مؤتمرُ الأردن: أيُّ مَسار؟
الدكتور ناصيف حتّي*
يَستَضِيفُ الأردن اليوم الثلاثاء (20/12/2022) الدورة الثانية لمؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي انعَقَدَ المرّة الأولى في ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠٢١ في بغداد. وقد هَدَفَ المؤتمر منذ انطلاقته إلى بَلوَرَةِ مَسارٍ تشاوُريٍّ وتَعاوُنيٍّ يكونُ أساسًا بمثابةِ إطارٍ للحوار بين اصدقاءٍ وخصوم. وقد يتحوَّل مع الوقت إلى مُنتدى حواري، إذا ما أَخَذَ طابعًا مُؤَسَسيًّا ولو مُخَفَّفًا وبشكلٍ تدريجي. الهَدَفُ أن يَنعقِدَ المؤتمر بشكلٍ دوريٍّ لتناوُلِ مُختلَفِ القضايا من تعاوُنيّة وخِلافيّة التي تَعني أعضاءه بغية العَملِ على تسويتها، أو في أضعفِ الاحتمالات إحتوائها ومنعها من التاثير السلبي في الأوجه الأُخرى للعلاقات، والعمل على البناء على ما هو مُشتَرَك من مصالح.
وقد لعبت فرنسا، الدولة الوحيدة المُشارِكة من خارج الإقليم، دورًا أساسيًّا في بَلوَرَةِ هذا المشروع عبر علاقاتها مع مختلف الدول الأعضاء. كما نجحت فرنسا في حثِّ الدول الأعضاء على عقد هذا الاجتماع قبل نهاية العام لخَلقِ تقليدٍ حول دورية الاجتماعات السنوية لهذا المنتدى، الأمر الذي يُعطيه ديناميةً ومصداقيّةً أكبر في بداية انطلاقه. والهدف من ذلك أن لا يصبح هذا الإطار، أو المنتدى المنشود، أسيرًا للحظةِ تَوَتُّرٍ في العلاقات بين بعض أطرافه تمنعُ انعقاده، وتُصيب مصداقيته. والجدير بالذكر أن حصولَ توتّرٍ بين بعض أطرافه يَفتَرِضُ أن يدفعَ نحو انعقاده بغية توفير الفرصة الضرورية لديبلوماسية التسوية أو الاحتواء للخلاف ومحاصرته. وتاتي الفكرة أساسًا من مؤتمر هلسنكي لعام ١٩٧٥ في خضم الحرب الباردة الذي أدّى إلى إطلاقِ مَسَارٍ عُرِفَ ب”مَسَارِ هلسنكي”، وبالتالي إلى تأسيس مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي تَحَوَّلَ إلى مُنظَّمة لاحقًا .
نُذكّرُ بهذا الأمر، وقد أشرنا إليهِ في مقالةٍ سابقة، للتأكيدِ على ما يُواجِهُ هذا المَسَارُ الفَتِيّ، إذا ما انطلق، من تحدّياتٍ في لحظةٍ تحكمها كافة أنواع الخلافات والصراعات المُتداخِلة والمُترابطة في الشرق الاوسط. وللتذكير فإنّ الدول العشر التالية هي أعضاء في هذا المؤتمر: العراق، مصر، الأردن، السعودية، الكويت، الامارات العربية المتحدة، قطر، ايران، تركيا وفرنسا .
بدون شكّ، سيكون المؤشّر الأول على مدى أهمّية هذا المؤتمر مستوى المشاركة الذي يُفترَض أن يكونَ على مستوى القمّة، ولو أنه من الصعب جدًّا توفير هذا الأمر بشكلٍ واسع. مستوى المشاركة هو أحد المؤشّرات الأساسية حول درجة الأهمّية التي تُعلّقها الدولة المَعنية على المؤتمر وعلى المسار الذي يندرج في سياقه، وهو أيضًا إحدى الرسائل التي قد يُوَجّهها طرفٌ أو آخر حول احتمال رفع مستوى مشاركته مُستَقبلًا إذا ما تحققت شروطٌ يُريدُ الحصول عليها أو انتزاعها من طَرَفٍ أو أطرافٍ أُخرى.
إلى جانبِ توفيرِ الإطارِ المُتعدّد الأطراف لتناولِ القضايا الأساسية التي تَعني الجميع في الإقليم، وخصوصًا النقاط الساخنة، فإنَّ مؤتمرًا من هذا النوع حتى يتحوّل إلى مسارٍ مُستقِرٍّ للتشاور والتداول والحوار، كما أشرنا سابقًا، ضمن أيّ صيغة عملية أوّلية يتم الاتفاق عليها، يُفترَض أن ينبثقَ عنه ما يلي:
أوّلًا، التأكيد على جعله لقاءً دوريًا سنويًا، ما يُعطيهِ طابعًا مؤسَّسيًّا ولو بشكلٍ مُخَفَّف، ولكن يمنحه ذلك الجدّية والمصداقية والحدّ الأدنى من الفعالية الضرورية والمطلوبة.
ثانيًا، تشكيلُ مجموعة عمل من مُتخصّصين يُمثّلون الدول الأطراف لبلورة مُقترحاتٍ تتضمّنُ الاتفاق على معايير وقواعد ومبادئ تُحدّدُ كيفيةَ إدارةِ العلاقات بين الدول الأطراف، والتعاملَ مع الخلافات وسُبُلِ احتوائها أو إدارتها. تُطرَحُ هذه المقترحات بعد ذلك على المؤتمر في دورته المقبلة لمناقشتها واعتمادها، إذا ما تمَّ الاتفاق بشانها كمدوّنة سلوك تُنظّم العلاقات بين اعضائه.
ثالثًا، التفكيرُ في توسيع المؤتمر مُستَقبلًا وبشكلٍ تدريجي ليضمّ دولًا عربية أخرى وأطرافًا دولية أيًّا كانت الصيغة التي قد تُعطى لمشاركة الأطراف الدولية في حينه.
إنَّ تحقيقَ هذه النقاط التي دُونها الكثير من العوائق والتحدّيات، ولو أنّها غير مُستحيلة، شرطٌ أكثر من ضروري لإقامة نظامٍ إقليمي مُستقر فيه مصلحة أساسية لجميع أطرافه. ذلك هو الشرط الأساسي ليتحقّق الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة، ولاحتواء خلافاتٍ مُستفحلة، وتسوية خلافاتٍ أُخرى هي في طبيعة العلاقات بين الدول وذلك لما فية مصلحة الجميع.
فهل يُطلِقُ مؤتمر الأردن هذا المسار عبر توفير هذه الشروط أو بعضها، أو يُهيِّئ لإطلاقه في مرحلةٍ لاحقة إذا كانت ظروف التوافق الأوّلي لم تنضج بعد؟
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).