لماذا تَتَدَخَّلُ إيران في الصِّراعِ السُوداني؟

محمّد قوّاص*

في أوائل كانون الثاني (يناير) الماضي انتشرت فيديوهات من السودان تُظهِرُ إسقاطَ “قوات الدعم السريع” طائرة مُسَيَّرة قيل إنها من صناعة إيرانية. وفي 24 من الشهر الماضي نشرت وكالة بلومبيرغ تقريرًا نقلت فيه عن مسؤولين غربيين أنَّ إيران زوّدت الجيش السوداني بطائراتٍ مُسَيّرة وأنَّ أقمارًا اصطناعية التقطت صورًا لطائرة من نوع “مهاجر 6″ الإيرانية، في قاعدة وادي سيدنا الجوية التابعة للجيش شمال الخرطوم.

وفق هذه المعلومات، فإنَّ الأمرَ يكشفُ عن تورّطٍ إيراني في الحرب الدائرة في السودان منذ نيسان (أبريل) 2023 بين الجيش بقيادة رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان و”قوات الدعم السريع” بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقد أودت هذه الحرب بحياة أكثر من 12 ألف شخص، وتشريد نحو 10 ملايين، فيما يواجه 18 مليونًا خطر المجاعة.

وكانت وزارة الخارجية السودانية أعلنت في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي استئناف الخرطوم علاقاتها مع طهران بعد قطيعةٍ دامت 7 سنوات. كما التقى وزير الخارجية السوداني (المُكَلَّف) علي الصادق النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر في 20 الشهر الماضي، على هامش قمّة دول عدم الانحياز التي استضافتها كامبالا في أوغندا، و”ناقشا استعادة العلاقات الثنائية بين البلدين، وتسريع خطوات إعادة فتح السفارات بينهما”.

وكانَ السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير عزَّزَ علاقاته مع الجمهورية الإسلامية على نحوٍ أثارَ قلقَ الدول الإقليمية. وكانت السفن الحربية الإيرانية تزور بانتظام المرافئ السودانية، ناهيك عن إرسال إيران أسلحة صاروخية إلى السودان، قيلَ أنَّ بعضها كانت وجهته قطاع غزّة. وقد افتتح البشير علاقات السودان مع إيران بعد خمسة أشهر فقط من توليه السلطة في العام 1989. ولاحقًا زار الخرطوم ثلاثة رؤساء إيرانيين متعاقبين وهم أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد.

غيرَ أنَّ ضغوطًا داخل نظام “الإنقاذ” الذي كانَ يُسيطرُ عليه الإسلاميون كانت تزايدت ضدّ هذه العلاقة مع إيران وأدّت في أيلول (سبتمبر) 2014 إلى إغلاق كل المؤسّسات الثقافية الإيرانية ومغادرة الديبلوماسيين الإيرانيين البلاد. كما ساهمت ضغوطٌ إقليمية دولية، لا سيما قيام إسرائيل بقصف مخزن للأسلحة في أم درمان في أيار (مايو) 2015، إلى إعادة قراءة العلاقة مع إيران على نحوٍ سلبي نقدي. وجاء حدثُ الاعتداء الذي تعرَّضت له المُمثّليات الديبلوماسية للسعودية في إيران لتدفع الخرطوم إلى قطع العلاقات مع طهران في العام 2016 تضامُنًا مع الرياض.

تَكشُفُ واقعةُ دخول الطائرات المُسَيَّرة الإيرانية إلى قلب الصراع في السودان عن انفتاح البرهان وحكومته على علاقاتٍ مُتقدّمة مع إيران، مُستَفيدًا من جوِّ الانفراجِ الذي تحقّق في علاقات دول عربية مثل السعودية والإمارات ومصر مع طهران. بمعنى آخر، فإنَّ البيئة العربية التي كانت تُعارِضُ طبيعة علاقات الخرطوم بطهران في عهد البشير قد لا تعادي نظريًا علاقاتٍ من نوعٍ ما بين السودان وإيران.

ولئن تتحدّث تقارير واتهامات من “قوات الدعم السريع” وقوى الحرية والتغيير عن عودة التيار الإسلامي لمُمارَسة نفوذٍ واسعٍ داخل هياكل النظام السياسي الذي يقوده البرهان، فإنَّ الخيار الإيراني الذي اتّخذه البرهان قد ينهلُ من مسوغٍ عقائدي إسلامي يَجمَعُ إسلاميي السودان بنظام الجمهورية الإسلامية في طهران، خصوصًا أنَّ جماعة “الإخوان المسلمين” في المنطقة، ما عدا “إخوان سوريا”، كانت نسجت علاقات حميمة مع طهران تراجعت في بعض المراحل من دون أن تتحوّلَ إلى قطيعةٍ مُطلَقة.

لكنَّ الحافز الأساسي للبرهان في إعادة الانفتاح على إيران يعودُ إلى حاجة الجيش إلى أسلحةٍ من شأنها إحداث فارقٍ نوعي في المعارك الدائرة ضد “قوات الدعم السريع”. ويُعَوِّلُ الجيش السوداني على المُسَيّرات الإيرانية التي تمتّعت بالكفاءة داخل مجموعةٍ من ميادين الصراع، وخصوصًا في أوكرانيا لمصلحة الجيش الروسي. وإضافةً إلى الحافز العسكري يسعى البرهان إلى الانفتاح على تحالفٍ سياسي من خلف إيران مع الصين وروسيا ودول أخرى.

وليس مُستَغرَبًا أن تندفعَ إيران للتدخّل من خلال مُسَيّراتها وأنواعٍ أخرى من الأسلحة في الحرب في السودان. الأمرُ جُزءٌ من أبجديات السياسة الخارجية الإيرانية التي تستفيد دومًا من العراق إلى اليمن مرورًا بسوريا ولبنان من الصراعات الداخلية والانقسامات البيتية لتجد لها المكان والمكانة داخل بلدان المنطقة. ثمَّ إنَّ طهران تستأنفُ علاقاتٍ عرفت كيف تستثمرها وتُسيِّرها سابقًا في عهد البشير ومن السهل إعادة تشغيلها، وبطلبٍ من السودان هذه المرّة.

يُمثّلُ السودان بالنسبة إلى إيران فرصةً للتنافس الجيوستراتيجي داخل بلدٍ شديد الأهمية على مستوى الموقع والموارد والدور والوظيفة في القارة السمراء والعالم.

صَحيحٌ أن بلدانًا إقليمية ودولية تعملُ منذُ عقودٍ على تعزيزِ مصالحها داخل السودان ولدى كل الأنظمة السياسية التي حكمت البلد منذ الاستقلال، غيرَ أنَّ البلدَ يُمثّلُ أيضًا فرصةً إضافية لإيران لإطلالةٍ أخرى داخل أفريقيا من جهة، والبحر الأحمر من جهةٍ أخرى في عزِّ الجدل حول نفوذها على البحر وممرّاته من خلال جماعة الحوثي في اليمن.

ومع ذلك، فإنَّ طموحات إيران في السودان وبحره الأحمر مُرتَبطة أيضًا بمآلات الصراع الحالي في احتمالاته العسكرية كما احتمالاته التسووية. وفيما تبتعدُ خيارات السلم بسبب تعقّد إجراء لقاء بين البرهان وحميدتي وإعلان وزارة الخارجية السودانية في 20 الشهر الماضي تجميد عضوية السودان في منظمة “إيغاد” الراعية لورش السلم، وإعلانها أنَّ “الخرطوم غير مُلزَمة ولا يعنيها كل ما يصدر من المنظمة في الشأن السوداني”، فإنَّ ذلك يفسح المجال واسعًا لتدخّل الأسلحة الإيرانية تدخّلًا واسعًا في معارك المتقاتلين.

قد يساهمُ تدخّلُ العامل الإيراني في تحفيز أطراف الصراع والقوى الإقليمية والدولية على تطوير أدوات الوصول إلى تسوية سياسية. لكنَّ هذا التدخّل يلقي مزيدًا من التعقيد على الأزمة السودانية لجهة ما يُمثّله هذا التطوّر من استفزازٍ لدولٍ مجاورة أو مهتمّة بالشان السوداني، ولجهةِ استدراجِ مزيدٍ من التدخّلات العسكرية الخارجية نحو الصراع السوداني. لكن العامل الإيراني في السودان الداعم للجيش يأتي مناقضًا لمواقف غربية، لا سيما أميركية-بريطانية، لطالما عبّرت عن دعمها لقوى الحرية والتغيير من أجل إقامة ديموقراطية في السودان. مع العلم أن تلك “القوى” تبدو أقرب إلى حميدتي الذي ينادي بإقامة دولة مدنية ديموقراطية في السودان.

جديرة ملاحظة أنَّ طهران والخرطوم لم تكشفا مباشرةً وصراحةً عن ماهية التعاون بينهما ومستواه، كما لم تُسَرِّب إيران موقفًا رسميًا من الصراع في السودان. والواضح أنَّ طهران التي أبرمت اتفاقًا مع الرياض في آذار (مارس) 2023 وهي بصدد تطوير علاقاتها مع القاهرة، تُقارِبُ الملف السوداني بحذر وروية وحساسية لا تستفزّ دولًا على البحر الأحمر ولا تُثيرُ قلق السعودية ومصر المطلتّين على هذا البحر واللتين اتخذتا موقفًا مُحايدًا في الصراع الجاري حاليًا مع الحوثيين في اليمن. يبقى أنَّ غموضَ الحضور الإيراني-السوداني سيطرح أسئلة بشأن ما قد يُمثّله الأمر من تحوّلاتٍ بالنسبة إلى إسرائيل من قبل دولة انضمت إلى الاتفاقات الإبراهيمية وتتيح لإيران الإطلالة بعد اليمن على البحر الأحمر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى