الحرب لم يكن عسكريًا، لأن أثينا كانت محصَّنة من جهة البر، وتتمتع بحريَّة الحركة من جهة البحر، بل دعمت المجهود الحربي للطرف المحارب لها، بدفع أموال نقدية لمدينة اسبارطة وحلفائها.

كان ملك الدولة الإخمينية الفارسية في ذلك الوقت داريوس الثاني، الذي توفي في الوقت الذي انتهت فيه الحرب الأهلية اليونانية لصالح حلفاء الملك الفارسي (404 قبل الميلاد). وبعد وفاته خلفه ابنه ارتحششتا الثاني، فلقي معارضة من شقيقه قورش الثاني، الذي استعان بجيش من اليونانيين المرتزقة قوامه عشرة آلاف مقاتل، معظمهم من جنود اسبارطة المشهورين بمهارتهم القتالية، وعُرف في التاريخ باسم “العشرة آلاف”.

نجح “العشرة آلاف” في المعركة الميدانية لصالح مستخدمهم قورش الثاني، لكنه قُتل في المعركة الأخيرة التي انتصر فيها، فوقع المحاربون اليونانيون المرتزقة في حيرة من أمرهم، حيث خدعهم بعض زعماء القبائل الفارسية، عارضين عليهم إرشادهم للعودة الى بلادهم، لكنهم قتلوا قادتهم غدرًا، مما جعل هؤلاء المقاتلين العشرة آلاف ينتخبون الباحث الأثيني المشهور سينوفون، تلميذ سقراط، قائدًا لهم. وكان سينوفون قد انخرط في الحملة كمراقب ومساعد. وبقيادته شق “العشرة آلاف” طريقهم عبر إيران، وهم يقاتلون كل من اعترضهم من القبائل الفارسية، في رحلة استمرت سنة كاملة، نجحوا خلالها في العودة الى بلادهم سالمين.

دوَّن سينوفون ذلك التراجع القتالي المشهود في كتاب له بعنوان “المسيرة الكبرى” (أناباسيس). وقد وضع عددًا من الكتب الشيّقة وجدت كلها سالمة، منها كتاب مهم بعنوان “تاريخ زماني”، وهو مرجعٌ وافٍ عن الحقبة الفارسية في بلاد الإغريق.

أما التحوُّل الكبير الذي كتب نهاية الدولة الإخمينية في بلاد فارس، فهو ظهور الدولة المقدونية في بلاد الإغريق، كقوة عظمى في الغرب، بقيادة الملك فيليب وابنه الاسكندر (ذو القرنين)، الذي أسقط الدولة الإخمينية في بلاد فارس، واحتل الشرق كله وصولًا إلى الهند، ومعه الحضارة الهيلينية التي تجذَّرت عميقًا في سوريا مصر.

(الحلقة المقبلة الأربعاء المقبل: “إسكندر واحد … لا إسكندران”)

 

* سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

Exit mobile version