هل يُمكِنُ للولايات المتحدة أن تُحافِظَ على تَفَوُّقِها العسكري في السعودية؟

تُشيرُ صفقةُ الأسلحة الأخيرة بين الولايات المتّحدة والمملكة العربية السعودية إلى تحوُّلٍ استراتيجي في تَوَجُّهِ الرياض نحو تعزيزِ الاستقلالية العسكرية وتوطينِ قطاعِ الدفاع من خلال نقل التكنولوجيا والتطوير المُشتَرَك.

شركة “لوكهيد مارتن” تدرس تصنيع أجزاء من مقاتلات “أف-35” في السعودية، لكن التحديات لا تزال قائمة في الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا.

هَنا الشهابي*

في خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، وقّعت واشنطن والرياض اتفاقيةً دفاعية ضخمة بقيمة 142 مليار دولار، وصفها البيت الأبيض بأنّها الأكبر من نوعها في التاريخ. وتَندرجُ هذه الاتفاقية ضمنَ تَعَهُّدٍ سعودي بضخّ استثمارات بقيمة 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، وتُمثّلُ ترسيخًا للعلاقات الأمنية بين البلدين. تهدفُ هذه الصفقة الكبيرة، في الدرجة الأولى، إلى تعزيزِ القدرات الدفاعية للمملكة العربية السعودية، بما في ذلك تحديث منظومات الدفاع الجوّي والصاروخي، وتطوير البنى التحتية للقدرات البرّية والبحرية إلى جانب تعزيز المنظومة الأمنية الشاملة. وعلى الرُغمِ من المكاسب المالية الكبيرة التي ستجنيها واشنطن، تُسلّطُ الاتفاقيةُ الضوءَ على سعي الرياض إلى بناء قاعدة صناعية عسكرية محلّية، وهي إحدى الركائز الأساسية لرؤية 2030 الوطنية السعودية، التي تهدف إلى توطين أكثر من 50 في المئة من الصناعات الدفاعية.

وعلى الرُغم من أنّ العلاقات الإستراتيجية بين البلدين تعود إلى عقود طويلة، تشهد ملامح الشراكة الأمنية بينهما تحوّلًا تدرّيجيًا. لم تَعُد الرياض تكتفي بشراء الأسلحة، بل تسعى إلى الاستفادة من قدرات شركائها الرئيسيين في قطاع الدفاع لتعزيز قدراتها الذاتية. وفي السنوات الأخيرة، أبدت واشنطن انفتاحًا نسبيًا على إدراج مسألة نقل التكنولوجيا في اتفاقياتها الاستراتيجية، ويُعزى ذلك على الأرجح إلى محاولاتِ الولايات المتّحدة احتواء التمدّد المُتصاعِد للحضور الأمني الصيني في الشرق الأوسط، وسعيها إلى طمأنة المملكة العربية السعودية بشأن التزامها بأمن المنطقة. ومن هذا المنطلق، ينبغي فهم الصفقة الأخيرة في سياق التحوّلات المتسارعة في موازين القوى الإقليمية والدولية.

السعودية توسّع قدراتها الدفاعية المحلّية

في العام 2017، أنشأت المملكة العربية السعودية “الهيئة العامّة للصناعات العسكرية”، في خطوةٍ تهدفُ إلى توحيد منظومتها الدفاعية وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلّي. وتضطلعُ الهيئة بمهمّات تطوير قطاع الصناعات العسكرية السعودي وتنظيمه ومراقبته. ومن أبرز شركائها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، التي كشفت في العام نفسه عن “صقر 1″، وهي أوّل طائرة مسيّرة تُنتَجُ محلّيًا.

وفي العام نفسه، أسّس “صندوق الاستثمارات العامّة” “السعودية للصناعات العسكرية”، وهي شركة أسلحة مملوكة للدولة تتقدّمُ في جهود توسيع إنتاج المعدات العسكرية السعودية. وقد أدّى التعاون المتزايد بين الشركة وكبريات شركات الأسلحة الإقليمية والعالمية دورًا محوريًا في تحقيق أهداف “الهيئة العامّة للصناعات العسكرية”. ففي العام 2023، أبرمت شركة “السعودية للصناعات العسكرية” إتفاقية مع شركة “بايكار” التركية لإنتاج أكثر من 70 في المئة من طائرات “بيرقدار أقنجي” المُسيّرة المخّصصة للجيش السعودي داخل المملكة. وفي العام 2022، أنشأت شركة “الأنظمة المتقدّمة للاتصالات والإلكترونيات” السعودية مشروعًا مشتركًا مع “مجموعة الصين للتكنولوجيا الإلكترونية”، يختصّ بأبحاث أنظمة المسيّرات وتطويرها وتصنيعها.

كما تسعى الرياض إلى الاندماج في ترتيباتٍ دفاعية متعدّدة الأطراف، من بينها “برنامج الطائرات القتالية العالمية” الذي يضمّ كلّاً من إيطاليا واليابان وبريطانيا. ولا تزال النقاشات جارية بشأن إمكانية مشاركة السعودية في تطوير مقاتلات الجيل السادس. وعلى الرُغم من سعي المملكة إلى الحصول على مقاتلات “أف-35” من شركة “لوكهيد مارتن”، لا تزال الولايات المتّحدة تفرض قيودًا صارمة على تصدير مقاتلات الجيل الخامس. غير أنّ المشاركة في “برنامج الطائرات القتالية العالمية” قد تتيح للرياض فُرصةَ تطوير مقاتلات متقدّمة واقتناءها، ما يساهم في سدِّ فجوةٍ حيوية في القدرات الجوية للمملكة.

وتعكسُ المقاربة السعودية المتعدّدة المسارات في تنويع القدرات الأمنية وتوسيعها طبيعة الشراكات السعودية المتغيّرة. تعمل الرياض على تنويع علاقاتها الدفاعية، وتوسيع نطاق نقل التكنولوجيا من شركائها، وتوظيف إمكاناتها المالية لاستقطاب خبرات الفاعلين الأقليميين والدوليين الأساسيين في ميادين الأمن والدفاع.

دور واشنطن في تعزيز القدرات الأمنية للرياض

في السنوات الأخيرة، ساهمت الولايات المتّحدة بشكلٍ ملموس في تطوير الصناعة الدفاعية المحلّية في المملكة العربية السعودية. ففي وقت سابق من هذا الشهر، اجتمع مسؤولون من شركة “لوكهيد مارتن” و”الهيئة العامة للصناعات العسكرية” و”الشركة العربية الدولية للهياكل الفولاذية” في جدة للاحتفال باستكمال أول مكوّنات محلية الصنع من نظام الدفاع الصاروخي “ثاد”. ويأتي هذا الإنجاز في إطار اتفاقية أميركية-سعودية أُبرِمَت في العام 2018 تقضي ببيع 44 منصة إطلاق من نظام “ثاد” إلى المملكة. ويُعَدُّ نشرُ منظومة “ثاد” في المملكة العربية السعودية خطوة لافتة، إذ أنها لم تُنشَر في الشرق الأوسط سوى في دولتين فقط، وهما الإمارات العربية المتّحدة وإسرائيل.

في عهد ترامب، أبدت الولايات المتّحدة انفتاحًا على تزويد دول المنطقة بأنظمة وتكنولوجيا متقدّمة. على سبيل المثال، وافقت إدارة ترامب في خلال ولايته الأولى على بيع مقاتلات “أف-35” للإمارات العربية المتّحدة، قبل أن توقفها إدارة جو بايدن لاحقًا بسبب مخاوف تتعلّق بتعاون أبو ظبي الأمني مع بكين. وقد أفادت التقارير بأنَّ طلبات المملكة العربية السعودية للحصول على مقاتلات “أف-35 لايتنينغ II” شكّلت جُزءًا من المفاوضات بين الرياض وواشنطن، إلَّا أنَّ أيًا من الطرفين لم يؤكّد إدراج هذه الطائرات الشبحية في الصفقة الأخيرة. وتُواجه المملكة العربية السعودية تحدّيًا رئيسًا في هذا الملف يتمثّل في المخاوف الإسرائيلية من تآكل تفوّقها العسكري النوعي في المنطقة. وعلى الرُغم من هذه التوترات، تواصل واشنطن تقديمَ دعمٍ واضح لتعزيز القدرات الدفاعية السعودية.

وفي العام الفائت، اتفقت مجموعة “آر تي إكس” الأميركية (المعروفة سابقًا بـ”رايثيون”) مع “الهيئة العامّة للصناعات العسكرية” على توسيع التعاون الإستراتيجي من خلالِ سلسلةِ مُبادراتٍ تشملُ دَعمَ عمليات إنتاج وتجميع واختبار مكوّنات نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت” داخل المملكة. كما ستتولّى “رايثيون” تدريب كوادر سعودية على إدارة هذا النظام الدفاعي الحيوي وتشغيله وصيانته. وكجُزءٍ من اتفاق الدفاع الأميركي-السعودي لعام 2025، تخوضُ الرياض مفاوضات مع شركة “جنرال أتوميكس” لشراء 200 طائرة مسيّرة من طراز “MQ-9B”، وهو ما من شأنه أنّ يجعلها واحدة من دولتين فقط في الشرق الأوسط، إلى جانب قطر، تحظيان بالموافقة الأولية لتشغيل هذا النوع من المسيّرات. وتعكس هذه المبادرات انفتاح واشنطن المتزايد على دعم اندماج المملكة العربية السعودية في أسواق الدفاع العالمية، وتدريب كوادرها على تشغيل تكنولوجيا الدفاع الأميركية، بما ينسجم مع طموحات المملكة لتنويع اقتصادها.

وعلى الرُغم من تقاطع المصالح بين الرياض وواشنطن، تواجه عملية تنفيذ الاتفاقية الدفاعية لعام 2025 تحدّيات مالية واضحة، إذ يبلغ الالتزام المالي المعلن نحو 142 مليار دولار أي ما يعادل نحو 176 في المئة من ميزانية الدفاع السعودية لعام 2024.

وقد يُنظَرُ إلى توسّع دور واشنطن في دعم تطوير الصناعة الدفاعية المحلّية في السعودية على أنّه محاولة لتعويض رفضها للالتزام باتفاقية دفاع مشتركة طالما سعت إليها الرياض. وبعد الهجمات التي شنّها الحوثيون من اليمن على منشآت “أرامكو” الحيوية في السعودية في العام 2019، شعرت الرياض بخيبةِ أملٍ إزاء ردّ الفعل الفاتر من شريكها الدفاعي الرئيس في واشنطن. وعلى الرُغم من سعي الولايات المتّحدة إلى إعادة توجيه مواردها نحو مصالحها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تحرصُ في الوقت نفسه على عدم خسارة نفوذها في منطقة الخليج. ومن خلال دعم تطوير القدرات المحلية، تستطيع واشنطن الحفاظ على التزامها بأمن المنطقة.

عصرٌ جديد من التعاون الدفاعي بين أميركا والسعودية؟

لطالما كانت واشنطن الشريك الدفاعي الرئيس للمملكة العربية السعودية، وتؤكّد التطوّرات الأخيرة متانة وشمولية العلاقات الأمنية بين البلدين. ووفقاً لـ”معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام”، شكّلت الولايات المتحدة أكثر من 75 في المئة من واردات السعودية من الأسلحة بين العامين 2020 و2024، كما تُعَدُّ المملكة أكبر زبون للأسلحة الأميركية على مستوى العالم. غير أنّ المشهدَ الدفاعي الدولي شديد التنافسية اليوم، إلى جانب تسارع جهود الرياض لتعزيز استقلالها الإستراتيجي، يُعيد رسم دور الولايات المتّحدة في أمن المنطقة. إذ لم تعد واشنطن تقتصر على دور المزوّد العسكري، بل بدأت تتحوّل تدريجًا إلى شريكٍ في تطوير التكنولوجيا والكوادر والإمدادات الدفاعية المحلّية.

  • هَنا الشهابي هي باحثة مساعدة في برنامج السياسة الخارجية التابع لمجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى