جَدَلُ “اليوم التالي”: رسائلُ الإمارات ومدريد
محمَّد قوَّاص*
يتمُّ التعامُلُ مع حربِ غزّة بوصفها واقعًا لا نهايةَ له. والأرجحُ أنّ ضحايا هذه المقتلة يستنتجون انتفاءَ أُفُقٍ لنهايةٍ كانَ يُمكِنُ أن تتحقّقَ بعدَ أيامٍ أو أسابيع من بدء الصدام. سبقَ لأهلِ غزّة أن عرفوا جولاتَ حروبٍ سابقة أفرطت فيها إسرائيل في استخدامِ العنف والقتل والتدمير، بما في ذلك ارتكاب المجازر ومحو الأحياء و”اغتيال” البنايات السكنية على الهواء مباشرة. ظنَّ الغزّيون قبل 11 شهرًا أنهم بصددِ جولةٍ عهدوها وتنتهي خلال أسابيع، لكنَّ المقتلةَ مُستَمِرةٌ من دونِ أعراضٍ لتوقفها.
ترعى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وبقوة، الحاجة إلى مفاوضاتٍ لإنهاء الحرب.
الحاجةُ دوليةٌ بسببِ فضيحةٍ إنسانيةٍ تكشُفُ حَرَجًا لدى العواصم الكبرى يستدرجُ غضبًا في الشارع وضِيقًا داخل تيّارات السياسة والرأي.
والحاجةُ إسرائيليةٌ بسببِ تَخَبُّطِ الداخل الإسرائيلي داخل دوّامةٍ يختلط فيها العقائدي بالسياسي بالعسكري، بما يُفقِدُ إسرائيل وظيفةً أميركيةً غربيةً داخل توازنات المشهد الدولي.
والحاجةُ أميركيةٌ بسببِ أنَّ “غزّة” وفلسطين وإسرائيل والموقف منها كلها باتَ في قلبِ الجدلِ الداخلي على بُعدِ أسابيع قد تكون تاريخية من عملية إعادة تشكّل السلطة في مؤسّسات واشنطن.
وفي خضمِّ تَدافُع الحديث عن سيناريوهات إنهاء الحرب، لا يَظهَرُ أيُّ غُبارٍ، من أيِّ جهة، دولية أو إقليمية أو حتى فلسطينية، يُمكنُ التأسيس عليه لاستنتاجِ أعراضِ “اليوم التالي” لتلك الحرب. وفيما يروي لنا التاريخ، الحديث خصوصًا، عن رَسمِ الدول الكبرى تَشَكُّل وصيرورة دول وشعوب وأُمم، بما في ذلك حكاية خرائط سايكس-بيكو وانقسام تشيكوسلوفاكيا وتفتُّت يوغوسلافيا، فإنَّ لا شيءَ من هذا القبيل يطلُّ على مستقبل غزّة ومستقبل كل منطقة الشرق الأوسط. لسانُ حال كافة الأطراف يَنهَلُ من أبجديات ما قبل “الطوفان”، وكأنَّ الكارثةَ تفصيلٌ هامشي في قصّةٍ تقليديةٍ مَروِية لن يتوقَّفَ مُسلسلها.
وما يطلُّ من إرهاصاتٍ مُرتَبِكة هي أعراض “اليوم التالي” الذي سرّبه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والتي تبدو مناورةً شخصيةً تخصّه، لا تحظى بأيِّ آفاقٍ استراتيجية لإسرائيل نفسها. يتبرّعُ نتنياهو بين سطورِ تصريحاته بأشباهِ مشاريع ويتوسّل لها شرعيةً إقليميةً ودولية. ولئن يُكرّرُ نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان موقف بلاده الرافض لدَعمِ “اليوم التالي” من حرب غزّة “بدونِ قيامِ دولةٍ فلسطينية”، فإنَّ في القول وتوقيته نفيًا لأيِّ احتمالٍ مُعاكِس. وفي الموقفِ دعوةٌ لإنتاجِ ذلك “اليوم التالي” بوصفهِ شأنًا يتعلّقُ بمُستقبلِ فلسطين والفلسطينيين، ومُستقبلِ الأمنِ والاستقرارِ في المنطقة.
لسانُ حالِ الإمارات يُمثّلُ مَزاجًا خليجيًا عربيًا عامًا، لا يرضى بأن تكونَ حربُ غزّة الراهنة حلقةً من مُسلسلٍ لا ينتهي. يتطابقُ موقفُ الوزير الإماراتي مع ما سبق لنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان تأكيده من أنَّ “لا سلامَ في المنطقة من دونِ حلِّ الدولتَين”، وفي القول إنَّ الحربَ في مأساتِها الغزّية هي شأنٌ يُحَدّدُ ما بعدها ما ستؤول له المنطقة برمّتها. حتى أنَّ الدكتور أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات في تعليقه على موقف وزير خارجية بلاده، يُوضّحُ أنَّ “لا استقرارَ في المنطقة إلّا بحلِّ الدولتَين”. وإذا ما يَحسِمُ موقفُ الإمارات، من جديد، رفضًا قاطعًا لتلميحاتٍ لجأ إليها نتنياهو يُريدها مُغريةً ترومُ استدراجَ مشاركةٍ في سيناريوهات لا تعترفُ بحَلِّ الدولتين، فإنَّ الرَدَّ واضحٌ وحازمٌ ونهائيٌّ.
على أنَّ موقفَ الإمارات في توقيته يكشفُ عن أنَّ مُداولاتٍ ما زالت تجري وفق رؤية نتنياهو نفسها، ما استدعى ردًّا إماراتيًا واضحًا. يلفتُ الموقفُ أيضًا إلى ضرورةِ وَضعِ العالم العربي الحصان أمام العربة. قيامُ دولةٍ فلسطينية هو قرارٌ فلسطيني وقرارٌ عربي وإرادةٌ تضمّنتها مبادرةُ السلام العربية لعام 2002. والخيارُ يحظى بدعمٍ دوليٍّ عام أكّد عليه من جديد البيان الختامي الصادر عقب اجتماعٍ بين اللجنة الوزارية المُكَلَّفة من القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية المُشتركة مع مسؤولين أوروبيين في مدريد الأسبوع الماضي.
“حَلُّ الدولتَين” باتَ شأنًا أميركيًا. ففي ما عدا المرشّح الجمهوري دونالد ترامب الذي بَشّرَ خلال ولايته الرئاسية بـ”صفقة القرن” الشهيرة ومناطق فلسطينية مُجزّأة تجمعها آلياتُ أمنٍ واقتصاد، فإنَّ إدارة الرئيس جو بايدن وكبار مسؤوليه، بمَن فيهم نائبة الرئيس ومرشحة الحزب الديموقراطي كامالا هاريس، باتوا يتحدّثون عن “حلّ الدولتين” وكأنه اختراعهم ولسان حالهم التاريخي الدائم.
رَفضُ خياراتِ إسرائيل ل”اليوم التالي” يستوجبُ فَرضَ بديلٍ باتَ حاجةً لاستقرارِ العالم وليس المنطقة فحسب. وغيابُ ذلك “اليوم التالي” مُناقِضٌ لفلسفةِ أيِّ صفقةٍ تُنهي الحربَ في غزّة. فكيفَ يَستقيمُ سلمٌ لا يعرفُ العالمُ وسائلَ إدارته وصيانته وتحاشي انهياره؟ ولئن تعجز القوى الكبرى، لأسبابٍ تتعلّقُ بصراعاتها عن الاهتداء إلى خطّةٍ تَفرضُ حلًّا، فإنَّ في ذلك بُشرى تُتيحُ للمنطقة، ولا سيما الدول المَعنيّة مباشرةً بالصراعِ والفلسطينيين أنفسهم، اجتراح ذلك الحلّ وجعله مشروعًا موحّدًا يخضع لموازين القوى في العالم.
سيكونُ من الصعبِ تمرير “حلِّ الدولتَين” من دونِ شريكٍ إسرائيلي، وهذا ما جعلَ من مشروعِ العرب للسلام حبرًا على ورقِ قمّتهم في بيروت في العام 2002. في المقابل، فإنَّ “اليوم التالي” الذي يتخيّله نتنياهو وصحبه يفترضُ أن يبقى وَهمًا يُناوِرُ به على منوال كافة المناورات التي تهدف إلى إدامةِ حُكمه. ولئن ما زال من المُبكرِ تصوّر حلّ لدولتين في ظلِّ حربٍ لا تتوقّف في غزّة، وحربٍ تتفاقم خطورتها ضدّ لبنان، فإنّهُ من المهم عربيًا ودوليًا ألّا تتبدّد مشاريع قيام دولة فلسطينية وفق شروط النار التي تودّ إسرائيل ورئيس حكومتها أن تكون ميزان الراهن في غزّة، وقاعدة المستقبل في الضفة الغربية، ومبضع رسم الخرائط في المنطقة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).