هل يمرُّ الأكراد بمُنعَطَفٍ سياسي؟

يُمكنُ لمشاركة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) في بناء الدولة السورية أن تُسرّعَ من التحسينات الديموقراطية للأكراد في تركيا. ذلك لأنَّ اندماجَ “قسد” في المؤسّسات السورية، بطبيعته، يستلزمُ اعتراف الدولة بالهوية الكردية، وهو أمرٌ لطالما تردّدت تركيا في القيام به.

أحمد الشرع ومظلوم عبدي: نجاح إتفاقهما سيكون له تأثير كبير في مستقبل أكراد تركيا.

مَشوق كورت وبلال عطا أكتاس*

في 27 شباط (فبراير) الفائت، دعا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا، “حزب العمال الكردستاني” التركي الذي أسسه ويتزعمه، وفروعه المسلحة، إلى إلقاء السلاح وتفكيك الميليشيات. وقد استجابَ “حزب العمال الكردستاني” للدعوة، مُعلنًا وقف إطلاق نار من جانبٍ واحد في صراعه مع أنقرة، ومُطالبًا بضماناتٍ أمنية من الحكومة التركية لتسهيل تفكيك الجماعة.

لم يُحَدِّد أوجلان ما إذا كانت دعوته تنطبق على قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، الجناح الإيديولوجي لحزب العمال الكردستاني في سوريا، المدعومة من الولايات المتحدة. تُسيطرُ “قسد” على معظم شمال وشمال شرق سوريا شرق نهر الفرات، ولعبت دورًا رئيسًا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لكن بعد أيامٍ قليلة، في العاشر من آذار (مارس)، وقّع قائد “قسد”، مظلوم عبدي، اتفاقيةً مع الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع. اتفق الطرفان على ثمانية مبادئ، مُمَهِديَن الطريق لضمان الحقوق الدستورية للأكراد السوريين ودمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية الجديدة بحلول نهاية العام.

لهذيَن التطورين المزدوجين آثارٌ عميقة على الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. تُشيرُ دعوة أوجلان والأحداث اللاحقة في سوريا إلى نقطةِ تحوُّلٍ مُحتَمَلة في الاستراتيجية السياسية والعسكرية الكردية. وبينما يفكر حزب العمال الكردستاني في حلِّ نفسه، وتسعى “قسد” إلى التكامل السياسي، فإنَّ كيفية التعامل مع القضية الكردية في بلدٍ ما ستؤثّرُ في كيفية التعامل معها في أماكن أخرى.

يُشَكّلُ الأكراد ما بين 15% و20% من سكان تركيا، ويبلغ عددهم حوالي 15 مليونًا إلى 20 مليون نسمة. وقد واجهوا القمع الثقافي والسياسي منذ تأسيس تركيا الجديدة في العام 1923، ويواصلون النضال من أجل المساواة في المواطنة. وتُعَدُّ القضايا الكردية مُحرِّكًا أساسيًا للتوتّرات السياسية في تركيا.

امتدَّ الصراعُ بين حزب العمال الكردستاني وتركيا على مدى أربعة عقود، وأودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص وشرّدَ الملايين. وطوال هذه الفترة، جَرَّمَت أنقرة العديد من الحقوق السياسية والثقافية للأكراد، وكثيرًا ما ساوت بينها وبين عضوية حزب العمال الكردستاني أو الإرهاب. كما تعرَّضت الأحزاب السياسية المؤيّدة للأكراد والمُنفَصِلة عن حزب العمال الكردستاني، مثل حزب الشعوب الديموقراطي، لقمع السلطات التركية.

والآن، إنَّ ما يبدو بدايةً للانتقال إلى عملية مصالحة ديموقراطية سلمية قد يُرسي بعض الاستقرار في المنطقة. إنَّ حزب العمال الكردستاني يُصَنَّفُ منظمةً إرهابيةً في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى دولٍ أخرى. وسوف يجعل حلّه هذا التصنيف بلا معنى ومُلغى تلقائيًا.

مع ذلك، لا تزال تفاصيل وضع أوجلان وخارطة طريق حزب العمال الكردستاني لنزع السلاح غير واضحة. ويُزعَمُ أنَّ إعلان أوجلان هو نتاجُ مفاوضات مُطَوَّلة مع السلطات التركية استمرّت لأكثر من عام. ووفقًا للمتحدث باسم حزب الشعوب الديموقراطي المؤيد للأكراد في تركيا -وهو حزب رئيس في العملية- فقد تبادل أوجلان وقيادة حزب العمال الكردستاني و”قسد” رسائل خاصة قبل دعوته لحلِّ حزب العمال الكردستاني. ويشير هذا إلى أنَّ تركيا ربما قدّمت ضمانات مُعَيَّنة لقادة الجماعَتَين.

وخلافًا لجهود السلام السابقة التي شدّدت على الإصلاحات القانونية كخطوةٍ أولى، تتطلّبُ العملية الحالية نزع السلاح الفوري بدون وجودِ مسارٍ واضحٍ للسلام والمصالحة – أو إشراف طرف ثالث. وقد شملت عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني من العام 2013 إلى العام 2015 لجنةً مكوَّنة بشكلٍ رئيس من قادة المجتمع المدني والفنانين. وبالمثل، خلال مفاوضات 2008-2010، توسّطت النروج من خلال استضافة المحادثات.

الواقع أنَّ الشعبَ الكردي يشعرُ بالقلق من الدخول في محادثاتٍ مع تركيا بسبب فشل المفاوضات السابقة. ومع ذلك، فإنهم يرون في دعوة أوجلان سبيلًا مُحتَمَلًا نحو السلام الذي طال انتظاره. وقد تُتاحُ الآن للأحزاب المؤيدة للأكراد، التي قمعتها تركيا طويلًا، فرصةٌ للعب دورٍ محوري في المحادثات. ومن النتائج المحتملة عفوٌ شاملٌ عن آلاف السجناء السياسيين الأكراد، بمن فيهم صلاح الدين دميرطاش، الزعيم السابق لحزب الشعوب الديموقراطي، المسجون منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2016.

ومع ذلك، في أعقاب الاعتقال الأخير لزعيم المعارضة ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، أدت الاحتجاجات الجماهيرية إلى تعطيل المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة، وحوّلت الانتباه الوطني بعيدًا من القضية الكردية. الخطوات التالية للحكومة التركية غير واضحة. قد تكون مرتبطة بما يحدث في سوريا المجاورة.

لعبت تركيا دورًا مهمًا في الحرب الأهلية السورية منذ اندلاعها في العام 2011، حيث استضافت ملايين اللاجئين السوريين ودعمت مختلف الفصائل المسلحة في الصراع. كان الدافع الرئيس لأنقرة للتدخل هو رغبتها في القضاء على التهديدات التي تشكلها الجماعات الكردية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني، مثل قوات سوريا الديمقراطية. في مراحل مختلفة، دعمت تركيا العديد من الجماعات الإسلامية التي قاتلت ضد الأكراد، وأكثرها نفوذًا هي “هيئة تحرير الشام” التابعة لأحمد الشرع والجيش الوطني السوري، وهو تكتل من الفصائل المسلحة.

بعدما أطاحت قوات حركة الشرع الديكتاتور السوري بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، أعادت تركيا بسرعة التعامل مع سوريا. أرسلت فورًا رئيس استخباراتها ووزير خارجيتها إلى دمشق، عارِضَين الدعم الديبلوماسي واللوجستي للدولة الجديدة. وأشار بعض المراقبين، بمن فيهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى أنَّ تركيا كانت وراء سقوط الأسد. في 8 نيسان (أبريل)، صرّح ترامب بأنَّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “استولى على سوريا… من خلال وكلاء”. رحّب أردوغان بالاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية و”الشرع”، مؤيدًا اندماج الجماعة المسلحة في الدولة السورية الجديدة. يُمثّل الاتفاق خطوة رئيسة نحو الحوار السياسي وتقاسم السلطة المحتمل. في حال نجاحه، يمكن لعملية السلام التي استمرت شهورًا أن تُحوِّلَ الأكراد من أطرافٍ هامشية إلى شركاء أساسيين في سوريا ما بعد الصراع، على غرار ما حدث بعد سقوط صدام حسين في العراق.

مع ذلك، لا يزال الأكراد السوريون حذرين. قد يكون من الصعب تطبيق وحماية استقلاليتهم التي اكتسبوها بشقِّ الأنفس. في الأسابيع الأخيرة، شهدت سوريا تصاعدًا في أعمال العنف ضد الأقليات العرقية والدينية.

في منتصف آذار (مارس)، ارتكبت القوات الموالية لحكومة الشرع مجزرة راح ضحيتها أكثر من 1000 شخص في اللاذقية، معقل الأسد السابق. كما يفتقر الدستور السوري المؤقت الذي وقّعه الشرع في 13 آذار (مارس) إلى الحماية الكافية للأقليات. وقد رفضته الطوائف العلوية والدرزية والأكراد. وإلى أن يتوفّر إطارٌ قانوني موثوق وقابل للتنفيذ يحمي الأكراد والأقليات الأخرى، من المرجح أن تبقى “قسد” مُسلَّحة.

كما لا تزال صدمة صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) تُطارد العديد من الأكراد السوريين. وتشير التقديرات إلى أنَّ التنظيم ذبح آلاف الأكراد في شمال شرق البلاد بين العامين 2013 و2017.

وقد أعلن عبدي والشرع معًا التزامهما بمواصلة القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. ومع ذلك، تبقى قضية رئيسة عالقة هي مصير أكثر من 40 ألف معتقل من تنظيم “الدولة الإسلامية” وعائلاتهم المحتجزين حاليًا في معسكرات وسجون تديرها قوات سوريا الديموقراطية. وقد شكل هذا الأمر مصدر قلق خاص للولايات المتحدة والدول الأوروبية، نظرًا لوجود أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب بين المعتقلين.

أعربَ الشرع عن استعداده لتولي مسؤولية هذه المنشآت، إلّا أنَّ ماضيه المثير للجدل كمقاتل جهادي يثير مخاوف أمنية جدية. ويرى بعض المحللين أنَّ تولّي دمشق المسؤولية قد يُعرّض جهود التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية للخطر.

في ما يتعلق بسوريا، قد تجد الولايات المتحدة -الطرف الرئيس في التحالف- نفسها في اتجاهات مختلفة. فقد أصبحت سوريا ساحة صراع على السلطة والنفوذ بين تركيا وإسرائيل. تحتل إسرائيل حاليًا جنوب سوريا وتستهدف منشآت دفاعية سورية بشكل دوري بغارات جوية. وذكرت وكالة “رويترز” أنَّ إسرائيل قد ضغطت على واشنطن لإبقاء سوريا ضعيفة ولامركزية – على الأرجح جُزئيًا من خلال دعم الجماعات الكردية والدرزية كجُزءٍ من استراتيجية احتواءٍ أوسع. هذا على الرُغم من أنَّ الشرع أعلن مرارًا وتكرارًا أنه لا يريد صراعًا مع إسرائيل.

من جانبها، تواصل تركيا الضغط من أجل نزع سلاح “قسد” بالكامل ودمجها في الدولة السورية. وقد صرّح ترامب، الذي تربطه علاقات قوية بكلٍّ من أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأنه قد يتوسّط بين الزعيمَين.

من الواضح أنَّ المسألة الكردية في سوريا لا يمكن تناولها من منظور الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني. ففي حين قلّصت تركيا بشكل كبير القدرة العملياتية لحزب العمال الكردستاني داخل حدودها، تُعدّ قوات سوريا الديمقراطية أقوى جماعة مسلحة في سوريا، مما يجعلها طرفًا فاعلًا لا مفر منه في أيِّ نقاشات سياسية أو أمنية مستقبلية في البلاد.

يمكن لمشاركة “قسد” في بناء الدولة السورية أن تُسرِّعَ من التحسينات الديموقراطية للأكراد في تركيا. ذلك لأنَّ اندماجَ قوات سوريا الديموقراطية في المؤسسات السورية، بطبيعته، يستلزمُ اعتراف الدولة بالهوية الكردية، وهو أمرٌ لطالما تردّدت تركيا في القيام به.

إنَّ التقاءَ إعلانات حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية الأخيرة يعني أنَّ الأكراد لم يعودوا قوة جيوسياسية معزولة. فعلى مدى العقدين الماضيين، أقاموا تحالفات استراتيجية عبر الحدود، ووسّعوا نفوذهم السياسي وعزّزوا قدراتهم العسكرية.

وفي حين أنهم لا يزالون عُرضةً لتقلُّبات موازين القوى الإقليمية، إلّا أنَّ الجماعات الكردية تتمتع بنفوذ لم يكن موجودًا في العصور السابقة. لقد أدت دعوة أوجلان إلى تحريكِ عمليةِ إعادةِ تقييمٍ جيوسياسية عميقة ــ وهي عملية سيعتمدُ تأثيرها النهائي على مدى مهارة جميع الأطراف، بما في ذلك الأكراد، في التعامُل مع المشهد المُتَكَشِّف.

  • مَشُوق كورت هو أستاذ مشارك في علم الاجتماع في “رويال هولواي”، جامعة لندن. يُركّز بحثه على الأكراد وكردستان، والإسلام السياسي، وتركيا، والشتات الكردي والأتراك. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @mimkurd
  • بلال عطا أكتاس هو صحافي ومحلل سياسي. شغل سابقًا منصب كبير مُنسِّقي النسخة الكردية من صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @aktasbilalata

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى