أليست كل الرؤوس سواء؟
عبد الرازق أحمد الشاعر*
حين أُطالِعُ إعلامَنا الرخيص ووسائل تواصلنا الرديئة أحسّ أننا تحوّلنا إلى حنجرةٍ واحدة تَصدُرُ طنيناً واحداً، وأنّنا على وشكِ التحوّلِ إلى قروشٍ تافهة في مُحيطٍ تَعِسٍ تُثير شهيّتنا رائحة الدماء، وتجمعنا الرغبة في لَعقِ الجراح الدافئة، وتبادل طقوس الحوقلة و”الحسبنة” ومصّ الشفاه.
آخر ما أثار حنقي من تلك السمفونية المُبتذَلة، ردّ الفعل المُغالى فيه من قبل الفضائيات ومنصّات التواصل على جريمة الاسماعيلية التي تحوّلت إلى وجبةِ رُعب مُقَدَّدة فوق كل الموائد. والتي بفضلها تحوّلت حادثة ذبحٍ “فردية” راح ضحيتها والدٌ لسبعةِ أرواحٍ وجدٌّ لثامنة إلى “الجريمة الكبرى”، وراح الإعلاميون ومن ورائهم البُسطاء يُردّدون النغمة النشاز نفسها بأن بشاعتنا قد فاقت كل حدٍّ وتجاوزت كل محظور. وبدأ البسطاء يصبّون جامَ غضبهم على السبكي ومحمد رمضان وغيرهما من “مصاصي الدماء” الذين حوّلوا المجتمع “الطاهر جداً” إلى حانةٍ ومَسلخ.
نسي هؤلاء أننا من البدء بشعون جداً، وأن تاريخنا البشري فوق هذا الكوكب البائس مكتوبٌ بالدماء والدموع. وأن مشهدَ الرؤوس المنزوعة من بين أكتافها ليس فريداً من نوعه. فلطالما حفل تاريخنا الدموي بمشاهد أكثر دمامة وأشدّ هولاً. وكانت الملائكة، حين أراد الله لنا أن نكون، تعلم حقيقة بشاعتنا ومحبّتنا لسفكِ الدماء حين قالت: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟”.
بدأت دمويتنا مع المشاهد الأولى لقدومنا إلى هذا العالم، حين رفع قابيل حجراً بحجم غيرته في غفلة من آدم وحواء، ليرضخ به رأس أخيه راعي الغنم النائم. صحيح أنه لم يُباهِ بجريمته، ويرفع رأس أخيه في كيسٍ أسود فوق رأسه كما فعل قاتل الإسماعيلية، بل سارع إلى مواراة الجسد التراب، إلّا أن الروح في الحالتين قد أُزهِقَت، ولا فرق في شريعة الموت بين رأسٍ مُهشَّمٍ ورأسٍ منزوع.
ألم يأمر الملك هيرودوس الذي تزوَّج من هيروديا زوجة أخيه، رُغم علمه بعدم جواز فعلته، بقطع رأس يوحنا المعمدان من أجل نيل رضا ابنتها السامي؟ ألم يتم تقديم رأس النبي يوحنا على طبقٍ لسالومي من أجل رقصة ماجنة نالت استحسان الملك الخارج على الناموس والفطرة؟
ولماذا دُفِنَ جذع الحسين في العراق، بينما طافت رأسه من كربلاء إلى عسقلان، ثم إلى المشهد القاهري بين خان الخليلي والجامع الأزهر؟ في اعتقادي أنها لم تكن تتجوّل بين بقاع العالم الإسلامي لتنال بركة الحكّام هناك، أو لتمنح زوّار العتبات بركتها. لا بركة لرأس مقطوع على أيِّ حال.
سلوا التاريخ عن الرؤوس التي حملتها الرماح، والرؤوس التي داستها الخيل، والرؤوس التي ارتطمت بجَدرِ السجون حتى تلفظ أسرارها الأخيرة. سلوا التاريخ عن شهداء الحروب الذين لم يُخَلّ قياصرة العنف وأباطرته بينهم وبين الصوامع والمساجد والبيع والصلوات. سلوا التاريخ عن ستة عشر مليون نسمة قضوا في الحرب العالمية الأولى. فتّشوا أزقّة التاريخ، واحصوا مَن فُصِلَت منه رأسه ومَن بقيت بين كتفيه من دون فائدة تُذكر.
سلوا التاريخ عن ستين مليون قتيل سالت دماؤهم في الحرب الكونية الثانية من أجل إرضاء غرور وغطرسة حفنة من الجنرالات الذي لا يأبهون إلّا بالنجوم المُرصّعة فوق أكتافهم. سلوا التاريخ عن قتلى التتار والمغول والحروب التى اتّخذت ذريعة دينية كالحروب الصليبية حتى توفروا شهقاتكم اللعينة على رجل فقد رأسه على قارعة رصيف لم يشعر فوقه يوما بالأمان.
لا أُريدُ أن أُقلّل هنا من بشاعة الجرم، فليس أشدّ وأنكى عند الله من إسالة الدماء التى حرَّم، لكنني أُريدُ القول أننا دمويون بالفطرة، وأن القِيَمَ التي كانت تحفظ ما تبقّى لنا من آدمية قد بدأت التحلّل، ليس بسبب محمد رمضان والسبكي وحدهما، حيث أن الجريمة المُستَورَدة صارت أقرب إلى مخادع شبابنا من الجرائم التي تُصنَعُ في مصر، وأكاد أجزم أن محمد رمضان والسبكي بريئان براءة إخوة يوسف من دمه. الخيبة أكبر أيها الطيّبون وأعظم من أن نُلصِقها زوراً وبهتاناً بهذين الإسمين، فما أراهما إلّا دُمية لا حول لها في يدِ مَن يُريدُ إهلاك الحرث والنسل، وللحديث بقية.
- عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com