هل يُمكِنُ مَزجُ النَفطِ والماء؟: خَلقُ فُرَصٍ للتعاونِ العراقي-التركي

ينبغي على العراق وتركيا أن ينظرا إلى وفرة النفط والمياه على أنها فرصةٌ للتكامل والاعتماد المتبادل بدلًا من الصراع والاستغلال.

رجب طيب أردوغان: أرسل مبعوثيه إلى العراق لفتح الطريق أمام محادثاته المقبلة مع العراقيين.

عمر النداوي*

شهد الأسبوع الفائت موجةً من النشاط الديبلوماسي بين بغداد وأنقرة. كانت الأولويات القصوى في المحادثات التي جرت في أربيل وأنقرة وبغداد في وقتٍ واحد تقريبًا هي صادرات النفط، وجود حزب العمال الكردستاني وأزمة المياه في العراق.

كانت الزيارات التي قام بها وزيرا الخارجية والطاقة التُركيّان إلى العراق، ووزير النفط العراقي إلى تركيا، بمثابةِ تحضيراتٍ لزيارةٍ مُرتَقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد، والتي تعتقد مصادر عراقية أنها قد تتم في أيلول (سبتمبر) الجاري، للاتفاق على طريقةٍ للمضي قدمًا في هذه القضايا الشائكة. وكانت النتائج متواضعة، حيث لم تُقدّم البياناتُ العامة أيَّ أفكارٍ جديدة ولم تعد أكثر من مجرد تكرار لمواقف ومطالب وتعبيرات عن الأمل راسخة. لكن هناك فرصة للعراق لتغيير الأمور وتحسين موقفه التفاوضي، على الأقل في ما يتعلق بقضية تصدير النفط، وربما أكثر.

ما الذي على المحك بالنسبة إلى العراق وتركيا؟

أوّلًا، تسعى بغداد وأربيل إلى استئناف صادرات النفط من كركوك وإقليم كردستان عبر خط الأنابيب العراقي-التركي. وقد توقفت هذه الصادرات منذ آذار (مارس)، عندما فاز العراق بقضية تحكيم في غرفة التجارة الدولية ضد تركيا للسماح بالصادرات الأحادية الجانب من إقليم كردستان بدون موافقة بغداد. وقد كلف فقدان 450 ألف برميل يوميًا من الصادرات لمدة خمسة أشهر بغداد وأربيل نحو 5 مليارات دولار من إجمالي الإيرادات غير المُحَقَّقة. إن تسييل هذا النفط ضروريٌّ لتنفيذ موازنة العراق لعام 2023 البالغة 150 مليار دولار والسيطرة على العجز الهائل البالغ 48 مليار دولار (وصمود حكومة أربيل التي تعتمد 80% من موازنتها على عائدات النفط). أما خسائر تركيا المباشرة فهي أقل، إذ تتراوح قيمتها بين مليونين إلى 3 ملايين دولار يوميًا من رسوم عبور النفط، ما يضع جانبًا الفرصة الضائعة المتمثّلة في تنشيط تجارة النفط والغاز مع العراق.

ثانيًا بالنسبة إلى العراق هناك قضية المياه. تعرف البلاد عامًا جافًا آخر شهد اختفاء البحيرات والأهوار مع تضاؤل حجم المياه المتدفقة أسفل نهري دجلة والفرات من جارَتَي المنبع تركيا وإيران، مما أجبر العراق على اتخاذ تدابير يائسة، مثل تركيب مضخّات جديدة لاستخراج المياه من المساحة الميتة في الخزانات على طول النهرين. والوضع مأسوي بشكلٍ خاص مع الروافد التي تنبع من إيران، مثل الزاب الصغير، الذي منعت إيران مياهه لأسابيع، ومع نهر الفرات، الذي يقول مسؤولو المياه العراقيون إنه يجف حاليًا قبل أن يتمكن من الالتقاء بنهر دجلة عند نقطة التقائهما البديع بالقرب من البصرة. وفي تموز (يوليو)، أفادت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) في العراق أن عمق منسوب نهر الفرات بلغ 56 سم فقط في الناصرية، ما تسبب في جفاف 90% من الأهوار القريبة.

أما المسألة الثالثة فهي الأمن، وخصوصًا وجود حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية الممتدة من السليمانية ومخمور شرقًا، إلى جبال قنديل الوعرة في الشمال، وصولًا إلى سنجار بالقرب من الحدود السورية غربًا. وقد شنّت تركيا العديد من الضربات الجوية لإضعاف حزب العمال الكردستاني داخل العراق، وتصرُّ على أنه يتعين على بغداد أو أربيل اتخاذ إجراءات لإنهاء “فيروس” حزب العمال الكردستاني الذي ينتشر، من وجهة نظر أنقرة، على طول مئات الأميال من حدودها الجنوبية. لدى العراق مشاكله الخاصة مع حزب العمال الكردستاني، الذي اجتذب وجوده ووجود الجماعات التابعة له عملًا عسكريًا تركيًا ثقيلًا وزعزعة استقرار منطقة سنجار التي مزقتها الحرب في محافظة نينوى الغربية.

الجمود مُستَمِرّ

في ما يتعلق بحزب العمال الكردستاني، كرّرَ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الحجة القائلة بأن وجود هذا الحزب يجب أن ينتهي، سواء بتعاون بغداد أو أربيل. والمشكلة هي أنه لا توجد قوة أو إرادة سياسية للتحرّك بشكلٍ حاسم. وتتعقد القدرة على التحرك بسبب التكلفة المادية والسياسية وصعوبة القتال مع معارضي حرب العصابات الراسخين، وبسبب حقيقة أن المُنتسبين إلى حزب العمال الكردستاني، وخصوصًا وحدات مقاومة سنجار، يتمتعون بدعمٍ محلي قوي في سنجار حيث يتواجدون. ويُنظَرُ إليهم على أنهم مدافعون شرعيون عن مجتمع الأقلية اليزيدية المُصابة بالصدمة. والأحزاب الحاكمة في أربيل لا تنظر إلى حزب العمال الكردستاني بعينٍ واحدة. في حين يعتبر الحزب الديموقراطي الكردستاني في أربيل حزب العمال الكردستاني عدوًّا، فإنَّ الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية هو متعاطفٌ، إن لم يكن داعمًا. هناك أيضًا أدلة على تزايد التعاون بين وحدات مقاومة سنجار والفصائل القوية المدعومة من إيران في قوات الحشد الشعبي، والتي دعمت الهجمات ضد القوات التركية في العراق. ومن غير المستغرب أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يستطع أن يفعل أكثر من إخبارِ مبعوث أنقرة بأن حكومته مستعدة للتعاون مع تركيا لمنع الهجمات التي تنطلق من الأراض العراقيةا، في إشارةٍ إلى تصرفات حزب العمال الكردستاني، لكنه دعا تركيا إلى تجنّب القيام بعملياتٍ عسكرية أحادية الجانب، وهو إجراء كان مُحرِجًا لكلٍّ من بغداد وأربيل.

وكان التقدم مُخَيِّبًا للآمال في ما يتعلق بالمياه أيضًا. احتفل السوداني بالاتفاقية الجديدة لتشكيل لجنة مشتركة للمياه. وهذا الترتيب أقل كثيرًا من أن يتناسب مع حجم الأزمة البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي تتكشَّف الآن. ولم يقتصر الأمر على أن أنقرة لم تتوقف عن تقديم أي التزامات بإطلاق المزيد من المياه لإنقاذ المجتمعات التي تعتمد على نهر الفرات –حيث تقول المنظمة الدولية للهجرة إن ثلث النازحين العراقيين البالغ عددهم 85 ألف نازح بسبب ندرة المياه يعيشون في محافظة ذي قار على طول النهر– لكن في الواقع، فإنَّ تشكيلَ مثل هذه اللجنة هو مجرد إعادة صياغة لاتفاقٍ تمَّ التوصل إليه في العام 2021 في عهد حكومة مصطفى الكاظمي.

في ما يتعلق بالنفط، حيث تسيطر أنقرة على المفتاح بالمعنى الحَرفي، فإن المحادثات الأخيرة لم تُسفِر عن اتفاق. لا يمكن للمماطلة التركية أن تكون أكثر شفافية. قال مسؤولون أتراك إنهم بحاجة إلى مزيدٍ من الوقت لفحص خط الأنابيب وصهاريج التخزين في ميناء جيهان على البحر المتوسط بحثًا عن الأضرار الناجمة عن زلزال 6 شباط (فبراير). وهذا أمرٌ يصعب تصديقه بالنظر إلى أنَّ تدفق النفط استمر لمدة 46 يومًا بعد الزلزال، وتوقف في 25 آذار (مارس) بعد ساعاتٍ من إصدار محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية حكمها لصالح العراق. ومن المؤكد أن ذلك لم يكن من قبيل المصادفة. وبدلًا من ذلك، تستخدم تركيا خط أنابيب العراق كورقة مساومة تمتلكها لانتزاع تنازلاتٍ بشأن التعاون النفطي والأمني من أربيل وبغداد. وقال مسؤول نفط عراقي مُطّلع على المحادثات ل”رويترز” إنَّ “التوصّلَ إلى اتفاقٍ قريبًا ليس بالمهمة السهلة ولدينا الكثير من القضايا الشائكة. تركيا لديها مطالب وشروط تتطلّب مزيدًا من المحادثات”. وتفيدُ التقارير في العراق أنه بالإضافة إلى تخفيض مبلغ التعويضات التي يجب أن تدفعها (التي حددتها محكمة التجارة الدولية بمبلغ 1.5 مليار دولار)، قدمت تركيا مطالب صعبة أخرى، بما في ذلك تخفيضات كبيرة على النفط، وإسقاط جميع المطالبات ضدها، وزيادة رسوم نقل النفط إلى 7 دولارات لكل برميل (مقارنة بحد أقصى قدره 1.18 دولار أميركي حسب معاهدة خطوط الأنابيب الحالية، كما تم تجديدها في العام 2010)، وتعويض تكاليف صيانة خطوط الأنابيب.

نفوذ العراق غير المُستَخدَم

ومن المفارقات أن قرار تركيا بإطالة أمد وقف صادرات النفط العراقية (سواء الحكومة الفيدرالية أو حكومة إقليم كردستان) قد أعاد ترتيب مصالح بغداد وأربيل بحيث تريد بغداد، لأول مرة منذ فترة طويلة، أن يصل نفط أربيل إلى الأسواق الدولية بقدر ما تريد اربيل أن تفعل.

ومع تعرّضِ المصالح المتبادَلة للخطر، وفي ضوء التقارب الأخير في مواقفهما بشأن إدارة الموارد النفطية، والذي انعكس في موافقة أربيل في نيسان (أبريل) على السماح لشركة تسويق النفط الحكومية العراقية (سومو) بالتعامل مع صادراتها النفطية، يمكن لأربيل وبغداد أن يحوّلا الوضع ويقلبان الطاولة.

ومع اتخاذ خطواتٍ تقنية إضافية تماشيًا مع الاتفاق السياسي الذي تمَّ التوصل إليه في نيسان (أبريل)، يمكن أن تكون بغداد وأربيل في موقفٍ أقوى بكثير في ما يتعلق بالنفط مما تتصورانه حاليًا. والمفتاح هو تعظيم الاستفادة من النفط المنتج في كركوك وإقليم كردستان في قطاع المصب داخل العراق، أي المصافي، وبدرجة أقل محطات الطاقة. وينبغي لأيِّ استراتيجيةٍ شاملة أن تنظرَ إلى النفط الخام باعتباره سلعة قابلة للاستبدال، حيث تتدفق البراميل إلى أيِّ مكان يولّدُ أعظم عائدٍ اقتصادي. قد تتضمّن هذه الإستراتيجية  تكتيكات عدّة:

أوّلًا، هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءاتٍ لضمان استخدام الطاقة القصوى لمصافي كَلَك وبازيان ونينوى ودوكان في إقليم كردستان، والتي يمكنها معالجة ما يصل إلى 230 ألف برميل يوميًا من النفط، لاستيعاب أكبر قدر ممكن من الإنتاج المُحتَجَز لتلبية احتياجات السوق المحلية والطلب على الصعيد الوطني، وربما لتصدير فائض المنتجات المُكرَّرة.

والثاني هو استخدام الشاحنات لنقل النفط المُنتَج في إقليم كردستان إلى المصافي و/أو محطات الطاقة في وسط وجنوب العراق. ويمكن أن يحل هذا محل المواد الخام الآتية من الحقول الجنوبية للبلاد ويحرر المزيد من هذا النفط للتصدير. تكلفة النقل، بافتراض على سبيل المثال رحلات طولها 240 ميلًا من كركوك إلى مصفاة كربلاء التي تم بناؤها حديثًا والتي تبلغ طاقتها 140 ألف برميل يوميًا، ستكون أقل بكثير من مبلغ 7 دولارات الذي تطلبه تركيا. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ تكلفة نقل النفط الخام العراقي عبر الشاحنات الناقلة لمسافة 600 ميل من كركوك إلى مصافيها في الزرقاء 6.80 دولارات للبرميل.

ثالثًا، ينبغي على المسؤولين في بغداد وأربيل النظر في التخطيط للمستقبل لضمان وجود البنية التحتية المناسبة للسماح بتدفق 150 ألف برميل إضافية من النفط المُنتَج في كردستان نحو مجمع بيجي، حيث تخضع مصفاة بهذه القدرة لإعادة الإعمار بهدف التشغيل قبل نهاية العام 2024.

ويمكن توقع بعض الآلام المتزايدة في الوقت الذي تحاول أربيل وبغداد تحقيق المزيد من التكامل في قطاعَي الطاقة لديهما، لكن الحكومتين لديهما القدرة على التكيف مع استمرار أنقرة في منع الصادرات، ويمكن أن تكون المكافأة جديرة بالاهتمام. يمكن لبغداد وأربيل تحويل النفط من قضية تحتاج فيها إلى تعاون أنقرة إلى ورقة مساومة خاصة بهما. ويمكن تقديم النفط بسعر مخفض إلى تركيا إذا قامت الأخيرة بالمثل بشروطٍ معقولة لاستخدام خط الأنابيب في المدى الطويل، وأظهرت المزيد من التعاون في معالجة أزمة المياه في العراق.

هناك مكاسب يمكن أن تحققها تركيا أيضًا. والآن بعد أن أصبحت أربيل وبغداد أقرب بكثير إلى أن تكونا على الموجة ذاتها في ما يتعلق بإدارة الصادرات، فإن انخفاض حالة عدم اليقين يمكن أن تساعد العراق على الاستثمار في زيادة الإنتاج من كركوك للحصول على المزيد من تدفق النفط عبر تركيا لجعل مشروع خط أنابيب العراق أكثر ربحية. إنَّ تلبية احتياجات العراق المُلِحّة من المياه تخلق ظروفًا أكثر ملاءمة لإشراك الشركات التركية في تحديث أنظمة الري في العراق، لصالح كلتا الدولتين المتشاطئتين. وقد تفكر بغداد أيضًا في إعطاء الضوء الأخضر لإحياء المخططات السابقة لبيع غاز كردستان إلى تركيا.

قد تكون قضية حزب العمال الكردستاني، في المستقبل المنظور، قضية مستعصية على الحل، لكن هذا لا ينبغي أن يمنع الجارتين من إحراز تقدم في أماكن أخرى. ينبغي على العراق وتركيا أن ينظرا إلى وفرة النفط والمياه على أنها فرصة للتكامل والاعتماد المتبادل بدلًا من الصراع والاستغلال.

  • عمر النداوي هو محلل لشؤون الشرق الأوسط يُركز على الشؤون السياسية والأمنية والطاقة العراقية. وهو مدير البرامج في مركز تمكين السلام في العراق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى