آثارُ الانتِخاباتِ الرئاسيةِ الجزائرية على السنواتِ الخمسِ المُقبلة

أدّى ارتفاعُ الإنفاقِ العام إلى زيادة شعبية الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، إلّا أنّ المشاكل الهيكلية التي تُعانيها البلاد لا تزال على حالها.

اقتصاد الجزائر ما زال يعتمد على الهيدروكربونات ولم ينجح بعد في عملية التنويع.

دالية غانم*

في السابع من أيلول (سبتمبر) الجاري، سيتوجّهُ الجزائريون إلى صناديق الاقتراع لانتخابِ رئيسٍ لبلادهم. ومع ذلك، فإنّ النتيجةَ محسومةٌ سلفًا. فمن المؤكّد أنّ الرئيس عبد المجيد تبون، الذي يترشّح للمرة الثانية، سيفوز. فاستمرارُ تبون في الحُكمِ مضمونٌ لأنَّ الجيش، صاحب السلطة الحقيقية في الجزائر، يعتبره شخصيةً مناسبة. إذ لا يُمكِنُ أن يُنتَخَبَ في المرة الأولى وإعادة انتخابه الآن إلّا بدعمٍ من القيادة العسكرية، في المرة الأولى تحت قيادة رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح والآن بدعمٍ من خليفته السعيد شنقريحة. وتُعتَبَرُ الانتخاباتُ في الجزائر شؤونًا خاضعةً لسيطرةٍ مُشَدَّدة، ما يضمَنُ إدامةَ هيكلِ السلطة القائم. ومع ترسُّخِ الوَضعِ السياسي الراهن، يبقى السؤال الأهم: ماذا تعني السنوات الخمس المقبلة للجزائر وشعبها؟

على المستوى الوطني: شعبية هشّة

تميّزت ولاية تبون الأولى بانعدامِ الثقةِ العامة والافتقارِ إلى الشرعية. فقد وَصَلَ إلى السلطة بعد أن أطاحَ الحراكُ الشعبي في العام 2019 سلفه عبد العزيز بوتفليقة، لكنه فشلَ في إحداثِ تغييرٍ حقيقي في النظام. مع ذلك، فقد عزّزت قرارات ُالسياسة الاستباقية والأحداث المؤاتية شعبيته منذ ذلك الحين. وكان تبون تولّى منصبه على أعتاب جائحة فيروس كورونا المستجدّ، وتمكّن من الاستفادة من الأزمة لإنهاءِ الاحتجاجاتِ وإطلاق تدابير شعبية مثل تقديم الإعفاء من الديون للشباب الذين حصلوا على قروضٍ من برنامج الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب (ANSEJ)، التي تهدفُ إلى دَعمِ روّادِ الأعمالِ الشباب. كما قدّمَ منحةَ البطالة، التي تستهدفُ الأفراد الذين لم يعملوا من قبل، ما وَفَّرَ دعمًا كبيرًا لميلونٍ ونُصفِ المليون من الشباب.

وقد عزّزت الحرب في أوكرانيا الاقتصاد الجزائري. فمع سعي أوروبا إلى إيجادِ بدائل للغاز الروسي، تمكّنت الجزائر من مُضاعَفة صادراتها، لتصل إلى 100 مليار متر مكعب في العام 2022 – في سابقة من نوعها منذ العام 1999 بعد أكثر من عقد من الكساد. وتجاوز معدّل النمو الاقتصادي الـ4 في المئة في العام 2023 للمرة الأولى منذ العام 2014، كما ارتفعت احتياطات النقد الأجنبي إلى 70 مليار دولار في العام 2023 بعد أن بلغت 62 مليار دولار في العام السابق.

وأدّى ذلك إلى توليدِ إيراداتٍ تشتدُّ الحاجةُ إليها، ما مكّنَ تبون من الاستمرار في توسيع مبادراته الشعبية، وآخرها زيادة الرواتب والمعاشات التقاعدية لـ2,8 مليوني موظف حكومي، والتي أعلن استمرارها حتى العامين 2026 و2027. وقد أكسبته هذه السياسات مزيدًا من الشرعية والشعبية، إلى جانب جهوده في مكافحة الفساد، تحديدًا بين الشباب الذين يطلقون عليه لقب “عَمّو تبون”.

وعلى الرُغمِ من ارتفاعِ الدعمِ الشعبي لتبون، إلّا أنّ التغييرات السياسية التي أجراها مَبنيّةٌ على أُسسٍ هشّة ستواجهها عاجلًا أم آجلًا بُنية البلاد الضعيفة. ولا يزال اقتصاد الجزائر يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على المحروقات، التي تمثّل 93 في المئة من الصادرات و38 في المئة من عائدات الموازنة. ما يعني أنّ البلاد بأكملها مُعرَّضةٌ لتقلّبات أسواق النفط والغاز العالمية. وعلى الرُغم من الحاجة المُلحّة لتعزيزِ استثمارات القطاع الخاص في القطاعات غير الهيدروكربونية، إلّا أنّ الوعود بتنويع الاقتصاد لم تتحقّق بعد.

بذلت الحكومةُ جُهدًا كبيرًا لجذب الاستثمار الأجنبي من خلالِ تدابير مثل قانون الاستثمار للعام 2022، والقانون النقدي والمصرفي للعام 2023، والانضمام الرسمي إلى إتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية. ومع ذلك، لا يزال المستثمرون مُتردّدين بسبب بيئة الأعمال غير الجذّابة والغارقة في البيروقراطية. وفي العام 2022، انخفضَ الاستثمارُ الأجنبي المباشر بنسبة 91,3 في المئة، مُشيرًا إلى تراجُعِ ثقة المستثمرين. ومع تقييد الاستثمار العام بشكلٍ متزايد جرّاء الإنفاق العام، يبقى تعزيز الجهود لجذب الاستثمارات الخاصة عاملًا مهمًا لنمو الجزائر في المستقبل.

في الوقت نفسه، لا يزال المواطنون الجزائريون العاديون يرزحون تحت معدّلات التضخّم المرتفعة، على الرُغمِ من انخفاضها إلى 6,1 في المئة في حزيران (يونيو) 2024 بعد أن سجّلت 9,3 في المئة في الفترة نفسها من العام الماضي. مع ذلك، انعكسَ الارتفاعُ الحاد في أسعار المواد الغذائية، وتحديدًا المنتجات الطازجة (+22,1 في المئة) في العام 2023، بشكلٍ غير مُتناسب على 40 من المئة من الفئات الأكثر فقرًا من السكان، والتي يشكّل الغذاء أكثر من نصف إنفاقِها.

ورُغمَ بصيص الأمل الذي يلوح في الأفق مع انخفاض أسعار الفاكهة والخضروات في العام 2024، لا يزال التضخّمُ يُشكّلُ تحدّيًا كبيرًا. فقد شهد الموظفون الجزائريون انخفاضًا في أجورهم التي تعبوا للحصول عليها على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، وكشفت دراسة حديثة عن انخفاضٍ صادمٍ بنسبة 60 في المئة في قدرتهم الشرائية. ويُهدّدُ هذا التدهور المُستَمِرّ في قيمة العملة بتقويضِ زيادةِ شَعبيةِ تبون الأخيرة وتوليدِ أرضٍ خصبةٍ للاضطرابات الاجتماعية في السنوات المقبلة.

على المستوى الدولي: تعثُّرُ التقدُّم وعزلةٌ إقليمية

بَدَت الجزائر بأنها على استعدادٍ لكسرِ عُزلتها الديبلوماسية في العام 2022، حيث استضافت أحداثًا ناجحة مثل الألعاب المتوَسّطية وقمة جامعة الدول العربية. كما عزّزت الحربُ في أوكرانيا مكانة الجزائر، إذ قامَ القادة الأوروبيون بزيارتها مرّات متعدّدة لتأمين إمدادات الغاز. وعلى الرُغم من الإصلاح الديبلوماسي الذي أجراه تبون، والذي تضمّن استحداث أكثر من 70 منصبًا ديبلوماسيًا وقنصليًا جديدًا فضلًا عن تعيينِ ديبلوماسيين مُتَمَرِّسين في مناصب رئيسة، إلّا أنّ مبادرات السياسة الخارجية الجزائرية لم تُسفِر بعد عن نتائج مُجدية. فعجزُها عن التأثير بشكلٍ كبير في الأزمة الليبية واضح. وتدهورت العلاقات مع المغرب المجاور لتصل إلى ما أسماه الرئيس تبون نفسه “نقطة اللاعودة”. لقد ضمنت مناورة المغرب الإستراتيجية دعمًا مهمًّا من الولايات المتحدة وإسبانيا، وأخيرًا فرنسا، بشأن قضية الصحراء الغربية الشائكة. وأثارَ هذا الانتصارُ الديبلوماسي الأخير للرباط موجةً جديدةً من التوتّر بين باريس والجزائر، ما أدّى إلى استدعاء السفير الجزائري من العاصمة الفرنسية وقَطع قنوات الاتصال الرسمية بشكلٍ تام. وفي الوقت عينه، يواصل المغرب توطيد علاقاته مع إسرائيل، حتى في مواجهة الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. في المقابل، تواصل الجزائر دفاعها الصريح والمحق عن إقامة دولة فلسطين وإدانة تصرّفات إسرائيل. وفي حين تلقى خطابات تبون القوية وتلميحاته بالتدخّل العسكري في غزة صدى محلّيًا، إلّا أنّها لا تقدّم سوى القليل من حيث التحوّلات السياسية الملموسة.

ولا تقتصر التحدّيات الديبلوماسية على المغرب فحسب. فقد وصلت علاقة الجزائر بالبلدان المجاورة لها في منطقة الساحل إلى مرحلةٍ حرجة، ما أضافَ مزيدًا من التعقيد على مكانتها الإقليمية. كما تصاعدت التوترات مع النيجر ومالي. إذ تتّهم النيجر الجزائر بإساءة معاملة المهاجرين، في حين اتّخذت مالي خطوةً جذرية باستدعاء سفيرها، مُتّهمةً الجزائر بالتدخُّل في شؤونها الداخلية ودعم المتمرّدين الطوارق. وقد أدّت هذه الخطوة فعليًا إلى إنهاء اتفاق الجزائر للعام 2015، وهو اتفاقُ سلامٍ يهدفُ إلى تحقيقِ الاستقرارِ في المنطقة. حتى أنّ المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) شاركت في الانتقادات، زاعمةً تواطؤ الجزائر في دعم مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية في منطقة الساحل.

تَجِدُ الجزائر نفسها مُهَمَّشة بشكلٍ مُتزايد، وتُكافِحُ للحفاظ حتى على دورها التقليدي كوسيطٍ في منطقة الساحل. ويبدو أنّ نفوذها يقتصرُ على تونس فحسب، التي تعيش بدورها اضطرابات داخلية. وتواجه البلاد معركةً شاقّة لاستعادةِ نفوذها الاقليمي والتعامُلِ مع نظام إقليمي وعالمي مُتَغيّر. ففي العام الماضي، فشلت الجزائر في محاولتها للانضمام إلى مجموعة البريكس، وهي ضربة كبيرة نظرًا لانضمام مصر، وهي دولة شمال إفريقية أخرى، على الرُغم من أوضاعها الاقتصادية الحرجة. مع ذلك، عُرِضَت على الجزائر جائزة ترضية في قبولها في بنك التنمية الجديد لمجموعة البريكس في الأول من أيلول (سبتمبر) 2024.

ماذا عن مستقبلِ الجزائر؟

قد لا تؤدّي الانتخابات الجزائرية إلى إحداثِ تغييرٍ كبير. فمن المرجح أن تُحافِظَ النُخبة الحاكمة على قبضتها على السلطة، ما قد يضمن الاستمرارية إلّا أنّ الأمل في تحقيقِ تقدّمٍ ملموس شبه معدوم. ومن المرجح أنّ تبقى القضايا الهيكلية المُتَجذِّرة، من الاعتماد الاقتصادي على الهيدروكربونات إلى الحريات السياسية المحدودة والركود السياسي والديبلوماسي، قائمة.

على الرُغم من أنّ النظام قد يُحقّقُ الاستقرارَ في الأمد القريب من خلال هذه الخطوة السياسية المنظمة، إلّا أنّ الاستخفاَف بإرادة الجزائريين على التصرُّف قد يبدو موقفًا غير حكيم. وقد يكون الحراك الشعبي، حيث تظاهر الملايين كل يوم جمعة، أمرًا من الماضي الآن، إلّا أنّ الإحباطات الكامنة لا تزال قائمة. ويبقى السؤال: هل يمكن لهذا الهدوء القسري أن يستمرّ؟ أم أنّ الشعب الجزائري سيستعيد صوته مرة أخرى، مُطالبًا بالتغيير الذي يتوق إليه بشدّة؟

  • دالية غانم هي زميلة أولى ومديرة برنامج الصراعات والتحوّلات في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وتُركّزُ بحوثها على السياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك قضايا العنف السياسي، والتطرّف، والعلاقات المدنية-العسكرية، والدراسات الجندرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى