سر المصرفيين القذر في برلين

لندن – محمد سليم

لماذا تحاول ألمانيا بجدٍّ وحزم وقف البنك المركزي الأوروبي من إعطاء منطقة اليورو حقنة إنتعاش بتريليون يورو؟ ولماذا تطالب برلين بتنفيذ التقشف المالي على اليونان بدلاً من ذلك؟ ولماذا، على الرغم من متاعب أثينا والنفاق المزعوم، تصرّ ألمانيا على بقاء اليونان في منطقة اليورو؟ هذه الإجراءات قد تبدو غير منطقية ومتناقضة، ولكن الأشخاص عينهم يستفيدون في كل حالة.
أولاً، أنظر إلى التاريخ الإقتصادي الحديث في ألمانيا. في العام 1990، أضافت إعادة توحيد الشرق والغرب عدداً هائلاً من السكان الإلمان ذوي الأجور المتدنية الداعمين للعمالة. على الرغم من أن إدماجهم في بيئة الأعمال في الغرب إستغرق وقتاً، فإن هذه الملايين من العمال الجدد في سوق العمل جعلت على الفور الصادرات الألمانية أكثر قدرة على المنافسة. ثم، مع إطلاق اليورو في العام 1999، ألغت ألمانيا عملتها – من بين الأقوى في العالم – من طريق مزجها ودمجها مع تلك الإقتصادات الأقل إستقراراً في أنحاء الإتحاد الأوروبي. مرة أخرى، كان التأثير دفعة قوية للصادرات الألمانية.
ربما كان من المتوقع أن يستفيد كلٌّ من العمال وأصحاب رؤوس الأموال في ألمانيا من هذه التحوّلات الدراماتيكية في الوضع الإقتصادي الإلماني. بالنسبة إلى العاملين في الشرق الأفقر، كان من المؤكد إرتفاع الأجور، وهكذا حدث. وقد يكون العمال في الغرب قد عانوا مقارنة، ولكن طفرة الصادرات – التي إنتقلت من 23 في المئة من الإقتصاد في العام 1990 إلى 42 في المئة في العام 2010 – ينبغي أن تكون كبيرة بما يكفي لزيادة مداخيلهم كذلك.
في الواقع، في العقد الأول، إرتفع الدخل بالنسبة إلى الألمان من أعلى إلى أسفل على السلّم الاقتصادي بين 7 إلى 8 في المئة من حيث القيمة الحقيقية. ولكن مع ظهور اليورو، بدأت الأمور تتغيّر. تابع الدخل في أعلى السلم بالإرتفاع، وإستمرّت مكاسب ال10 في المئة من أعلى فئة من العاملين على قدم وساق للعقد المقبل، حيث حصد المساهمون أرباحاً قياسية. في الجزء السفلي، مع ذلك، كان هناك تراجع حاد ترك في نهاية المطاف الدخل بالضبط حيث بدأ في بداية تسعينات القرن الفائت.
كان الأثر المترتّب على عدم المساواة مذهلاً. في حد ذاته، كان يجب على التكامل بين الشرق والغرب أن يخفّض عدم المساواة في ألمانيا إلى حد كبير. في بلد حيث العمّال يتمتعون ببعض القدرة على المساومة، ربما كان من المتوقع إزدهار الصادرات لتشجيع هذا التقارب أيضاً. ولكن حتى الألمان في الجزء العلوي من توزيع الدخل رأوا أن مثل هذا التحسن في ثرواتهم قد رفع عدم المساواة في الواقع. مع إستمرار تباعد الدخل، كان التفاوت في الثروة في ألمانيا هو الاسوأ في منطقة اليورو وتقريباً على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، الذي لا يعتبر نتيجة جيدة.
مع كل هذا في الإعتبار، دعونا العودة إلى السياسة. كانت منطقة اليورو تترنّح على حافة الإنكماش لأشهر عدة، وكان معدّل التضخم حتى في ألمانيا أقل من المستهدف من قبل البنك المركزي الأوروبي، وهو أقل من 2 في المئة منذ آب (أغسطس) 2013. ولكن المصرفيين والسياسيين الألمان تصلّبوا ضد إستخدام التسهيل الإئتماني أو غيره من الأدوات النقدية غير التقليدية لخلق التضخم، وتخفيض قيمة اليورو، وتحسين النمو الإقتصادي على المدى القصير في منطقة اليورو.
بدلاً من ذلك، قرروا أن البلدان التي هي بحاجة إلى حقنة في شريان الحياة الإقتصادية – مثل اليونان – يجب أن تتابع إجراء تخفيضات هائلة في الخدمات العامة في الوقت الذي تقوم بخدمة الديون وفق الشروط التي حدّدتها الدول الغنية مثل ألمانيا. بالنسبة إلى معظم الإقتصاديين، كان هذا القرار وصفة غير عملية من شأنها أن تجعل فقط المريض يعاني أكثر من ذلك. إذن لماذا أصرّ الألمان على ذلك؟
أدرك المصرفيون في برلين أن التضخم يأكل قيمة المدّخرات، التي يملك منها الأثرياء الألمان الكثير جداً، ويجعل أيضاً الإستثمار في ألمانيا أقل جاذبية للأجانب. طالما واصلت ألمانيا نموها، فهي ليست بحاجة إلى التضخم. في الواقع، إن النمو مع إنخفاض التضخم – وبالتالي ضغط صعودي بسيط على الأجور — كان صيغة مثالية، وخصوصاً لأصحاب رؤوس الأموال. وقد يكون الألمان المثقلون بالديون والعاطلون من العمل إستفادوا من ضعف اليورو والمزيد من التضخم، تماماً مثل اليونانيين، لكنهم بشكل واضح لم يكونوا أولوية قصوى بالنسبة إلى المصرفيين.
وألمانيا نمت، على الأقل حتى أواخر العام الفائت. بحلول الربع الرابع من 2014، كان إقتصادها على شفا الركود. ليس من قبيل المصادفة، عندما إجتمع حكام البنك المركزي الأوروبي في كانون الثاني (يناير) الفائت، رضخ المصرفيون والسياسيون في ألمانيا في نهاية المطاف – أو على الأقل فشلوا في إقناع زملائهم من المخاطر المتبقية من التضخم. الآن، لقد برز تحدّ جديد.
اليونان قبلت خدعة ألمانيا وسارت فيها. قبل بضع سنوات، أراد الألمان من اليونان البقاء في منطقة اليورو لمدة كافية لإنقاذها من العجز المالي، ولكن التكلفة كانت بؤساً بالنسبة إلى اليونانيين. في ذلك الوقت، بدا أن لدى ألمانيا كل القوة التفاوضية. ولكن الحكومة اليسارية الجديدة في اليونان قد أدركت على ما يبدو أن القدرة على المساومة الحقيقية تكمن في أثينا، لأن ألمانيا سوف تفعل أي شيء الآن للحفاظ على منطقة اليورو معاً.
الألمان قد قرأوا الكثير من المقالات التي تزعم أنه لم يكن يجب أن يُسمح لأثينا الإنضمام إلى منطقة اليورو في المقام الأول. لكن المصرفيين في برلين يعلمون أن كل بلد ضعيف يترك منطقة اليورو الآن من المرجح أن يرفع قيمة اليورو. وهذا من شأنه زيادة قيمة المدّخرات الألمانية، ولكنه سيضرّ أيضاً بالصادرات، في الوقت الذي تحتاج إليها ألمانيا أكثر من أي وقت مضى. وعلاوة على ذلك، إن عدم اليقين بشأن اليورو على المدى القصير قد يدفع بالمستثمرين إلى سحب أموالهم من الأوراق المالية الألمانية، ما يؤدي إلى إنخفاض قيم الأصول وإرتفاع أسعار الفائدة – وهي ضربة مزدوجة للثروة والنمو الإقتصادي.
اليوم، هذه المجموعة من التهديدات غير مقبولة من ألمانيا. فيما تغيّر معدل نموها، كذلك تغيرت معه أولويات المصرفيين، ونتيجة لذلك، فقد تحوّل ميزان القوى في منطقة اليورو. لقد أدرك اليونان الأمر، وبلدان أخرى مسرورة لذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى