هل العراق على شفا حربٍ أهلية جديدة؟
الأزمةُ الحالية في العراق باقية إلى أن يتوصّلَ القادة العراقيون إلى حلٍّ وسط في ما بينهم. سيكون التحدّي في المدى القصير هو منع هذا الاضطراب السياسي من التحوّل إلى حربٍ أهلية شاملة.
رندا سليم*
اقترب العراق قبل حوالي الأسبوعين من الوقوع في حربٍ أهلية، لكنه تراجع عن حافة الهاوية في اللحظة الأخيرة. في 29 آب (أغسطس)، اندلع قتالٌ في الشوارع بين أتباع رجل الدين الشيعي العراقي والزعيم السياسي السيّد مقتدى الصدر وأتباع “الإطار التنسيقي” المُتحالِف مع إيران، بعد أن أعلن الصدر “انسحابه النهائي” من السياسة وحل تيّاره وإغلاق غالبية المؤسسات الصدرية. كما أعلن أنه لن يُملي بعد الآن أفعالًا على مؤيديه، الذين فسّروا إعلانه على أنه ضوءٌ أخضر لاقتحام المنطقة الخضراء في بغداد، بما في ذلك القصر الرئاسي ومقر الحكومة والبرلمان. وقد قوبلوا بردٍّ قوي من قبل عناصر ميليشيات “الإطار التنسيقي” المسلحة، ما أسفر عن مواجهة مسلحة بين الفصيلين المتنافسين، أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة المئات. لقد أمضى العراقيون مساء يوم 29 آب (أغسطس) قلقين حيث انتابهم شعورٌ في أن البلاد كانت تنحدر إلى حرب أهلية شيعية-شيعية.
في اليوم التالي، عقد الصدر مؤتمرًا صحافيًا نأى خلاله بنفسه عن العنف لكنه دعا أتباعه إلى الانسحاب فورًا من المنطقة الخضراء، وهو ما فعلوه على الفور. من المحتمل أن يكون قرارُ الصدر بالتراجع عن حافة الحرب مدفوعًا بشكلٍ رئيس بتدخّل مكتب آية الله العظمى علي السيستاني، الذي دعاه وخصومه إلى وقف العنف. على الرغم من الاشتباكات العرضية بين المعسكرات المتناحرة في بغداد وبعض المحافظات الجنوبية منذ المؤتمر الصحافي للصدر، إلّا أن الوضع الأمني في البلاد استقر إلى حدٍّ ما. هناك اتفاقٌ ضمني بين القادة العراقيين على إبقاء الأمور هادئة نسبيًا على الأقل حتى “زيارة الأربعين”، في 16 أيلول (سبتمبر)، عندما يشارك ملايين الشيعة من جميع أنحاء العالم في زيارة، حيث يسافرون 50 ميلًا بين المدينتين المقدستين النجف وكربلاء.
اجتذب العنف الطائفي في العراق انتباه الولايات المتحدة. في 31 آب (أغسطس)، اتصل الرئيس الأميركي جو بايدن برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، داعيًا جميع الأطراف العراقية إلى اللجوء إلى الحوار لحل خلافاتهم. وأعقبت ذلك زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف إلى بغداد وإربيل في 5 أيلول (سبتمبر) استغرقت أيامًا عدة، والتي نقلت خلالها الرسالة نفسها. إن مدى تأثير هذه الزيارة المفاجئة في المصالح الأميركية في المسار السياسي على الأرض في العراق غير مؤكد. يتم تحديد الأحداث بشكل أساسي من خلال حسابات التكلفة والفوائد للجهات الفاعلة المحلية ولا تتأثر بسهولة بالتدخلات الخارجية – لا سيما من قبل الولايات المتحدة، التي كانت غائبة من الناحية السياسية في العراق.
كما سعت إيران بدورها للتوسط في محاولةٍ لتجريد الصدر من شرعيته الدينية من خلال تدخل آية الله كاظم الحائري. في 29 آب (أغسطس)، بينما أعلن بشكل غير مسبوق عن اعتزاله منصبًا دينيًا بسبب تقدّمه في السن، انتقد الحائري بشدة تصرفات الصدر، ما دفع الأخير إلى الانسحاب علنًا من السياسة. قبل اغتياله في العام 1999، عيّن السيّد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، الحائري، الذي يقيم في إيران منذ السبعينات الفائتة، خلفًا دينيًا له، وبالتالي، المرجع الديني للصدر الإبن نفسه ومجموعة كبيرة من الصدريين. وألمح الصدر في بيان انسحابه إلى أنه يعتقد أن تصريحات الحائري وقرار التنحي اتُّخِذا بضغطٍ من الحكومة الإيرانية. في حين أن لطهران بصمة كبيرة في العراق، فإن الأزمة السياسية الحالية بين الشيعة العراقيين أجبرت الجمهورية الإسلامية على القبول بحقيقة أن هناك حدودًا لقدرتها على السيطرة على جارتها العربية. ويبقى هدف إيران الأقصى هو ضمان جبهة شيعية موحدة داخل العراق. لكن “تمرد” الصدر يمثل تحدّيًا يصعب احتواؤه.
في غضون ذلك، عقد رئيس الوزراء العراقي الكاظمي جلستَي حوار حضرهما رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وقادة الفصائل السياسية الكبرى. لكن الصدر قاطع الجلستين. ومع ذلك، في الجلسة الثانية، في 5 أيلول (سبتمبر)، اتفق المشاركون على تشكيل لجنة تقنية من شأنها وضع خارطة طريق لإجراء انتخاباتٍ مبكرة (مطلب صدري)، وصياغة مُقترحاتٍ بشأن إصلاح قانون الانتخابات ولجنة الانتخابات المستقلة العليا (على النحو الذي دعا إليه الإطار التنسيقي).
إلى أين يتّجه العراق؟ في الوقت الحالي، لا يزال المناخ السياسي متوتّرًا، مع استعداد كلا الجانبين المتنافسين للجوء مرة أخرى إلى السلاح. ينظرُ كلٌّ منهما إلى هذا الصراع من منظورٍ وجودي وشروطٍ محصلتها صفر، ويعتقد كلُّ طرف أنه قد ربح المواجهة الأخيرة. كلاهما عالقٌ الآن في طريق مسدود، حيث لا يستطيع أيٌّ من الطرفين فرض حلٍّ لإنهاء الصراع السياسي.
إستعراضُ القوّة الذي قام به الصدر، وجلب مئات الآلاف إلى الشوارع وسحبهم عندما أراد وفورًا، لم يكن مؤشرًا إلى حجم أتباعه وولائهم الأعمى فحسب، بل كان أيضًا مؤشرًا إلى قيادته وسيطرته عليهم. في المقابل، أثبتت قوات الإطار التنسيقي المسلحة استعدادها للرد باستخدام كل الوسائل المتاحة لها – شبه العسكرية و/ أو القانونية. في ما يتعلق بالأخيرة، فإن حُكمَ 2 آب (أغسطس) الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا في العراق، والذي ينصّ على أن النصابَ القانوني لانتخابِ الرئيس يتطلب ثلثي إجمالي عدد أعضاء البرلمان، يُشيرُ بشكلٍ خاص إلى احتمال وجود تواطؤٍ بين رئيس المحكمة الاتحادية العليا والإطار التنسيقي. لقد جعل هذا القرار القضائي من الصعب من الناحية الفنية اختيار رئيس دولة، وبالتالي على الصدر وحلفائه السنة والأكراد تشكيل حكومة أغلبية حيث أن الرئيس دستوريًا هو الذي مَن يُعيِّن رئيسًا للوزراء.
في 7 أيلول (سبتمبر)، أصدرت المحكمة الإتحادية العليا حكمها في قضيةٍ رفعها الصدريون لحلّ المجلس النيابي، حيث أعلنت أن حل مجلس النواب هو في أيدي النواب ووَبّخت المشرّعين بشدة لوضعهم مصالحهم ومصالح أحزابهم السياسية فوق مصالح الشعب الذي انتُخِبوا لتمثيله. وهذا يعني أنه من غير المُرجَّح حلّ المأزق السياسي الحالي من خلال تدخّل قضائي.
من الآن فصاعدًا، من المحتمل أن تشهد فترة ما بعد “زيارة الأربعين” زيادةً في العنف الطائفي، بما في ذلك حملة اغتيالات مُتَبادَلة لتصفيةِ حساباتٍ قديمة بالإضافة إلى زيادة التكاليف التي يتحمّلها الخصوم للاستمرار في هذا المأزق.
ما إذا كان رئيس الوزراء الكاظمي قادرًا على الوصول بالحوار إلى خاتمة ناجحة أمرٌ قابل للنقاش. ما لم يوافق الصدر على الانضمام إلى المحادثات، فلن يصل هذا الحوار إلى أي نتيجة. وحتى الآن، يبدو أنه رافضٌ للانضمام. في الوقت نفسه، فإن استراتيجية الصدر لرفض أي حوار مع خصومه ما لم يوافقوا على مطالبه –إذا كانت هذه بالفعل استراتيجية وليست مجرد سلسلة من القرارات العاطفية والغريزية من جانبه– ستبدأ في مرحلةٍ ما إظهار عوائد مُتضائلة.
من ناحية أخرى، أثبتت المرجعية، وهي هيئة المرجعيات الدينية الشيعية العليا، في مناسبات عديدة عدم استعدادها للتوسط في النزاعات السياسية. فقط عندما تهدد مثل هذه النزاعات السلم الأهلي، تدخل رجال الدين هؤلاء وتمكنوا من إجبار جميع الأطراف على الابتعاد من حافة الهاوية. ومع ذلك، لا يوجد وسيطٌ خارجي يحظى باحترامٍ متساوٍ قد يكون قادرًا على التدخّل وتوجيه الخصوم نحو حلٍّ وسط. وبالتالي، فإن الأزمة الحالية باقية إلى أن يتوصل القادة العراقيون إلى حلٍّ وسط في ما بينهم. سيكون التحدّي في المدى القصير هو منع هذا الاضطراب السياسي من التحوّلِ إلى حرب أهلية شاملة.
- رندا سليم هي زميلة أولى ومديرة حل النزاعات وبرنامج حوارات المسار الثاني في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. الآراء الواردة في هذا المقال هي آراؤها الخاصة. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @rmslim
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.