هل لا يزال بإمكانِ محمد بن سلمان إعادة تَشكيلِ المملكة العربية السعودية؟
يبدو أنَّ هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) جعل القضية الفلسطينية عنصرًا مهمًّا في الكيفية التي تُفكّر بها الرياض الآن بشأن مصلحتها الوطنية. لذلك، فقد دفع الوضع المملكة العربية السعودية إلى إعادة الانخراط كداعمٍ قوي لقيام الدولة الفلسطينية. وفي هذا الصدد، ضمنت “حماس” انتصارًا للفلسطينيين، ولكن ربما ليس لنفسها.
بِرنارد هيكل*
بالنسبة إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، خلقت الحرب في غزّة مأزقًا. تحكمُ غزّة حركة “حماس”، وهي حركة إسلامية متحالفة مع إيران وتُنسّق بشكل وثيق معها ومع وكلائها الذين يرغبون في تدمير وإزالة آل سعود. مع ذلك، نظرًا إلى مدى شعبية القضية الفلسطينية بين المواطنين السعوديين، يقف بن سلمان إلى جانب الفلسطينيين، الذين يُنظَرُ إليهم في جميع أنحاء العالمَين العربي والإسلامي على أنهم ضحايا العدوان والاحتلال الإسرائيليين. ولكن، كما تفيد معلوماتٌ متطابقة، تريد الحكومة السعودية تعزيز أمنها، حيث تأمل أنه من خلال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، يمكنها إنشاء تحالفٍ أمني مع الولايات المتحدة وحلفاء واشنطن الإقليميين. إلّا أنَّ الرياض لن تُقيمَ مثل هذه العلاقات عندما ترى كيف تقوم إسرائيل بقصف المدنيين في غزة وترفض الاعتراف بحقِّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
مع ذلك، لم يكن التطبيع، ولن يكون، هو السبيل الوحيد أمام أسرة آل سعود لتعزيز سلطتها. يمكن للنظام أيضاً أن يحمي نفسه ومصالحه من خلالِ بناءِ اقتصادٍ أكثر قوة وتغيير الإيديولوجية الداخلية للبلاد. ولتحقيق هذه الغاية، يعمل بنشاط على تطويرِ قطاعاتٍ جديدة غير مُرتَبطة بالنفط، مثل السياحة والتعدين والخدمات اللوجستية والتصنيع والتكنولوجيا والتمويل والنقل. كما إنه يعمل على تحويل مصدر شرعيته، الذي اعتمد لفترة طويلة على علاقة النظام الملكي بالتفسير الأصولي للإسلام، المعروف باسم الوهابية، وعلى دوره كخادم للأماكن المقدسة الإسلامية. وعلى نحوٍ متزايد، يسعى النظام الملكي بدلًا من ذلك إلى إضفاء الشرعية على حكمه من خلال تقديم نفسه على أنه حامي الشعب السعودي وتعزيز الشعور القومي القوي الذي يضع المصالح السعودية في المقام الأول. وتشمل التغييرات الناتجة كل جانب من جوانب مجتمع البلاد تقريبًا، بدءًا من الأنظمة القانونية والتعليمية وحتى أدوار السلطات الدينية والمرأة. فبدلًا من إلزام نفسه بنشر “الإسلام الحقيقي”، تعتمد شرعية النظام الملكي الآن على قدرته على تحقيق الوحدة والسلام والرخاء في بلاده وفي منطقته.
وقد أدّت الحرب في غزة إلى تعقيد هذا التحوّل. لا تزال السعودية تهدف إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن المملكة تُطالِبُ بسعرٍ أعلى بكثير للعلاقات الديبلوماسية. يصرُّ السعوديون الآن على أن يُقَدِّمَ الإسرائيليون تنازلاتٍ مضمونة من شأنها أن تؤدّي إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. كما إنّهم يحاولون إقناع واشنطن بالاعتراف رسميًا بدولة فلسطين التي لا تزال غير ملموسة، بينما يدعون مجلس الأمن الدولي إلى القيام بذلك أيضًا. لكنَّ دافِعَ السعوديين لإقناعِ إسرائيل والولايات المتحدة ليس لتخفيف المعاناة عن اللفلسطينيين فحسب، بل أيضًا سيجعل من الصعب على منافسي السعودية –إيران وما يسمى بمحور المقاومة– استغلال تلك المعاناة كذريعةٍ لإثارة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. وتعتقدُ الرياض أنه إذا تمَّ حلُّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بشكلٍ عادل، فسوفَ تَضعفُ طهران، وسوف يستقر الشرق الأوسط. ويُمكن للمملكة بعد ذلك إنجاز تحوّلها الوطني وتحقيق رؤيتها المتمثّلة في إنشاء منطقة مترابطة ومزدهرة، تكون هي نفسها المركز.
إيمانٌ أقلّ
هدف محمد بن سلمان هو جعل المملكة العربية السعودية، على حد تعبيره، “طبيعية”. وهو يعني بذلك مجتمعًا مُنفتِحًا اجتماعيًا وديناميكيًا اقتصاديًا، على الرُغم من أنه سيظل يحكم بقبضة استبدادية. سيكون الناس أحرارًا في البقاء أتقياء، لكنهم لا يستطيعون فرض معتقداتهم على الآخرين. لن تتدخل الحكومة في العادات اليومية لرعاياها. يمكن للرجال والنساء ارتداء الملابس التي يريدونها في الأماكن العامة والاختلاط من دون التعرّضِ لمُضايقات. ويعتقد ولي العهد أن هذا التخفيف من الأعراف الدينية والاجتماعية من شأنه أن يسمح للبلاد التنافس اقتصاديًا مع الدول الأخرى، وجذب الاستثمارات والمواهب الأجنبية، وتقليل اعتمادها في النهاية على عائدات الوقود الأحفوري.
وللمساعدة على تعزيز هذه الرؤية لدولةٍ أكثر تسامحًا وحداثة يقودها شعورٌ قوي بالأمة، كشف بن سلمان عن مجموعةٍ من المبادرات الجديدة. فقد أنشأت حكومته، على سبيل المثال، عطلات غير دينية، مثل يوم التأسيس، والذي يتم الآن الاحتفال به والترويج له على نطاق واسع. وتحت رعاية برنامج يسمى رؤية 2030، أكد النظام على التراث الثقافي ما قبل الإسلام للبلاد، وجمالها الطبيعي، والفنون والثقافة السعودية المعاصرة. فقد سلطت الضوء، على سبيل المثال، على مدينة العُلا، وهي واحة سعودية مذهلة ومنطقة صحراوية تضم مقابر قديمة مدهشة. وتقوم الدولة بإعادة كتابة التاريخ السعودي بطريقةٍ تؤكد على مصادر مختلفة للسلطة والشرعية. تتم مراجعة المناهج المدرسية والأعمال التاريخية العامة في البلاد للتركيز بشكل أكبر على الثقافة العربية والدور الحاسم الذي لعبته العائلة المالكة في توحيد المنطقة وسلامتها بدءًا من القرن الثامن عشر. في هذه الرواية، يتم إيلاء اهتمام أقل لدور الإحياء الديني في تشكيل البلاد وتاريخها.
كما ترفض الرياض عمدًا المطالبات والالتزامات الإيديولوجية العابرة للحدود الوطنية. وعلى النقيض من إيران، لم تعد المملكة العربية السعودية مهتمة بالدفاع عن القضايا الإسلامية في شكل أساسي كما كان الأمر سابقًا، ولم تعد تؤيد السرديات الكبرى حول المظالم التي يفرضها الغرب على ما يسمى بالجنوب العالمي. ولم تذكر الرياض “الشيطان الأكبر” أو “قوى الاستكبار” أو “مستضعفي الأرض” أو الحاجة إلى “المقاومة”، كما تفعل إيران وأتباعها. تولي البلاد أهمية كبيرة لسيادتها وسيادات الدول الأخرى، لذا فهي لا تدين محنة الأويغور (أقلية معظمها مسلمة) في ظل الحزب الشيوعي الصيني أو محنة المسلمين في الهند في ظل حزب “بهاراتيا جاناتا القومي” الهندوسي الحاكم. وعندما تستحضر الرياض قضية فلسطين فهي قضية قومية وليست قضية إسلامية.
وترى القيادة السعودية أنَّ الإيديولوجيات والحركات التي تشجع التدخّل العابر للحدود الوطنية هي أمرٌ خطير. وبناءً على ذلك، فقد حظّرت العديد منها، بما في ذلك جماعة “الإخوان المسلمين”. وبدلًا، فإنَّ رؤيةَ الرياض الراهنة للنظام العالمي هي رؤيةٌ تكنولوجية ونيوليبرالية، حتى لو قامت الحكومة بنشر رأسمالية الدولة لتطويرِ قطاعاتٍ اقتصادية جديدة وإعادة تشكيل القطاعات القائمة. تريد المملكة تجاوز دولة الرفاهية الريعية، والتي، حتى العام 2017، كانت توظف ثلثي القوى العاملة في البلاد.
إنَّ هذه التغييرات تعني أن المملكة العربية السعودية تُرَوِّجُ الآن عَكسَ ما تفرضه الأنظمة الإسلامية. لنأخذ على سبيل المثال مهرجان “عاصفة الصوت 2023″ (Sound Storm 2023)، وهو مهرجانٌ موسيقي أقيم في الرياض في كانون الأول (ديسمبر) الفائت. حضر هذا الحدث مئات الآلاف من الشباب من جميع طبقات المجتمع للاستماع إلى فنانين أجانب أمثال: كالفين هاريس، وترافيس سكوت، وميتاليكا، ومجموعة متنوعة من المطربين والموسيقيين المشهورين الآخرين. لم يكن أحدٌ تقريبًا يرتدي الأزياء السعودية التقليدية، وكان بعضُ العلامات الخارجية، لما يمكن وصفه في مكانٍ آخر بأنماط الحياة الغريبة أو البديلة، معروضًا بالكامل. وعندما انتشرت مقاطع فيديو من الحدث على نطاق واسع، ردّت الجماعات الإسلامية بانتقادات لاذعة؛ على سبيل المثال، أدان الحوثيون السلطات السعودية لسماحها ب”السلوك الفاسق” في وقتٍ كان الفلسطينيون يتعرّضون للهجوم. لكنَّ الحكومة السعودية تجاهلت الانتقادات واستمرّت في الترفيه، بحجة أنَّ مثل هذه الأحداث ضرورية لتحوّلِ البلاد. فهم يريدون من مواطنيهم أن يُنفِقوا محلّيًا على الترفيه المحلي، وهو ما لم يكن مُتاحًا تاريخيًا. وبدلًا من ذلك، كان السعوديون يسافرون إلى الخارج لخوض مثل هذه التجارب، حيث ينفقون مليارات الدولارات كل عام في دولٍ أخرى. وتعتبر الحكومة مثل هذا الترفيه عنصرًا أساسيًا في تطوير الاقتصاد المحلي.
لا سلام، لا ازدهار
من المُمكِن أن تُساعِدَ مبادرات محمد بن سلمان على تعزيز ازدهار المملكة العربية السعودية، وبالتالي شعبية نظامه. لكن لكي تنجح هذه المبادرات، يجب أن يسود السلام. لقد توصل بن سلمان إلى هذا الإدراك بعد سنواتٍ عدة من اتباع سياسات خارجية عدوانية، مثل تدخّله المُكلف في الحرب في اليمن، ومقاطعة قطر، والموقف العدائي تجاه إيران – بما في ذلك تشبيهه للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بهتلر. لقد أدّت هذه الإجراءات إلى عدم الاستقرار في المملكة وعرّضت أهداف بن سلمان للخطر. في أيلول (سبتمبر) 2019، على سبيل المثال، أطلقت إيران صواريخ كروز وطائرات مسيرة ضد منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص، ما أدّى إلى انقطاع نصف إنتاج البلاد من النفط لأسابيع عدة. وفي آذار (مارس) 2022، استهدف الحوثيون مستودعًا للنفط في مطار جدة، ما أدّى تقريبًا إلى منع سباق الجائزة الكبرى للفورمولا 1 الذي عملت السعودية جاهدة على جلبه إلى أراضيها. في الوقت نفسه، قام زعماء إسلاميون متشددون في جميع أنحاء العالم الإسلامي بتشويه سمعة الرياض ووصفوها بأنها تابعة للولايات المتحدة ونظامٌ مُرتَدّ.
نتيجةً لذلك، عدّلت المملكة موقفها. الآن، أصبح الردّ السعودي الرسمي على هذه الانتقادات والمهاترات خافتًا، وأصبحت سياستها تجاه منافسيها تصالحية. أنهت الرياض الحصار المفروض على قطر في كانون الثاني (يناير) 2021 وبدأت التفاوض على سلسلة من الهُدَن وتبادل الأسرى مع الحوثيين في منتصف العام 2022. وفي آذار (مارس) 2023، وقّعت اتفاقية انفراج مع إيران التي أدّت إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2023، أقرَّ السعوديون اتفاق خارطة طريق للسلام لإنهاء الحرب في اليمن، وهم يتفاوضون الآن مباشرة مع الحوثيين. من خلال القيام بذلك، اعترفت الرياض فعليًا بالحوثيين باعتبارهم لاعبين رئيسيين في المستقبل السياسي لليمن. وتشير الصفقة حتى إلى أنَّ السعوديين سيُزوِّدون المجموعة بالمساعدات المالية ودفع الرواتب.
لكنَّ السعوديين لا يلعبون بشكلٍ لطيف فقط بسبب الضغوط الإقليمية. تأتي تهديدات إيران ووكلاءها في وقتٍ تردّدت الولايات المتحدة بشأن حماية المملكة العربية السعودية من العدوان الخارجي. فقد رفض الرئيس الأميركي السابق (وربما المستقبلي) دونالد ترامب الردّ على هجوم العام 2019 على منشآت أرامكو السعودية، وأزعج أسلوبه القائم على المعاملات إلى حدٍّ كبير محمد بن سلمان، الذي يريد أن تُعتَبَرُ بلاده حليفًا استراتيجيًا وليس محطة وقود مُزَوَّدة بجهاز صراف آلي. عندما تولى الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه في كانون الثاني (يناير) 2021، أعلن صراحة أنه سيُعاقب السعودية على تورّطها في الحرب في اليمن وعلى سجلّها في مجال حقوق الإنسان. في غضون شهر، أصدر بايدن وثيقةً لوكالة المخابرات المركزية تزعم أن محمد بن سلمان “وافق على عملية في إسطنبول بتركيا لاعتقال أو قتل الصحافي السعودي [والمعارض] جمال خاشقجي”. وفي الشهر نفسه، قام بايدن بإزالة الحوثيين من القائمة الأميركية للإرهاب. وفي العام 2022، منع الكونغرس الأميركي نقل وتسليم الأسلحة التي دفع السعوديون ثمنها أصلًا. وساعدت كل هذه القرارات على دفع بن سلمان لتبنّي نهجه الجديد في المنطقة، فضلًا عن بناء علاقات أقوى مع الصين والهند وروسيا. وهي تُشكّلُ مجتمعةً سياسة السعودية أوّلًا، حيث يدرس بن سلمان جميع أنواع الخيارات لتأمين وضمان حكم سلالته.
ويساعد هذا التحوّط في تفسير سبب رفض السعودية الانضمام إلى التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة لوقف هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر. ويتوقع السعوديون أن مصالحهم الاقتصادية، مع مرور الوقت، سوف تتفوَّق على الالتزامات الإيديولوجية الأكثر تشدّدًا. لذلك فإنَّ الرياض حريصة على بناء علاقات مالية واستثمارية مع إيران ومع الحوثيين، على أمل أن تؤدي هذه المصالح الخاصة إلى حماية المملكة في نهاية المطاف من أعمالهما العدوانية.
في الطريق
لكن محمد بن سلمان ليس ساذجًا بشأن رغبة أعدائه في الإضرار ببلاده، كما إنه ليس ساذجًا بشأن قدراتهم. لن تصبح إيران وحلفاؤها أصدقاءً للسعودية أبدًا، كما إنَّ إسرائيل والولايات المتحدة أقوى عسكريًا من أن تُهزَما بالكامل. فقد شهدت السعودية، بعد كل شيء، فيلم “محور المقاومة” المغرور والخيالي من قبل. حاول جمال عبد الناصر في مصر نشر الإيديولوجية الثورية العربية، كما فعل صدام حسين في العراق من خلال حركته السياسية البعثية والعدوان العسكري. وكانت النتائج كارثية. لا يوجد حلٌّ عسكري قادر على إقامة دولة فلسطينية، ولا توجد طريقة لإجبار الولايات المتحدة على الخروج من الشرق الأوسط.
في الواقع، يأملُ السعوديون أن تُصبِحَ واشنطن أكثر انخراطًا في المنطقة. وكان سعي ولي العهد إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، جُزئيًا، وسيلةً للحصول على اتفاقيةٍ أمنية أوسع مع الولايات المتحدة. وفي مقابل سفارة سعودية في إسرائيل، أرادت المملكة إبرام معاهدة دفاع مشترك مع واشنطن من شأنها حماية البلاد من أيِّ هجومٍ خارجي ومنحها برنامجًا نوويًا تديره الولايات المتحدة. وستصبح المملكة بعد ذلك حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، مع وضعٍ مماثل لوضع اليابان أو كوريا الجنوبية. وسيكون هذا إنجازًا كبيرًا للرياض وريشة مُمَيَّزة في قبعة محمد بن سلمان. سيكون ذلك إنجازًا أعظم من إقامة العلاقة بين مؤسس المملكة، الملك عبد العزيز آل سعود، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في العام 1945، والتي بشّرت بعقودٍ من التعاون بين البلدين وتقدّمٍ اقتصاديٍّ مُذهِل.
مع ذلك، في الوقت الحالي، إنَّ أيَّ احتمالٍ للتطبيع مع إسرائيل يظل معلقًا على المدى الطويل، نظرًا إلى الدمار في غزة. إنَّ القضية الفلسطينية، التي تمَّ تهميشها بعد ثورات “الربيع العربي” في العام 2011، أصبحت مرة أخرى مركزية في سياسة الشرق الأوسط، وذلك بفضل هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ولا تحظى القيادة الفلسطينية الحالية باحترامٍ كبير لدى السعوديين، لكنهم مع ذلك يشعرون بأنهم مُجبَرون على الانضمام إلى بقية دول العالم العربي لإدانة إسرائيل. لقد أصدرَ وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله آل سعود وأمراءٌ آخرون بيانات تدين تصرفات إسرائيل باعتبارها جرائم حرب، وتدعو إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار. في أواخر كانون الثاني (يناير)، أيدت الحكومة السعودية اتهام جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بأنَّ إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.
لكن هذه التصريحات كانت أخف من الانتقادات المُوَجَّهة من دولٍ إقليمية أخرى، ويأمل السعوديون في استئناف حملة التطبيع قريبًا. لكنهم يتوقّعون الآن تنازلات جدية من الإسرائيليين، تنازلاتٌ من شأنها أن تؤدّي إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. وأيُّ شيءٍ أقلّ من ذلك سيؤدي إلى اتهام محمد بن سلمان بالخيانة، وهو حسّاسٌ بشكلٍ خاص بشأن مزاعم الخيانة نظرًا إلى وضعه كأهمِّ زعيم عربي وحارسٍ لأقدسِ الأماكن الإسلامية. وهذا يعني أن الصفقة التي ذكرها موقع “هافينغتون بوست” الأميركي بأنَّ الإسرائيليين عرضوها على السعوديين، بدَفعٍ ووساطةٍ من الولايات المتحدة، لن تكون كافية. يتضمّن هذا الاتفاق المُقترَح التطبيع مقابل ضمانات مُعَيَّنة للفلسطينيين، لكنه لا يبدو أنه يخلق خطوات ملموسة نحو إقامة دولة. وفي غياب مثل هذا المسار، فإنَّ السعوديين لن يوقّعوا عليه. لقد أوضحوا أنهم لن يقوموا بتنظيف الفوضى في اليوم التالي لانتهاء الحرب في غزة.
لا أحد يستطيع أن يعرف ما إذا كان من الممكن اتخاذ خطوات ذات معنى في ضوء سياسات إسرائيل المتشددة والطموحات السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكن هجوم “حماس” جعل القضية الفلسطينية عنصرًا مهمًّا في الكيفية التي تفكر بها الرياض الآن بشأن مصلحتها الوطنية. ولذلك، فقد دفع الوضع المملكة العربية السعودية إلى إعادة الانخراط كداعمٍ قوي لقيام الدولة الفلسطينية. وفي هذا الصدد، ضمنت “حماس” انتصارًا للفلسطينيين، ولكن ربما ليس لنفسها.
- بِرنارد هَيكَل هو أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون. وهو يقوم حاليًا بعمل ميداني في الرياض لكتاب عن المملكة العربية السعودية. يمكن متابعته عبر تويتر (X) على: @BernardHaykel
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.