مَواقِفُ باكستان المُتَغَيِّرة بشأنِ محنةِ الفلسطينيين والعلاقاتِ مع إسرائيل

إذا أثمرت الجهود الجارية للتوصُّل إلى وَقفٍ حقيقي للأعمال العدائية، وتولّت الدول الخليجية الكبرى دورًا بارزًا في جهود إعادة الإعمار في الأراضي الفلسطينية التي مزّقتها الحرب، فقد يُقرر النظام في باكستان أيضًا إعادة تقييم موقفه بشأن إسرائيل.

الرئيس الباكستاني الراحل برويز مشرف: وعد بالاعتراف بإسرائيل ولكنه لم يفعل.

الدكتور سَيِّد محمّد علي*

من عجيبِ المُفارقات أنَّ باكستان وإسرائيل دولتان نشأتا باسم الدين، في الوقت نفسه تقريبًا (في 1947 و1948على التوالي)، ومع ذلك لا توجَدُ بينهما علاقاتٌ رسمية. جميعُ جوازات السفر الباكستانية تتضمّن نقشًا (ملاحظة) يُفيدُ بأنَّ الوثيقةَ صالحةٌ للسفر إلى جميع بلدان العالم، باستثناء إسرائيل. وفي حين أنَّ العداءَ الباكستاني تجاه إسرائيل مُتَجَذِّرٌ بسبب تهجير الفلسطينيين، فقد خدمَ أيضًا كوسيلةٍ لتلميع أوراق اعتماد البلاد داخل مجتمع الدول الإسلامية والرَدِّ على الهند، التي تُحافِظُ على علاقاتٍ وثيقة على نحوٍ مُتزايد مع إسرائيل.

ونظرًا للاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط، والتي أطلقها هجوم حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت على إسرائيل ورَدِّ الفعل غير المُتناسب من جانب الأخيرة والحملة العسكرية المستمرّة في غزة، والتي أوصلت المنطقة إلى حافةِ حريقٍ أوسع نطاقًا، فمن المفيد النظُر إلى كيفية رَدِّ فعل أكبر البلدان ذات الغالبية المسلمة في أماكن أبعد.

تاريخٌ مُعَقَّدٌ

بعدَ فترةٍ وجيزةٍ من تأسيسها، عارضت باكستان فكرةَ إنشاءِ دولةٍ يهودية في فلسطين وصَوَّتَت ضدّ خطةِ تقسيمِ فلسطين التي اقترحتها لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين. بعدَما حصلوا على وَطنٍ مُستقلٍّ للمُسلمين من خلال التقسيم البريطاني لشبه القارة الهندية، كان قادةُ باكستان مَدفوعين بأفكارِ التضامُن الإسلامي الشامل بالإضافة إلى دوافع السياسة الواقعية للتقرُّبِ من القوى الناشئة في الشرق الأوسط. إنحازت باكستان إلى الدول العربية أثناء صراعاتها مع إسرائيل. كانت باكستان الدولة الوحيدة، إلى جانب العراق والمملكة المتحدة، التي اعترفت بضمِّ الأردن للضفة الغربية خلال الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948. حتى أنَّ طيارًا باكستانيًا أسقط طائرة إسرائيلية باستخدام طائرة مقاتلة سورية في الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1967.

مع ذلك، لم تَكُن باكستان دائمًا مُؤيِّدًا قويًّا للشعب الفلسطيني نفسه، خصوصًا عندما تتعارَضُ قضيته مع المصالح الوطنية لدولةٍ عربية أخرى. في العام 1970، قادَ ضياء الحق، قائد الجيش الباكستاني ورئيس البلاد لاحقًا، هجومًا كبيرًا على اللاجئين الفلسطينيين الثائرين في الأردن الذين دعمهم العراق وسوريا، في ما أصبح يُعرف منذ ذلك الحين باسم “أيلول الأسود”. وعلى النقيض من ذلك، حاول العديد من القادة الديموقراطيين والعسكريين الباكستانيين البارزين على مدى العقود العديدة الماضية استكشاف إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل. حتى أن قائد الجيش الباكستاني والرئيس آنذاك الجنرال برويز مشرف حضر عشاءً رفيع المستوى مع زعماءٍ يهود أميركيين في نيويورك في العام 2005، حيث صرّحَ بأنه سيتَّخذُ خطواتٍ لإقامة علاقات مع إسرائيل إذا تقدّمت عملية السلام في الشرق الأوسط. وكانت إسرائيل أيضًا حريصةً على إنشاء علاقة مع هذه الدولة المُسلمة المكتظّة بالسكان في جنوب آسيا، بدءًا بإقامةِ علاقاتٍ تجارية. لكن، لا تزال باكستان تؤيِّدُ رسميًا الحاجة إلى حلِّ الدولتين الذي يؤدّي إلى دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة ومتجاورة، تُنشَأ على أساس حدود ما قبل العام 1967، وعاصمتها القدس.

على النقيضِ من ذلك، حافظت الجماعات الدينية السياسية داخل باكستان على موقفٍ مُناهِضٍ لإسرائيل على نحوٍ ثابتٍ لعقودٍ من الزمن. كما لعبت الحكومات الباكستانية المتعاقبة “بطاقة إسرائيل” في مراحل مختلفة في محاولةٍ لتغذية الرواية المُعادية للهند. فإلى جانب دعم المطالبة بدولةٍ فلسطينية على أساس حدود ما قبل العام 1967، كثيرًا ما تُقارِنُ إسلام آباد النضالَ الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي بنضالِ الكشميريين ضد الاحتلال الهندي.

وبناءً على هذه المشاعر، التي غالبًا ما تدمجُ الهَوِيَّتَين اليهودية والإسرائيلية، اتَّهَمَ الساسة الباكستانيون السائدون بعضهم البعض بشكلٍ مُتقطّع بأنهم متآمرون ومتعاطفون مع الصهيونية. علاوةً على ذلك، برّرت الجماعات المسلحة المتطرّفة، التي تستهدف الدولة الباكستانية والمواطنين، ملاحقة العاملين في مجال الصحة، مُدَّعِيةً أنَّ حملاتَ التطعيمِ هذه هي جُزءٌ من مؤامرة يهودية (ومسيحية) لجعل الأطفال المسلمين عاجزين.

وعلى الرُغمِ من انتشارِ المشاعر المُعادية لإسرائيل داخل باكستان، فقد كان هناك مرة أخرى بَعضُ الزخم لديها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في أعقاب اتفاقيات أبراهام في العام 2020، بعد أن وقّعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين اتفاقيات تطبيع مع الدولة العبرية. ووسط التكهّنات القائلة بأنَّ المملكة العربية السعودية ستكون التالية في إقامة علاقات مع إسرائيل، بدأ بعضُ المُحلّلين الباكستانيين أيضًا القولَ بأنَّ الوقتَ قد حان لباكستان لتغيير موقفها المُناهِض لإسرائيل. وأشار بعضُ هؤلاء المؤيِّدين إلى الفوائد الاقتصادية المزعومة للاعتراف بإسرائيل، والتي قد تشمل التعاون التقني للمساعدة على تعزيز المحاصيل الزراعية، على سبيل المثال. كانت الحججُ الأكثر واقعية لصالح إقامة علاقات ديبلوماسية مدفوعةً بالحاجة إلى تحييد التحالف الأمني ​​المُتنامي بين إسرائيل والهند، واسترضاء الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، وخصوصًا بعد تطبيع الأخيرة علاقاتها مع إسرائيل في العام 2020. مع ذلك، فإنَّ المأساةَ المُتَكَشِّفة في غزة على مدى الأشهر العشرة الماضية، إلى جانب التوتّرات المتزايدة داخل الشرق الأوسط الأوسع، جعلت من الصعب على السعودية وباكستان الاعتراف بإسرائيل.

تأثير حرب غزة

كما هو الحال في أماكن أخرى من العالم الإسلامي، تصاعَدَت المشاعرُ المُعادية لإسرائيل داخل باكستان بسببِ الحرب في غزّة فضلًا عن العُنفِ المُتزايد في الضفة الغربية بسببِ الغارات العسكرية الإسرائيلية وهجمات المستوطنين. في البداية، أصدَرت وزارة الخارجية الباكستانية بيانًا حذرًا يُعبّرُ فقط عن القلقِ إزاء تصاعُدِ العُنف في المنطقة. لكن مع استمرارِ ارتفاعِ حصيلةِ القتلى من المدنيين الفلسطينيين، بدأ المسؤولون والسياسيون الباكستانيون إدانةَ الحملةِ العسكرية الإسرائيلية في غزة بعباراتٍ لا لُبسَ فيها، وغالبًا ما كانوا يشيرون إليها باعتبارها “إبادة جماعية”. كما لفتت وسائل الإعلام في البلاد الانتباه بشكلٍ مُتَكَرّرٍ إلى الخسائر المدنية المأسوية الناجمة عن الغزو الإسرائيلي. في نيسان (أبريل) من هذا العام، تبنّى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارًا غير مُلزِمٍ ترأَّستهُ باكستان نيابةً عن منظمة التعاون الإسلامي، والذي يدعو إلى وَضعِ حَدٍّ لبيع ونقل وتحويل المساعدات العسكرية إلى إسرائيل. وعلى الرُغمِ من استياء الولايات المتحدة، استضافت إسلام آباد الرئيس الإيراني آنذاك إبراهيم رئيسي في أواخر نيسان (أبريل) 2024، بعد بضعة أشهر فقط من تبادل جيوشهما الضربات الصاروخية عبر الحدود التي استهدفت الإرهابيين المزعومين في منتصف كانون الثاني (يناير). كما ندّدت حكومة باكستان بشكلٍ قاطعٍ بإسرائيل لاغتيال إسماعيل هنية، الزعيم السياسي لحركة “حماس” آنذاك، في طهران في نهاية تموز (يوليو). ووصف قرارٌ برلماني عملية القتل بأنها “مؤامرةٌ مُتَعَمَّدة لتخريب الجهود الرامية إلى وقف القمع والوحشية المستمرّة ضد الفلسطينيين”. مع ذلك، لم تُظهِر حكومةُ باكستان ولا جيشها أيَّ مَيلٍ لتقديمِ دعمٍ ملموسٍ لأيٍّ من الدول الإقليمية التي تتحمّلُ العبء الأكبر من هذا الصراع.

وعلى غرار موقف النظام الحاكم، يستخدمُ صنّاعُ الرأي الباكستانيون الآن محنة الفلسطينيين لتشويهِ سمعةِ الهند، جارتهم وخصمهم اللدود. وتُسلِّطُ وسائل الإعلام المختلفة الضوءَ باستمرارٍ على العلاقات الوثيقة بين الحكومة المتشدّدة في إسرائيل والحكومة القومية المتطرّفة في الهند بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي انقلبت الهند تحت قيادته على دعمها التقليدي للفلسطينيين. وأخيرًا، اتَّهَمَ مسؤولٌ باكستاني سابق كبير وكالة التجسُّس الهندية الأولى بالتعاون مع الإسرائيليين لاغتيال هنية. وزَعَمَ صحافيٌ كبير في قناة إخبارية شعبية معروفة أنَّ الهجومَ الأخير ل”حماس” على إسرائيل ساعد على إحباط مؤامرة هندية وأميركية ضد الصين، الحليف الباكستاني الوثيق بشكلٍ متزايد، من خلال إفشال صفقة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا التي تقودها الولايات المتحدة والتي تمَّ توقيعها في العام الفائت.

إنَّ إثارةَ المشاعر المُعادية لإسرائيل يُشَكِّلُ هدفًا سهلًا للحكومة الائتلافية الضعيفة، التي تسعى يائسةً إلى اكتسابِ الشرعيةِ وسطَ استياءٍ واسع النطاق إزاءَ الوضعِ الاقتصادي الكئيب في البلاد والاستقطاب السياسي المُستَشري. وقد صنّفت الحكومة الباكستانية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باعتباره إرهابيًا ومُرتكبًا لجرائم حرب. وإلى جانب إرسال شحنات المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، وعدت الحكومة أيضًا في تموز (يوليو) بتشكيلِ لجنةٍ لمُقاطعةِ الشركات الدولية التي تُعتَبَرُ داعمةً لإسرائيل. وقد شارك الكثيرون من المستهلكين في المدن الباكستانية بالفعل في مثل هذه المقاطعات. مع ذلك، فمن غير المرجح أن تحذو الحكومة نفسها حذوهم رسميًا، نظرًا لخطر فقدان الإيرادات التي تشتدُّ الحاجة إليها وإغضاب المُقرِضين الدوليين، مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، الذين لن يتعاملوا باستخفافٍ مع أيِّ محاولات لمنع الشركات الأجنبية من الوصول إلى السوق الباكستانية. وعلى العكس، فإنَّ الأخلاق ليست قوّة مُقنِعة عندما يتعلق الأمر بتعزيز المصالح الوطنية. وعلى هذا، فإذا أثمرت الجهود الجارية للتوصُّل إلى وَقفٍ حقيقي للأعمال العدائية، وتولّت الدول الخليجية الكبرى دورًا بارزًا في جهود إعادة الإعمار في الأراضي الفلسطينية التي مزّقتها الحرب، فقد يُقرر النظام في باكستان أيضًا إعادة تقييم موقفه بشأن إسرائيل مرةً أخرى.

  • الدكتور سَيِّد محمد علي هو باحثٌ غير مقيم في برنامج أفغانستان وباكستان التابع لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن. يتمتع الدكتور علي بخبرةٍ واسعة في العمل مع المنظمات المتعددة الأطراف والثنائية والحكومية وغير الحكومية بشأن تحديات التنمية الدولية المتنوِّعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى