كَيفَ خَسِرَت إيران
خسر النظام الإيراني بلا شك صراعه المستمر منذ عقود مع إسرائيل. لذلك سيتعيّن عليه إما التخلّي عن إيديولوجيته السياسية الأساسية والسعي إلى التكامل مع بقية دول المنطقة من خلال التواصل الديبلوماسي والاقتصادي، أو سيحتاج إلى تعزيز معتقداته، والانغماس أكثر في عزلته.

أفشون أوستوفار*
في 12 حزيران (يونيو) الجاري، شنّت إسرائيل سلسلةً من الضربات الجوية ألحقت أضرارًا بالمنشآت النووية الإيرانية ومواقع الصواريخ، ودمرت مستودعات الغاز، وأدّت، في شكلٍ خطير، إلى مقتل العشرات من كبار مسؤولي النظام. لا يزال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي على قيد الحياة (حتى كتابة هذه السطور). لكن أهم قادته -بمن فيهم محمد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة، وحسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإسلامي- قد لقوا حتفهم.
قبل بضع سنوات، كان من غير المُمكن تَصَوُّر مقتل باقري وسلامي ومجموعة من كبار القادة الآخرين بشكلٍ مفاجئ ومُتزامِن تقريبًا. على مدى ثلاثة عقود، بنى المتشدّدون الذين يسيطرون على النظام الإيراني ما بدا وكأنه نظامُ رَدعٍ هائل. خزّنوا الصواريخ الباليستية، وطوّروا برنامجًا لتخصيب اليورانيوم، وتقدّموا به. الأهم من ذلك، أنهم أنشَؤوا شبكةً من الوكلاء والعملاء العرب الذين يمكنهم مضايقة وإزعاج القوات الإسرائيلية والأميركية بشكلٍ روتيني.
لكنَّ المُتَشَدِّدين في إيران بالغوا في تقديرِ قدراتهم. بعد هجومِ حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، اختار قادةُ النظام حملةَ عدوانٍ قصوى. وبدلًا من تَركِ “حماس” وإسرائيل تتقاتلان حتى النهاية، أطلقوا وكلاءهم وعملاءهم على أهداف إسرائيلية. واضطرت إسرائيل بدورها إلى توسيع هجومها إلى ما وراء غزة. ونجحت في إضعاف “حزب الله” بشكلٍ كبير، أقوى الجماعات التابعة لطهران، وتدمير المواقع الإيرانية في سوريا – ما ساهم بشكلٍ غير مباشر في انهيار نظام الأسد. ردّت إيران على هذا العدوان بإطلاق أكبر هجومَين صاروخيين باليستيين على الإطلاق ضد إسرائيل. لكن الأخيرة، بدعمٍ من الجيش الأميركي وشركاء آخرين، صدت تلك الهجمات ولم تتكبّد سوى أضرارٍ طفيفة. ثم ردّت بضربة.
مع حدوث ذلك، انهارت أُسُسَ استراتيجية الرَدعِ في إيران. وأصبح نظامها الحاكم أكثر ضعفًا وانكشافًا من أيِّ وقتٍ مضى منذ الحرب الإيرانية-العراقية في ثمانينيات القرن الماضي. أما إسرائيل، التي طالما حلمت بضرب إيران لعقود، فقد سنحت لها الفرصة التي قرّرت أنها لا تستطيع تفويتها.
الغرورُ الثوري
منذ الثورة الإيرانية في العام 1979، بنى قادةُ طهران شبكةً من الوكلاء والعملاء –”حماس” في غزة، و”حزب الله” في لبنان، وحركة الحوثيين (أنصار الله) في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق- ووثّقوا العلاقات مع نظام الأسد في سوريا. سمحت هذه التحالفات الإقليمية، إلى جانب برنامج طهران الصاروخي الباليستي القوي، لإيران بتهديد خصومها بشكلٍ مباشر ومن بعيد، مما منح المُتشدّدين مصادر قوة أساسية. لم تكن قيادة البلاد بمنأى عن الضغوط: فقد سعت إلى مفاوضاتٍ نووية مع الولايات المتحدة في العام 2015، على سبيل المثال، للمساعدة على تخفيف المعاناة الاقتصادية الناجمة عن العقوبات. وقد سهّلت هذه المحادثات بدورها صعود إيران كقوة إقليمية. منح الاتفاق النووي، المُسَمّى “خطة العمل الشاملة المشتركة”، الذي نتج من تلك المفاوضات طهران تخفيفًا واسع النطاق للعقوبات من دون قيودٍ على دفاعها، باستثناء الحواجز المؤقتة على التخصيب. في العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من “خطة العمل الشاملة المشتركة” وأعادت فرض العقوبات. لكن الاستفزازات النووية الإيرانية اللاحقة كانت بمثابة صاعقٍ لامتصاص الضغط الخارجي وعزل سلوك النظام الخبيث الآخر.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بلغت هيمنة الجمهورية الإسلامية ذروتها. مارست نفوذًا كبيرًا على مساحة واسعة من الأراضي، من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط (مرورًا باليمن وسوريا ولبنان). أرغمت منافسيها العرب المجاورين، وتحديدًا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على الخضوع. وكان وكلاء إيران، المسلحون بالصواريخ والقذائف والطائرات المُسَيّرة، يضغطون باستمرار على إسرائيل.
بدا للوهلة الأولى أنَّ هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 لم تُسفِر إلّا عن تعزيز نفوذ إيران. ففي نهاية المطاف، تورَّطَ خصمُ طهران الإقليمي الرئيس فجأةً في صراعٍ مُستهلِك. وهكذا شجّعت إيران وكلاءها على الانضمام إلى القتال ضد إسرائيل، مُشَكِّلةً بذلك جبهةً إقليميةً مُوَحَّدةً بقيادة طهران. أجبر إطلاق “حزب الله” الصاروخي المُستمر على شمال إسرائيل المدنيين هناك على الفرار من البلدات القريبة من الحدود مع لبنان. وفي اليمن، وَسّعَ الحوثيون هجماتهم لتشمل الشحن التجاري في البحر الأحمر، مُشكِّلين ضغطًا شديدًا على التجارة العالمية ومُجبِرين الولايات المتحدة على تركيز قوتها ومواردها البحرية الكبيرة على مواجهة عدوانهم. وبحلول منتصف العام 2024، كانت إيران ووكلاؤها يختبران بجدية النظام الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ولكن في غضون أشهرٍ قليلة، كاد الإطارُ الإقليمي لإيران أن ينهار. قضت الهجمات العسكرية الإسرائيلية على “حماس” في غزة ودمّرت “حزب الله” في لبنان – وهما حركتان رئيسيتان في حملة الضغط الإيرانية المستمرة منذ عقود ضد إسرائيل. ثم جاء السقوط المُفاجئ لنظام الأسد في سوريا، في كانون الأول (ديسمبر). كانت سوريا حيوية وأساسية لبُنية الردع الإيرانية الأوسع، ليس فقط لأنها تُمثل جبهة أخرى ضد إسرائيل، ولكن أيضًا لأنَّ الأراضي السورية -التي تشترك في حدود طويلة مع لبنان وشمال إسرائيل- تحتوي على الطريق الرئيس الذي تزود إيران من خلاله “حزب الله” والمسلحين الفلسطينيين في الضفة الغربية بالأسلحة.
في مواجهة هذه النكسات، كان بإمكان إيران إعادة تنظيم صفوفها. بدلًا، اختارت تصعيد الصراع مع إسرائيل بضرب الدولة العبرية مباشرةً في نيسان (أبريل) وتشرين الأول (أكتوبر) 2024. من خلال اتخاذ مثل هذا الإجراء، كان الحرس الثوري الإيراني يأمل في إظهار قوته العسكرية وإعادة ترسيخ الردع. بدلًا من ذلك، كشفت الجمهورية الإسلامية عن حدود قدراتها الصاروخية. على الرُغم من أنَّ ضربات نيسان (أبريل) وتشرين الأول (أكتوبر) كانت أكبر هجمات صاروخية باليستية على الإطلاق ضد إسرائيل، إلّا أنَّ الدفاعات الجوية الإسرائيلية التي تفاخر بها الدولة العبرية، إلى جانب دفاعات الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين، اعترضت جميع الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الإيرانية تقريبًا. أما العدد القليل الذي ضرب الأراضي الإسرائيلية فقد أخطأ أهدافه أو تسبّبَ في أضرارٍ طفيفة.
في الوافع، كشفت الهجمات عن ضعف إيران. كما دفعت إسرائيل إلى الرد المباشر عليها، مستخدمةً قوتها الجوية المتفوِّقة لتدمير بطاريات دفاع جوي ومنشآت عسكرية إيرانية رئيسة في تشرين الأول (أكتوبر)، محطّمةً بذلك الحاجز الأخير الذي كان يمنعُ خصومَ طهران سابقًا من استخدام القوة العسكرية ضد أراضيها. وهكذا، انهارَ الردعُ الإيراني.
رياح التغيير
على الرُغمِ من الانتكاسات التي مُنِيَ بها النظام الإيراني، إلّا أنَّ قيادته السياسية وقادته العسكريين كانا بعيدَين كل البُعد من الاعتراف بالهزيمة في بداية العام 2025. في خطابٍ ألقاه في آذار (مارس) 2025، رفض سلامي فكرة فقدان إيران ميزتها التنافسية، مشيدًا ببقاء الجمهورية الإسلامية كدليلٍ على فعالية استراتيجيتها الكبرى. فالنظام، في نهاية المطاف، لم يكن في حالة حرب مع قوى صغيرة، بل مع قوى كبيرة تمتلك أحدث الأسلحة والمعدات والجيوش. وقال سلامي: “إنها معجزة أنَّ أمتنا استطاعت الوقوف في وجه القوى المتغطرسة”. وكرر نبرةً مُماثلة في خطاب ألقاه في أيار (مايو)، قائلًا: “الأمة التي لا تكون أسيرة، الأمة التي ترفع راية المقاومة وتتصرّف وفقًا لكلمات قائدها الأعلى بكلِّ إخلاص، لن تُهزَمَ أبدًا”.
الآن، بالطبع، مات سلامي، وأصبح من الصعب على إيران أكثر من أيِّ وقتٍ مضى الادِّعاء بأنها انتصرت وربحت في التزاماتها. في غضون أيام قليلة، ألحقت إسرائيل أضرارًا جسيمة بالبرنامج العسكري والنووي لطهران. وعلى الرُغم من أنَّ الحجمَ الحقيقي للدمار معروفٌ فقط للقادة الإيرانيين، فمن غير المرجح أن تتعافى البلاد بسهولة من هذا الانحدار. ولعلَّ الأهم من ذلك هو أنَّ إيران فقدت كل قدرتها تقريبًا على الدفاع عن فضائها من الخصوم. فقد تمَّ تدميرُ دفاعاتها الجوية التي كانت تحظى بالثناء في السابق أو أصبحت غير صالحة للعمل في معظم أنحاء البلاد. وقد استنفدت مخزوناتها من الصواريخ، ودُمِّر العديد من منصات الإطلاق المتنقلة، وصارت غالبية المرافق التي استخدمتها لتصنيع الصواريخ ومعالجة وقودها أنقاضًا مشتعلة. وأخيرًا، تعرّضَ جُزءٌ كبير من برنامج التخصيب النووي الإيراني للتلف أو التدمير. قد لا تزال إيران تمتلك مخزونًا من اليورانيوم عالي التخصيب وبعض اجهزة الطرد المركزي تحت الأرض. ولكن في المدى القريب، لم يَعُد التخصيب النووي يوفّر قيمةً رادعة.
يُضافُ إلى ذلك فقدان المؤسسة الدفاعية لنُخبة القادة. إنَّ اغتيال العديد من القادة المخضرمين والمسؤولين العسكريين، بمن فيهم الجنرال أمير علي حاجي زادة، قائد القوة الجَو-فضائية في الحرس الثوري الإيراني ومهندس استراتيجيته الصاروخية، سيُحدث فجوةً هائلةً في النظام، ويمحو معارفَ بُنيت على عقودٍ من الخبرة. لقد استبدلَ النظام هؤلاء القادة بالفعل، لكن ما لا يُمكن تكراره بهذه السرعة هو الثقة التي اكتسبها أسلافهم من خامنئي، القائد العام للقوات المسلحة، والنفوذ الذي كانوا يتمتّعون به على استراتيجية النظام الكبرى.
في مواجهة هذا الوضع السيّئ جدًا، قد يقبل النظام بالهزيمة، ويُقلّصُ خسائره، ويسعى إلى تسويةٍ مع إسرائيل والولايات المتحدة. هذا المسار، على أقل تقدير، سيتطلّبُ من النظام التخلّي عن التخصيب. وقد يعني أيضًا أنَّ على طهران التخلّي عن برنامجها الصاروخي، وإنهاء دعمها لوكلائها وعملائها في المنطقة، والتخلّي عن هدفها المُتمثّل في تدمير إسرائيل. لكن على الرُغم من تفضيل الشعب الإيراني لهذه النتيجة، إلّا أنها بالنسبة إلى النظام تُعدّ بمثابة استسلام تام، يُنظرُ إليها على أنها حلٌّ يُنذِرُ بانهيار النظام الديني الحاكم في إيران في نهاية المطاف.
ولتجنُّب الاستسلام التام، يُمكن لخامنئي أيضًا مواصلة القتال. قد يشمل ذلك السعي إلى خرق الاتفاق النووي. وبافتراضِ أنَّ إيران لا تزال تمتلك مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب وتحتفظ بالخبرة التقنية، يُمكن للنظام أن يُحاولَ بناء جهاز نووي تجريبي، على أمل أن يُعيدَ امتلاكها للسلاح النووي قدرًا من ردعها المفقود. كما يُمكن للنظام أن يُواصل شنّ الحرب، بهدف إما استنزاف إرادة إسرائيل في القتال أو زيادة دعم الشعب الإيراني له. وقد يأمل النظام حتى في أن تُوسّع إسرائيل ضرباتها، أو يسعى إلى استدراج الولايات المتحدة، مُعتقدًا أنه إذا قُتِلَ المزيد من المدنيين الإيرانيين، فسيزداد تعاطف المجتمع الإيراني مع المدافع الوحيد عن البلاد: النظام. ويُعَدّ هذا “الالتفاف حول العَلَم”، في هذه المرحلة، الأمل الأخير المتبقّي للنظام لكسب الإيرانيين إلى جانبه.
لكنَّ تصعيدَ العدوان رهانٌ محفوفٌ بالمخاطر، فقد يُبقي النظام معزولًا ومُفلسًا. كلما طالت الحرب، ازدادَ الدمارُ الذي ستواجهه البلاد، مما سيُضعف قدرة النظام على العمل ببساطة. إذا لم يكن هناك “التفافٌ حول العَلَم”، أو إذا ضعف وانتهى في النهاية، فقد ينقلب مواطنو الجمهورية الإسلامية على النظام. وإذا حصلت الحكومة على سلاح نووي للحفاظ على قبضتها على السلطة، فقد ينتهي الأمر بإيران إلى أن تبدو شبيهةً بكوريا الشمالية إلى حدٍّ كبير – وهو سيناريو لا يرغب به أيُّ إيراني.
مهما يكُن، فقد خَسِر النظام الإيراني بلا شك صراعه المستمر منذ عقود مع إسرائيل. سيتعيّنُ عليه إما التخلّي عن إيديولوجيته السياسية الأساسية والسعي إلى التكامل مع بقية دول المنطقة من خلال التواصل الديبلوماسي والاقتصادي، أو سيحتاج إلى تعزيز معتقداته، والانغماس أكثر في عزلته. لقد خسر علي خامنئي والحرس الثوري الإيراني؛ وانتهى الوضع الراهن الإقليمي الذي أسّساه.
- أفشون أوستوفار هو أستاذ مشارك في كلية الدراسات العليا البحرية الأميركية، وزميل أول غير مقيم في معهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب “حروب الطموح: الولايات المتحدة وإيران والصراع على الشرق الأوسط”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صُدورِهِ بالإنكليزية في “فورين أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.