القومية المُتَشَدِّدة تُعيدُ تشكيلَ الهوية في إيران والمملكة العربية السعودية

حقّقت الجهود التي تبذلها النُخَبُ الحاكمة في إيران والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى لتسخيرِ أشكالِ قوميةٍ أضيق لتنشيط الدعم الأوسع للأنظمة الملكية والثيوقراطية الراسخة بعض النجاح، ولكن…

الحرس الثوري الإيراني: أعاد الحياة إلى القومية الإيرانية

ألكسندر كلاركسون*

مع تزايد مخاطر التصعيد، تَجري حاليًا جهودٌ ديبلوماسية محمومة لمنع الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة من التحوّلِ إلى صراعٍ إقليمي أوسع. ولكن في حين يظلُّ زعماءُ العالم وشعوبه مذهولين من هذه المأساة المُتَكَشّفة، فإنَّ اتجاهاتٍ أخرى في المنطقة، والتي يمكن أن يكون تأثيرها في المدى الطويل له تبعية على مستقبل الشرق الأوسط، تكتسب زخمًا. على وجه الخصوص، فإن التحوّلَ الواضح بشكلٍ متزايد في خطابات الهوية في الخليج وإيران يُمَهّدُ الطريق لمزيدٍ من الصدمات للنظام الإقليمي.

هذه الديناميكيات الاجتماعية في إيران  المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى هي نتاجُ استجاباتِ الدولة لموجة الاحتجاجات في جميع أنحاء الشرق الأوسط في أواخر العقد الأول وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، أثارت المظاهرات الحاشدة في البحرين ومحافظة القطيف شرق السعودية مخاوف بين الطبقات الأرستوقراطية في دول الخليج من أن يؤدّي التعبير الصريح عن التوترات الطائفية والطبقية إلى الإطاحة بأنظمة السلطة والمحسوبية. وعلى الرُغم من أنَّ هذه الاحتجاجات الجماهيرية المماثلة لها في جميع أنحاء العالم العربي في العام 2011 -وكذلك في إيران في العام 2009- قد تلاشت في أعقاب القمع الوحشي، إلّا أنَّ هذا الاضطراب عزّزَ الإختبار الإيديولوجي بين الأنظمة الملكية وغير الديموقراطية في سعيها إلى اتباعِ استراتيجياتٍ مُضادة للثورة لضمان بقائها.

إنَّ الجهودَ التي تبذلها هذه الحكومات لتعزيز روايات الهوية الجديدة من أجل حماية سلطة النخبة المكوَّنة من الأرستوقراطيين والبورجوازيين الأوليغارشيين تُذَكّرنا بتصوير الكاتب الإيطالي، جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا، في روايته “الفهد” (The Leopard) للتناقضات الاجتماعية التي اجتاحت صقلية خلال حروب التوحيد في إيطاليا في ستينيات القرن التاسع عشر. اشتهرت رواية “الفهد”، التي نشرها في العام 1958، بالسخرية التي أطلقتها شخصيتها الرئيسة، التي قالت: “إذا أردنا أن تظلَّ الأمور كما هي، فيجب أن تتغيَّر الأمور”.

إنَّ عَقدَ الصفقات المُعيبة لتسخير القومية في خدمة النُخَب الراسخة، والتي ينتقدها لامبيدوزا في رواية “الفهد”، قد يبدو مألوفًا للغاية لكثيرين في جميع أنحاء الخليج اليوم. مثل القادة الإيطاليين – والألمان- في القرن التاسع عشر الذين حققوا الوحدة الوطنية لنزع فتيل المطالب العامة بالتغيير الثوري، تُحاول النُخَبُ الحاكمة في إيران ودول الخليج إيجاد مصادر جديدة للشرعية القادرة على استعادة الولاء الشعبي لأنظمتها غير الديموقراطية. ومع تراجع فعالية أشكال السيطرة والتعبئة الدينية على مدى العقدين الماضيين، تحوّلت الخطابات المدعومة من النظام في هذه الدول نحو أشكالِ القومية العسكرية التي تجمع بين الاستمرارية الثقافية وإعادة التشكيل الجذري لسرديات الهوية الجماعية. وفي الوقت نفسه، نجحت الجهود الرامية إلى تعزيزِ أجندةٍ قومية أكثر صراحةً في الدول، التي لا تزال التسلسلات الهرمية الطائفية تلعب فيها دورًا حاسمًا، في تجنِّبِ التحديات المباشرة تجاه المؤسّسات الدينية المُهَيمنة.

في مواجهة الاحتجاجات الحاشدة ضد القيود الدينية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي في إيران، فإنَّ الجهودَ التي تبذلها النخب الإيرانية لتطوير مصادر جديدة للشرعية الاجتماعية مُقَيَّدة بشبكاتِ المحسوبية، التي لا تزال تعتمد على النظام الثيوقراطي القائم منذ العام 1979. ومع ذلك، فإن الازدراء العلني المتزايد الذي يُظهِرُه جُزءٌ كبيرٌ من السكان تجاه رجال الدين الشيعة، الذين غالبًا ما يُنظَرُ إليهم على أنهم جاهلون وفاسدون، أجبَرَ حتى أشدّ المدافعين عن إرث آية الله روح الله الخميني على النظر إلى رواياتِ هوية أخرى لحماية موقف ووضع النظام. وبالنسبة إلى الحرس الثوري الإسلامي، فإنَّ التحوّلَ الناتج نحو التركيز بشكلٍ أقوى على القومية الإيرانية والمجد العسكري قد وفَّرَ الفُرَصَ لتوسيعِ قوّته ونفوذه على حساب رجال الدين المُسَيَّسين، الذين تتضاءل أهميتهم السياسية. في الواقع، قام الحرس الثوري الإيراني بتهميش رجال الدين الشيعة رُغمَ أنه تم تأسيسه لخدمتهم.

إن إعادة تشكيل الروايات المدعومة من الدولة لوضع الحرس الثوري الإيراني في قلب الخطاب القومي قد تُوِّجَت بالترويج لعبادة الشهداء حول الجنرال قاسم سليماني، القائد العسكري الأكثر نجاحًا في الحرس الثوري والذي اغتيل في غارة جوية أميركية بطائرة مُسَيَّرة خارج بغداد في العام 2020. من خلال وضع سليماني تقريبًا على مستوى القيادة المثالية مثل الخميني، يستمر بناء الأسطورة في الاعتماد على الروايات الدينية عن التقوى والتواضع، مع الإشارة أيضًا إلى الذاكرة التاريخية للمجد الإمبراطوري الفارسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط والتي تناشد الفئات الأكثر علمانية من المجتمع الإيراني. وفي حين أن هذه المحاولة للاعتماد على الخطابات القومية التي تعود إلى قرونٍ مضت قد لا تكون كافية لتجاوز المدى الهائل من السخط العام على الركود الاجتماعي والاقتصادي في إيران، إلّا أنها يمكن أن تُمَهّدَ الطريق أيضًا لإعادة ضبط السياسة الداخلية على نطاقٍ أوسع من داخل النظام، في الوقت الذي لا يزال يستعرض قوته العسكرية في الخارج.

ورُغمَ أنَّ النظامَ الملكي السُنّي في المملكة العربية السعودية يُعرَضُ أو يُصَوَّرُ في كثير من الأحيان على أنه مُنخَرِطٌ في صراعٍ دائمٍ من أجل الهيمنة الإقليمية ضد الثيوقراطية الشيعية في إيران، فإن أزمة الشرعية التي تواجهها النخب الحاكمة في المملكة لها أوجه تشابه مذهلة مع التطورات في طهران. فبعد أن دفع جانبًا زمرة كبار السن المحيطة بوالده المريض، الملك سلمان بن عبد العزيز البالغ من العمر 87 عاماً، استخدم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مزيجًا من القمع السياسي القاسي، والتحديث الاقتصادي، والتحرير الثقافي لإعادة تنشيط الدعم الشعبي لسلالة آل سعود الحاكمة. وكجُزءٍ من هذا الجهد، قام بقلب وضع المؤسسة الدينية في المملكة بين عشية وضحاها تقريبًا، من خلالِ محاولةٍ منهجية للترويج لشكلٍ مُمَيَّزٍ من القومية السعودية باعتبارها محور هذا التحوّل.

ويمكنُ أيضًا النظر إلى هذه النزعة القومية المفرطة -التي تحتفي بأمثلة من البراعة العسكرية السعودية في الحرب المستمرة في اليمن، إلى جانب الالتزام المدني بالتحديث الاقتصادي- على أنها محاولة للتعويض عن المحاولات الفاشلة السابقة لحشد الدعم الشعبي لآل سعود. ففي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، في عهد الملك سعود آنذاك، على سبيل المثال، حاول النظام الملكي الاستفادة من الإيديولوجية القومية العربية الناشئة في ذلك الوقت. ولكن سرعان ما تمّ التخلّي عن هذا السرد الأكثر توسّعية للهوية والمجتمع بعد الإطاحة بسعود في العام 1962، عندما أصبح من الواضح أن الوحدة العربية يمكن أن تُهدّدَ النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه الأنظمة الملكية.

وقد نجحت إعادة التأكيد اللاحقة على العقيدة الدينية الوهابية باعتبارها مرساة للهوية السعودية في تثبيت استقرار النظام لبعض الوقت. لكنه جاء على حساب تنفير العديد من الشباب السعوديين، الذين يتوقون إلى قدرٍ أكبر من الحريات الثقافية، في حين أدى إلى توليد الإحباط بين آخرين ممن دفعتهم رغبتهم في مجتمع أكثر تقوى إلى الانضمام إلى الحركات الجهادية التي أصبحت تُشكّل تهديدًا قاتلًا للدولة السعودية.

وشجّعَ فشلُ هذه الجهود في بناءِ إجماعٍ اجتماعي دائم جيلَ الأرستوقراطيين السعوديين من جيل الألفية المُحيطين بالأمير محمد بن سلمان على التركيز على القومية السعودية القوية بدلًا من ذلك. وفي انعكاسٍ لجهودٍ مُماثلة في دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى، فإنَّ هذا التركيز على الهوية المشتركة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الأسرة الحاكمة والفضاء الإقليمي الذي تسيطر عليه الدولة قد اكتسب بالفعل جاذبية كبيرة بين الشباب السعودي، كما هو واضح من خلال تعريفهم القوي بالرموز الوطنية المشتركة مثل الجيش أو المنتخب الوطني لكرة القدم. ومع ذلك، في حين أصبحت القومية السعودية أساسًا مركزيًا للحياة العامة، فإنها لا تزال مرتبطة بالتقاليد العربية والإسلامية الأوسع، وتحافظ على الروابط الثقافية والولاءات العابرة للحدود الوطنية التي تضع بعض القيود على كيفية قيام بن سلمان وغيره من القادة الشباب بإعادة تشكيل المجتمع السعودي على صورتهم الخاصة.

لقد حقّقت الجهود التي تبذلها النُخَبُ الحاكمة في إيران والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى لتسخيرِ أشكالِ قوميةٍ أضيق لتنشيط الدعم الأوسع للأنظمة الملكية وغير الديموقراطية الراسخة بعض النجاح. ومن خلال تبنّي استراتيجية “الفهد” للامبيدوزا المتمثّلة في تبنّي روايات جديدة للهوية الوطنية للحفاظ على سيطرتهم على السلطة والمحسوبية، طوّرَ الأمراء السعوديون وضباط الحرس الثوري الإيراني هياكل سياسية يمكن أن تساعدهم على النجاة من الموجات التالية من الاضطرابات الاجتماعية التي سيتعيّن عليهم حتمًا مواجهتها.

ومع ذلك، فإنَّ مصيرَ مشاريع بناء الدولة الإيطالية والأوروبية الأخرى في العقود التي تلت روعة أواخر القرن التاسع عشر، والتي تم تصويرها في رواية “الفهد”، يُعَدُّ أيضًا بمثابة تحذيرٍ حول كيف يمكن للقومية أن تُحطِّمَ وضع النخب الأرستوقراطية والعسكرية التقليدية التي كانت في البداية حاولت تسخيرها لمصلحتها. ومن خلال تشجيع الاعتقاد بين السعوديين والإيرانيين بأنهم مواطنون يجب عليهم الدفاع عن مصالح دولتهم القومية، وليسوا رعايا يجب أن يخضعوا لأهواء الأمراء ورجال الدين، فإن صعودَ القومية يمكن أن يؤجج الثورة ضد النظام الاجتماعي الذي يقوده بن سلمان والحرس الثوري الإيراني ويعتمدان عليه الآن للبقاء في السلطة. وحتى لو أدت مثل هذه الثورة القومية إلى استبدال شكلٍ من أشكال الاستبداد بآخر، فإن المجموعات الاجتماعية الجديدة التي تتولى مناصب السلطة قد تسعى إلى تحقيق أهداف جيوسياسية مختلفة تمامًا، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب محسوسة في مختلف أنحاء العالم.

بعد أن شهد الاضطرابات المؤلمة الناجمة عن فشل تجربة إيطاليا في القومية المتطرفة خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان لامبيدوزا يدرك تمام الإدراك مدى خطورة إرث الاضطرابات الاجتماعية التي سجّلها في رواية “الفهد”. وفي أحد المقاطع الأخيرة من روايته، تأمّلَ بحزن كيف أنَّ كلَّ الحكام الجدد الذين ظهروا في ذلك الوقت “كانوا يُطاعون في الحال، وسرعان ما أصبحوا مكروهين، وأُسيء فهمهم دائمًا”. وهذا تحذيرٌ من الأفضل أن ينتبه إليه الأمراء السعوديون وضباط الحرس الثوري الإيراني الطموحون.

  • ألكسندر كلاركسون هو أستاذ محاضر في الدراسات الأوروبية في جامعة كينغز كوليدج في لندن. يستكشف بحثه تأثير مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945، وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام حدود الاتحاد الأوروبي على علاقاته مع الدول المجاورة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى