“إسبارطة” الشرق الأوسط: كَيفَ تُخَطّطُ دولة الإمارات العربية المتحدة لصعودها؟

ينبغي على دولة الإمارات العربية المتحدة القبول أنه بغضِّ النظر عن مدى قوّتها ونفوذها، فإنها ستظل دائمًا مُحاصَرة من قبل إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا. كما لن تتمكن الإمارات السبع الهروب من قيودها المادية، ولن يتمكّن شركاؤها الخارجيون -مهما تعهّدوا بتقديم الدعم- من حماية البلاد إلى ما لا نهاية.

إتفاقات أبراهام: حرب غزة هزتها ولكن لم توقف مفاعيلها بعد…

نيل كويليام وسَنام فاكيل*

لفترةٍ طويلة، كانت دولةُ الإمارات العربية المتحدة مَعروفةً في الغالب بسوقِ عقاراتٍ مُزدهرة تارةً وكاسدة طورًا، وببَريقِ دبي الاستهلاكي، وموارد النفط الهائلة. لكن على مدى العقدَين الماضيين، شهدت سمعتها تحوّلًا جذريًا. في عهد الشيخ محمد بن زايد، أنفقت الإمارات مليارات الدولارات على بناءِ وتحديث جيشها، لتُصبِحَ ما أَطلقَ عليه وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس “إسبرطة الصغيرة”. كما جعلت نفسها المركز المالي في الشرق الأوسط. وقد أقامت البلادُ علاقاتَ عملٍ مع كلِّ الجهات الفاعلة في المنطقة تقريبًا، بما فيها إسرائيل، فضلًا عن كلِّ القوى العالمية، وخصوصًا الولايات المتحدة.

لدى دولة الإمارات طموحاتٌ واضحة: فبدلًا من أن تكون في المقام الأول لاعبًا إقليميًا، تُريدُ أن تكون مثل سنغافورة، حيث تنشرُ قوةً عالمية واقتصادية لا تتناسب بشكلٍ كبير مع حجمها وتساعد في تعويض ضعفها الجغرافي. ولتحقيقِ هذه الغاية، أبرمت البلاد صفقاتٍ تجارية جديدة، واستثمرت في مشاريع خارجية، وحوَّلت نفسها إلى وجهةٍ سياحية ومركزٍ للنقل والخدمات اللوجستية.

إذا حققت دولة الإمارات طموحاتها، فقد يضطر المُحَلِّلون الذين يبحثون عن مُقارنة مُناسِبة إلى النظر إلى عائلة “ميديشي” (the Medicis)، الأسرة الحاكمة التي حكمت فلورنسا من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر. لم تكن عائلة “ميديشي” تحكم الكثير من الأراضي ولم تكن قط في مركز الصراعات في أوروبا. لكنَّ العائلة أصبحت لاعبًا رئيسًا من خلال استخدام التجارة والخدمات المصرفية للتأثير على الإمبراطوريات الأكبر في جوارها. لقد أقامت تحالفًا دائمًا مع فرنسا، وحافظت على علاقاتٍ ديبلوماسية قوية مع إنكلترا، وعزّزت العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة. أصبحت فلورنسا نقطةً محورية للنشاط الاقتصادي والاكتشاف العلمي والإنجازات الثقافية، بما فيها تمويل المخترع غاليليو والفنان مايكل أنجلو.

تجلبُ دولة الإمارات الكثير من المزايا لهذا الجهد: سكّانها مُتعلِمون ومُثَقَّفون جيدًا، وموقعها في منتصف الطريق بين أكبر الاقتصادات في العالم، واحتياطاتها من النفط والغاز كبيرة، وتملك ثروةً غريبة. ولديها نموذجُ حُكمٍ علماني، وعلى عكس جيرانها، فهي مُتسامحة نسبيًا مع الأديان المختلفة. والإمارات جُزءٌ من رؤية الرئيس الأميركي جو بايدن لممرٍّ اقتصادي في الشرق الأوسط يربط بين الهند وأوروبا. وتتمتّع البلاد بعلاقاتٍ قوية مع القوى المتوسطة الناشئة الأخرى، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا، وذلك بفضل استثماراتها في أسواقها. بل إنها قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، الخصم التاريخي. وعلى الرُغم من هجوم “حماس” والاحتجاجات الشعبية ضد الحرب في غزة، فإنَّ إسرائيل والإمارات ما زالتا تحافظان على علاقات اقتصادية وديبلوماسية.

ومع ذلك، فإنَّ الإمارات مُقَيَّدة في سعيها إلى النفوذ والسلطة. فهي تعتَمِدُ اعتمادًا كبيرًا على النفط، وتواجه ضغوطًا لإزالة الكربون بسرعة. ويَتَعيّنُ عليها أن تعملَ على درء خطر التطرّف الإسلامي وعدم الاستقرار الإقليمي. ولديها نزاعٌ إقليمي طويل الأمد مع إيران (التي تحتل ثلاث جُزرٍ إماراتية)، والتي هاجم وكلاؤها البلاد. وهي تواجه منافسة شديدة من جارتها قطر، التي تشترك معها في العديد من الميزات، وتحدّيًا أكبر من المملكة العربية السعودية. تُحاولُ الرياض أيضًا، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أن تُصبِحَ صاحبة الثقل السياسي والاقتصادي والطاقة في الشرق الأوسط. وتقومُ باستثماراتٍ تهدفُ إلى تنويعِ الاقتصاد وجعل السوق السعودية أكثر جاذبيةً للدول والشركات الأجنبية. ومن الممكن أن يُؤثّرَ العديدُ من هذه السياسات الاقتصادية سلبًا في مكانة الإمارات وطموحاتها.

وبطبيعةِ الحال، أصبحت عائلة “ميديشي” قوية وظلّت قوية على الرُغمِ من المنافسة من الدول الأكبر. وسمحت لها ثروتها وخبرتها الاقتصادية ونفوذها السياسي بالتنقّل في السياسة الدولية وإقامة علاقات مع الشخصيات والحكّام المؤثّرين في جميع أنحاء أوروبا. لكن النفوذ السياسي لعائلة ميديشي تراجع مع اقتتال أفراد الأسرة في ما بينهم، الأمر الذي سهّلَ على القوى الخارجية إضعاف الدولة. وفي نهاية المطاف، في العام 1737، توفي آخر حاكم من آل ميديشي بدون وريث ذكر، وانتهت بذلك السلالة.

من الممكن أن تواجه الإمارات صعوبات مُماثلة. وبما أنها تحكمها عائلة أيضًا، فقد يواجه قادة المستقبل منافسة من إخوانهم وأعمامهم وأبناء عمومتهم. إذا توفي رئيسٌ بدون تسميةِ خليفةٍ واضحٍ له، فإنَّ مثل هذا الاقتتال الداخلي يمكن أن يسحب الإمارات في اتجاهات مُتعدّدة. ويمكن بعد ذلك للدول الإقليمية “المُفتَرِسة” الاستفادة من الخَلَلِ الوظيفي الذي تعانيه البلاد، واستخدامه لإزاحة الإمارات عن مكانتها كزعيمة في الشرق الأوسط.

ومن المُمكن أن تكونَ دولةُ الإمارات هي مصدرَ التراجع الخاص بها. إنَّ سياستها الخارجية المستقلة، المُصَمَّمة لحمايتها من الاضطرابات العالمية، كثيرًا ما تضعها في خلافٍ مع جيرانها والولايات المتحدة. لقد دعمت الحكومة وكلاءً مُتشَدّدين في صراعاتٍ خارجية، ما أدّى إلى نشرِ عدم الاستقرار. ومن الممكن أن تفشلَ جهودُ البلاد لتنويع الاقتصاد بعيدًا من النفط، ما يؤدي إلى ذلك النوع من الركود الذي يُعرّض القادة للانتقادات من الداخل.

في الوقت الحالي، لا يبدو أنَّ دولةَ الإمارات مُعَرَّضة لأيِّ خطرٍ في مواجهة الاضطرابات الهائلة التي أطاحت سلالة “ميديشي”. لقد حرص الشيخ محمد بن زايد على تماسك الأسرة معًا، وحكم جنبًا إلى جنب مع إخوته الخمسة الأشقاء في نظامٍ قائم على الإجماع. وقد اتفق الإخوة الستة بالفعل على أنَّ نجلَ الشيخ محمد بن زايد، الشيخ خالد بن محمد، سيكون خليفة له، ما يضمن على الأرجح انتقالًا سلسًا للسلطة. وطالما ظلت الأسرة مُوَحَّدة وتحكم بكفاءة، فلا بدَّ أن تتمتع البلاد بالقدرة على تحقيق ما يفوق ثقلها.

في المدى القريب، يمكن لدولة الإمارات القوية أن تساعد الغرب. أصبحت الإمارات والولايات المتحدة شريكتين منذ فترة طويلة، وإذا استمرت واشنطن في تعزيز أمن الإمارات، فإن الإمارات ستساعد في الغالب على تعزيز المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. لكن في المدى الطويل، فإن دولة الإمارات القوية قد لا تفيد أحدًا باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة. فالبلادُ طرفٌ فاعلٌ في المعاملات الدولية، وبالتالي فإنها سوف تُغيِّرُ ولاءاتها بمجرد أن يميلَ ميزان القوى العالمي لصالح آسيا. فالإمارات، في نهاية المطاف، لا تتبع نظامًا ديموقراطيًا، وهي ليست متحالفة بشكلٍ طبيعي مع الغرب. فقد قامت ببناء علاقات مع الصين وحافظت على علاقاتها مع روسيا، حيث رحّبت بسعادة برئيسها في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ “كوب 28”. تريد دولة الإمارات استخدام القوى الخارجية كما ترى الأمرَ مناسبًا، وبالتالي لا يمكن لأي قوة خارجية –وعلى رأسها الولايات المتحدة– الاعتماد عليها لتكون بمثابة وكيلٍ في الشرق الأوسط.

من بين الكثير

نشأت دولة الإمارات العربية المتحدة رسميًا في العام 1971، بعد إعلان المملكة المتحدة انسحابها من شرق مدينة السويس المصرية في العام 1968. وقام والد الشيخ محمد بن زايد، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم أبو ظبي، بدمج أبو ظبي مع دبي وخمس إمارات أخرى وأصبح أول رئيس للبلاد الناتجة. وتقع الإمارات بين إيران والمملكة العربية السعودية، وقد خضعت على الفور للمنافسة بين جارتيها الأكبر منها. لكن زايد، الذي حكم حتى وفاته في العام 2004، عمل على تحقيق التوازن بين القوتين الثقيلتين، فتعاون مع جيرانه والتزم الحياد أثناء الصراعات، مثل الحرب الإيرانية-العراقية.

صدمت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الحكومة وأجبرت الإمارات على تبنّي مواقف أكثر عدوانية. لقد كانت حقيقة أنَّ اثنين من الخاطفين مواطنان إماراتيان بمثابة صحوة قاسية، وأظهرت أن السلبية سمحت لجهاتٍ فاعلة أخرى -بما في ذلك المتطرفون الإسلاميون- بالعمل داخل حدود الإمارات. ونتيجةً لذلك، بدأت حكومة البلاد العمل على تطهير المجتمع الإماراتي من التأثيرات الإسلامية المتطرفة. وأصدرت قوانين منعت الزعماء الدينيين من مناقشة السياسة، ومنعت الإسلاميين المحافظين أو المتطرّفين المعروفين من نشر موادهم. وتسارعت وتيرة الإصلاحات التعليمية لإصلاح مناهج الدولة بعيدًا من التأثيرات الإسلامية، والتي كانت جارية أصلًا. وتحت ضغطٍ من واشنطن، أنشأت الدولة مجالس بلدية مُنتَخَبة.

وكانت العلاقة مع الولايات المتحدة ذات أهمية جديدة بالنسبة إلى دولة الإمارات، التي رأت أنَّ العلاقات القوية مع أميركا هي ترياقٌ لإدارة التحديات الأمنية الإقليمية. وفي عهد الشيخ محمد بن زايد، الذي كان وزيرًا للدفاع آنذاك، بدأت الإمارات الاستثمار بشكلٍ أكبر في علاقتها مع واشنطن، بما في ذلك من خلال تكثيف القتال إلى جانب القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان. وكانت للانضمام إلى تحالف واشنطن فائدة إضافية تتمثل في منح الجنود الإماراتيين الخبرة العملياتية والبدء في تحويل الإمارات إلى قوة عسكرية قادرة.

بعد عقدٍ من الزمن، ومع اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم العربي، اعتقد الشيخ محمد بن زايد وإخوته وحكومته أن جماعة “الإخوان المسلمين” كانت وراء الاضطرابات، وكانوا يخشون أن يتحدّى الإسلاميون نموذجهم العلماني في الحُكم ويثيرون المعارضة داخل بلادهم. وعندما هزت الاحتجاجات البحرين في شباط (فبراير) 2011، سارعت الإمارات إلى نشر 500 جندي في المنامة. وساعد جنودهم، إلى جانب القوات السعودية، البحرين على قمع المظاهرات. وبقي النظام الملكي في البحرين في مكانه. وفي الداخل، اعتقلت الإمارات أعضاءً ونشطاءً مُرتَبِطين بحزب “الإصلاح”، وهي جماعةٌ إسلامية متطرفة مقرّها الإمارات اتهمتها بتنظيم انقلاب. وصنّفت الحكومة جماعة “الإخوان المسلمين” منظمة إرهابية في العام 2014، ودفعت جميع فلول المنظمة المحلية إلى العمل السري. وبعد فوز محمد مرسي –وهو سياسي من جماعة “الإخوان المسلمين”– بالرئاسة في مصر، أيّدت الإمارات الانقلاب العسكري الذي أطاحه من السلطة.

من جهتها ساعدت مصر على تشكيل تفكير دولة الإمارات بطُرُقٍ أخرى. عندما لم تدافع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الرئيس المصري حسني مبارك –سلف مرسي وحليف الولايات المتحدة منذ فترة طويلة– فيما كان يواجه الإطاحة به، استنتجت الإمارات أن الولايات المتحدة لم تكن ملتزمة بأمن الشرق الأوسط. وقد أصيبت بخيبة أمل أكبر عندما فشل أوباما في فرض خطّه الأحمر السيئ السمعة ضد استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا. لذا، بدأت الإمارات تنويع شراكاتها السياسية، بما في ذلك من طريق إقامة روابط اقتصادية مع الصين. كما بدأت استخدام جيشها لبسط قوّتها الصارمة في جميع أنحاء المنطقة وتقويض الإسلاميين.

ولإبراز مثل هذه القوة، أخذت الإمارات صفحةً من كتاب قواعد اللعبة التي تمارسها إيران. في العام 2012، بدأت الإمارات تدعم الجماعات المسلحة التي كانت تقاتل ضد الإسلاميين في مصر وليبيا والسودان وسوريا وتونس واليمن. كما بدأت تقديم الدعم العسكري والمالي واللوجستي والديبلوماسي لهذه الجماعات. وقد أدت التدخلات إلى إطالة أمد الصراعات في كل بلد من هذه البلدان من خلال جعل الأمر صعبًا على الجماعات الإسلامية، التي كانت صاعدة ذات يوم، مثل فرع جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، لإعادة فرض هيمنتها أو تحدّي الحكومات الإقليمية.

لقد قدّمَ تدخّلها في اليمن في العام 2015 لمحةً توضيحية عن كيفية تنفيذ تدخّلات الإمارات. في ذلك العام، انضمت الإمارات إلى تحالفٍ عربي لمحاربة الحوثيين المدعومين من إيران، بينما دعمت أيضًا الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” وتنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا ب”داعش”)- وكلاهما لهما وجود في اليمن. كما استخدمت الإمارات الحرب الأهلية في اليمن لمواجهة جماعة “الإخوان المسلمين” المحلية ودعم المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، الذي سعى إلى الحكم الذاتي. على مدار الحرب، أدت التوترات بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة المدعومة من السعودية إلى صراعٍ على السلطة إلى سحب الموارد بعيدًا من المعركة الأصلية ضد الحوثيين، الذين يواصلون هيمنتهم في الشمال. مَهّدَ انسحاب الإمارات من اليمن في العام 2020 الطريق لتشكيل حكومة ائتلافية مُعتَرَف بها داخليًا تضم المجلس الانتقالي الجنوبي، وعزّزَ موقع نفوذ الجماعة في جزيرة سقطرى وعلى الساحل الجنوبي. لكن تورّط الإمارات لمدة خمس سنوات ساعد على تفاقم الحرب التي كانت لها، ولا تزال، عواقب إنسانية مدمّرة.

مع ذلك، لا يبدو أنَّ الشيخ محمد بن زايد -الذي أصبح الزعيم الرسمي لدولة الإمارات بعد إصابة شقيقه الأكبر بجلطة دماغية في العام 2014- يشعرُ بقلقٍ بالغ من أنَّ اليمن قد أضرَّ بسمعة بلاده. وهو يعلم أنَّ صنّاعَ القرار السياسي الغربيين وشعوبهم يميلون إلى الخلط بين الإسلام السياسي والجهاد. ومن خلال إطالة أمد الصراعات وإبقاء الأضواء على المنظمات الإسلامية، تمكّنت دولة الإمارات من تسويق خطابٍ يخدم مصالحها الذاتية للقادة الغربيين: مفاده أنها تقف في صفهم ضد التطرف الديني. ومن خلال وضع نفسها كعدو للتطرّف، تمكّنت دولة الإمارات من كسب الدعم الغربي المستمر لتوسيع القوة الإماراتية.

أصدقاءٌ وأعداء

أثارت طموحات دولة الإمارات مُعارضةً داخل منطقتها بشكلٍ خاص. إن تنافسها مع قطر، الإمارة الصغيرة الغنية بالهيدروكربونات، صارخٌ بشكلٍ كبير. لقد أظهر صعودُ قطر المُذهِل إلى الصدارة في التسعينيات الفائتة، في أعقاب التطور السريع لمواردها من الغاز الطبيعي، أن الحُكّامَ المتسامحين مع الإسلام السياسي قادرون أيضًا على توفير نوعية حياة عالية للمواطنين. ومنحت قطر ملاذًا آمنًا لزعماءٍ إسلاميين متطرّفين وعرضت الدعم لجماعات “الإخوان المسلمين”، بما في ذلك قيادات حركة “حماس” السياسية وكبار مسؤولي طالبان.

تصاعدت التوترات بين قطر والإمارات طوال العقد الأول من هذا القرن. لكنها برزت خلال “الربيع العربي”. سحبت الإمارات سفيرها من الدوحة في العام 2014 بسبب دعم قطر لقوى إسلامية. ثم، في العام 2017، شاركت الإمارات مع البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية في حصار قطر، حيث وضعت 13 مطلبًا صارمًا لإزالته. وشملت هذه المطالب إغلاق قناة “الجزيرة” الفضائية (المؤسسة الإخبارية الدولية الرئيسة التي تمولها قطر)، وخفض مستوى العلاقات مع طهران، وإغلاق القاعدة العسكرية التركية التي تستضيفها قطر منذ العام 2016.

اعتقدت الإمارات أنه في مواجهة مثل هذه المقاطعة الإقليمية واسعة النطاق، فإنَّ قطر سوف تستسلم. لكن الإمارات والسعودية بالغتا في تقدير نفوذهما، وجاء الحصار بنتائج عكسية. لقد قدمت تركيا مساعدات غذائية وأرسلت المزيد من الدعم العسكري إلى قطر. كما أرسلت إيران مواد غذائية، وسمحت للخطوط الجوية القطرية باستخدام مجالها الجوي. وواصلت قطر إقامة شراكات اقتصادية جديدة واقتربت أكثر من الولايات المتحدة. وهي اليوم مُحاورٌ مهم بين طهران وواشنطن، وبين إسرائيل و”حماس”. (منذ بدأت الحرب في غزة، على سبيل المثال، ساعدت قطر على التفاوض على إطلاق سراح السجناء الإسرائيليين والفلسطينيين). وفي الوقت نفسه، عانت بقية دول الخليج. وبعد ثلاث سنوات ونصف من العقوبات، أُقنعت السعودية البحرين ومصر والإمارات بإنهاء الحصار، على الرُغم من أن قطر لم تستسلم لمطالبها على ما يبدو.

أظهرَ هذا التحوّل أيضًا أنه حتى المملكة العربية السعودية، الشريكة والصديقة التقليدية للإمارات ليست دائمًا صديقة جيدة. في الواقع، فإن بعض الأولويات الوطنية للسعودية تتعارض بشكل مباشر مع أولويات الإمارات. ويخوض البلدان منافسة اقتصادية وعلمية متصاعدة، بما في ذلك أي دولة خليجية ستُهَيمِن على صناعات السياحة والتجارة واستكشاف الفضاء. كما إنَّهما تتنافسان على تنويع اقتصاداتهما بعيدًا من إنتاج الوقود الأحفوري. وتحاول السعودية بشدة اللحاق بالركب، حيث بدأت السباق 30 عامًا على الأقل بعدَ الإمارات. لكنها حاولت بقوة التغلب على جارتها. ففي العام 2021، على سبيل المثال، أعلنت أن الشركات الدولية المتعاقدة مع الحكومة السعودية سيتعيَّن عليها إنشاء مقرٍّ إقليمي في الرياض بحلول العام 2024 – وهي محاولة واضحة لإقناع الشركات متعددة الجنسيات بنقل مقرها الرئيس في الشرق الأوسط خارج الإمارات.

وقد وجدت الإمارات طُرُقًا للرد. قامت بمواءمة أسبوع عملها مع الأسبوع الغربي. (في المملكة العربية السعودية ومعظم دول الشرق الأوسط، يبدأ أسبوع العمل يوم الأحد). وتستمر في تعزيز التسامح النسبي مع مختلف الأديان، بما في ذلك من خلال فتح كنيسٍ يهودي. حتى أنها بدأت منح الجنسية أو الإقامة الدائمة لبعض المغتربين، وهو امتيازٌ لا يستطيع الأجانب الحصول عليه في دول الخليج الأخرى. ولا تزال دولة الإمارات تتقدّم بفارق كبير على السعودية في جهودها للابتعاد عن الاعتماد على النفط، حتى في الوقت الذي تجتذب السعودية الاهتمام والاستثمار الدوليين لخطط التنويع الخاصة بها.

عملت الإمارات أيضًا على تعزيز شراكتها مع الولايات المتحدة. وعلى الرُغم من أنَّ الإمارات شكّكت في التزامات أميركا بأمنها، خصوصًا بعد توقيع إدارة أوباما على الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 (الذي يعتقد الشيخ محمد بن زايد أنه يضفي الشرعية على سلوك طهران الإقليمي التوسّعي)، إلّا أنَّ واشنطن تظلُّ المُزوِّد الأمني المُفَضَّل لدولة الإمارات. لقد عمل القادة الإماراتيون على بناءِ علاقاتٍ أقوى مع كلٍّ من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وكذلك مع دوائرهما الانتخابية. فقد أنفقوا، على سبيل المثال، الملايين على ممارسة الضغوط من أجل إقامة علاقات أوثق مع جماعات المصالح والمسؤولين الحكوميين السابقين من مختلف الأطياف السياسية. الهدف النهائي لدولة الإمارات هو التوصّل إلى اتفاقيةٍ أمنية ثُنائية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والإمارات من شأنها أن تخلق ضمانات أمنية دائمة وتمنحها حماية أمنية أميركية مباشرة وثابتة. في الوقت الحالي، تتفاوض الإمارات على صفقةٍ، على الرُغم من أنها أقل من الاتفاقية على غرار اتفاقية “الناتو” التي تصوَّرها الشيخ محمد بن زايد، إلّا أنها ستُوَفِّر التعاون الدفاعي إذا حَدَّت الإمارات من تعاونها التكنولوجي والأمني مع الصين. لكن الإمارات والولايات المتحدة لا تزالان مُتباعدتَين، وقد ينتظر الشيخ محمد بن زايد نتائج الانتخابات الأميركية -التي قد يكون فيها الرئيس دونالد ترامب أكثر مساومة- قبل التوقيع على أيِّ شيء.

ومع ذلك، فحتى الضمانة الأمنية القوية من واشنطن لن تتغلّب على الميول الإماراتية للتحوُّط. لا يزال الشيخ محمد بن زايد وإخوته وحكومته يقيمون علاقات أعمق مع خصوم واشنطن، وحتى مع بعض المعارضين التقليديين لدولة الإمارات. لقد سمحت البلاد لشركة هواوي الصينية ببناء شبكتها الخلوية من الجيل الخامس (5G) وحافظت على موقفٍ مُحايد بين روسيا وأوكرانيا، وحافظت على خطِّ اتصالٍ مفتوح مع الكرملين وامتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الحرب. كما سمحت للروس بمواصلة قضاء إجازاتهم في المدن الإماراتية وإيداع أصولهم في البنوك الإماراتية؛ وزادت التجارة الثنائية بين روسيا والإمارات بنسبة 68 في المئة تقريبًا في العام 2022. وبعد أن هاجم وكلاءٌ إيرانيون السفن في الخليج العربي ومنشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019، أرسلت الإمارات أحد قادتها إلى طهران لتهدئة التوترات. ودفعت هذه المناقشات الإمارات إلى تجديد علاقاتها التجارية مع إيران. واليوم، تُعَدُّ دولة الإمارات أكبر شريك تجاري إقليمي للجمهورية الإسلامية.

ولكن، لم يمنع ذلك وكلاء إيران في اليمن من مهاجمة مطار أبو ظبي في كانون الثاني (يناير) 2022. وكانت الضربات بمثابة تذكيرٍ صارخ بأنَّ حتى تخفيف التوترات مع إيران لن يضمن أمن الإمارات. ونتيجةً لذلك جُزئيًا، قامت القيادة الإماراتية في الوقت نفسه ببناء شراكة مع إسرائيل. وفي العام 2020، وقَّعت على اتفاقيات أبراهام، لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لأول مرة في التاريخ. وعلى عكس الأردن، إحدى الدول العربية القليلة الأخرى التي لديها علاقات كاملة مع إسرائيل، لم تستدعِ الإمارات سفيرها بعد بدء الحرب في غزة.

كانت اتفاقيات أبراهام بمثابةِ لحظةٍ فاصلة، حيث أظهرت مدى تركيز الإمارات على السياسة الواقعية بدلًا من القضايا العربية أو الإقليمية، بما في ذلك مستقبل الفلسطينيين. وبدلًا من ذلك، فإنها تعكس المصالح المُتداخِلة لدولة الإمارات وإسرائيل، مثل القلق المشترك من أن الولايات المتحدة لن تساعدهما بعد الآن إذا هاجمتهما إيران. وهي تعكس أيضًا المخاوف المُشتركة بشأن الخطر الذي يُشكّله وكلاء إيران، ومخاطر التطرّف الإسلامي، والمخاطر التي تأتي من الجماعات الإسلامية المسلحة مثل “حماس”.

ليس من المستغرب إذن أن تأمل الإمارات في أن يتم إبعاد “حماس” –التي لها صلات ب”الإخوان المسلمين”– من غزة. لقد أوضحت الحرب أن استراتيجية الإمارات لا تزال ضعيفة أمام جغرافيتها، وهي تعلم أن الإسلاميين يُشكّلون تهديدًا إقليميًا. ولهذا السبب، أعادت الإمارات، منذ بداية الحرب، تأكيد علاقاتها مع إسرائيل. وهي تظل جُزءًا من خطتها الاستراتيجية الأوسع.

مع ذلك، فوجئت الإمارات بالرد العسكري الإسرائيلي الذي طال المدنيين. لذلك فقد استخدمت موقفها في مجلس الأمن الدولي للضغط من أجل وقف إطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية. وبدون وقف إطلاق النار في متناول اليد، رفضت الإمارات (مثل معظم الدول الإقليمية) المشاركة في المناقشات أو دعمها بشأن ما يجب أن يأتي بعد الحرب، تاركةً لإدارة بايدن تولي زمام المبادرة. لكن وراء الكواليس، لدى البلاد خطة. إنها تريد من محمد دحلان، الزعيم السابق في السلطة الفلسطينية، أن يُديرَ القطاع بعد ذلك. ومن المرجح أن تستخدم نفوذها لدى إسرائيل للضغط من أجل تولي دحلان المسؤولية، على الرغم من أن دحلان شخصية مثيرة للجدل إلى حد كبير. وسوف ترغب أيضًا في معالجة دور إيران باعتبارها راعية ل”حماس” وإضعاف شبكة وكلاء إيران -بما في ذلك الحوثيين، الذين عطّلوا الشحن في البحر الأحمر.

ثِقّ في العملية

أدّت اتفاقيات أبراهام بالفعل إلى زيادة التعاون الدفاعي بين الإمارات وإسرائيل. لكن هذه الاتفاقيات مُصَمَّمة للقيام بما هو أكثر من مجرد تعزيز الأمن. من المفترض أيضًا أن تساعد اقتصاد الإمارات. خلقت الاتفاقيات فُرصًا اقتصادية وتكنولوجية وتجارية ثنائية في مجموعة متنوعة من الصناعات، بما في ذلك الطاقة والسياحة والرعاية الصحية والموانئ. ودفع ذلك الإمارات إلى رفع قيود التأشيرات عن الإسرائيليين والتوقيع على اتفاقية تجارة حرة مع الحكومة الإسرائيلية. كما ساعدت الاتفاقيات الإمارات على تطوير علاقات اقتصادية أعمق مع الولايات المتحدة، وبالتالي يمكن أن تربط الإمارات بسلاسل التوريد خارج الشرق الأوسط. وبشكل عام، من المفترض أن تعزز الصفقة التجارة إلى 4 مليارات دولار في غضون خمس سنوات.

ولكن حتى الآن، فإن الفوائد الملموسة للصفقة غير مؤكّدة. لا توجد حتى الآن أيُّ تقديرات لمدى النمو الاقتصادي الذي أنتجته الصفقة، وكان الإماراتيون مُتردّدين في بناء تبادلاتٍ شعبية مع الإسرائيليين. وستجعل الحرب التكامل بين الدولتين أكثر صعوبة. ولم تكن علاقات الإمارات مع إسرائيل بمثابة نعمة للسياسة الديموقراطية. لقد استخدمت الإمارات برنامج التجسس “Pegasus” الذي أنتجته إسرائيل لاختراق المُنشقّين والصحافيين، ووفقًا لصحيفة الغارديان، هاتف رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون.

من الصعب أن نقول إلى أي مدى يُشكّلُ السلوك المُتّبع في البلاد نقطة ضعفٍ بالنسبة للحكومة. هناك القليل جدًا من البيانات حول الرأي العام الإماراتي، ومن الصعب معرفة من يهمّه رأي الحكومة؛ أكثر من 90 في المئة من سكان دولة الإمارات ليسوا مواطنين. لكن الحكومة أوضحت تمامًا خلال مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين أنه ليست هناك أي علامة على معارضة. وكانت السلطات اتّهمت 87 ناشطًا إماراتيًا بارتكاب جرائم إرهابية لتنظيمهم سلسلة من الاحتجاجات، والعديد منهم موجود بالفعل في السجن. يبدو أن الإمارات لا تقلق كثيرًا بشأن كونها دولة متشدّدة ضد الاحتجاجات.

ربما كانت الإمارات ستكون أكثر قلقًا بشأن شكل حملتها الأمنية لو كانت الاحتجاجات أكبر. ومع ذلك، بشكل عام، يبدو المواطنون الإماراتيون راضين عن الثراء والراحة والأمان التي توفرها دولتهم مقارنة بأماكن أخرى في الشرق الأوسط. على الرُغم من أنَّ المواطنين الأقل ثراءً من الإمارات الشمالية الذين فقدوا أحباءهم في القتال في اليمن قد أعربوا عن بعض السخط، إلّا أنَّ ذلك لا يكفي لتحدّي الحكومة.

إن كون معظم السكان من الأجانب يمكن أن يخلق تحديات مستقبلية لحكّام البلاد. يبلغ عدد سكان دولة الإمارات 9.3 ملايين نسمة، منهم حوالي مليون مواطن إماراتي. أما الـ8.3 ملايين الباقين فهم من العمال والموظفين المهاجرين، ومعظمهم من العاملين بعقود مؤقتة يتم جلبهم من جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. يصل هؤلاء العمال بموجب برنامج العمال الضيف المؤقت ويصبحون جُزءًا من نظام العمل بالكفالة سيئ السمعة، والذي تعرّضَ لانتقادات واسعة النطاق من قبل جماعات حقوق الإنسان الدولية لتعريض العمال المهاجرين للانتهاكات. وقد وثق النشطاء ظروف العمل الاستغلالية، وأماكن المعيشة المكتظة، والقيود المفروضة على حرية التنظيم والمفاوضة الجماعية، وحجب الرواتب. وعلى الرغم من أن السلطات الإماراتية قد أصدرت عددًا من القوانين لمعالجة هذه المشاكل، إلّا أنها نادرًا ما يتم تنفيذها. فالعمال، على سبيل المثال، يواصلون الإبلاغ بشكل متكرر عن الاعتداءات الجنسية. ونتيجة لذلك، منعت الحكومات المحلية، مثل الفلبين، في بعض الأحيان من توظيف العاملات في دولة الإمارات. لكن هذا الحظر قصير الأجل، حيث تسود الحاجة إلى التحويلات المالية. ولذلك يبدو من غير المرجح أن يؤثر هؤلاء العمال كثيرًا على الحكومة بشكل كبير، على الأقل في المستقبل القريب.

في العام 2010، أصدرت أبو ظبي رؤية الإمارات العربية المتحدة 2021، وهي أجندتها لتحسين التعليم في البلاد، والتطوير التكنولوجي، والبنية التحتية، والاقتصاد العام. ومنذ ذلك الحين، قامت دولة الإمارات بتوسيع جامعاتها ومطاراتها ووسط المدن؛ أنشأت برنامج الفضاء الأول في الشرق الأوسط؛ وأصلحت نظامها الضريبي؛ وأنشأت تأشيرات جديدة طويلة الأجل تهدف إلى جذب العمال ذوي المهارات العالية. ومع ذلك، في العديد من المجالات الحاسمة، لم تصل الخطة إلى المستوى المطلوب. فقد فشلت البلاد، على سبيل المثال، في تقديم إصلاحات عمالية من شأنها أن تُسَهّلَ على العمال تغيير أصحاب العمل (وبالتالي رفع الأجور)، ولم تفعل ما يكفي لإدخال المواطنين الإماراتيين في القوى العاملة. وعلى الرُغمِ من أنَّ دولة الإمارات أصبحت أقل اعتمادًا على النفط اليوم مما كانت عليه في الماضي، إلّا أنَّ عائدات النفط لا تزال تُمثّل 15 في المئة من الاقتصاد. ولا تزال صناعاتها المصرفية والسياحية -التي تعتبرها الإمارات مستقبل البلاد- قوية، لكنها تتعرّض لضغوطٍ متزايدة من المنافسين الإقليميين مثل السعوديين.

لدى دولة الإمارات خطة جديدة –رؤية 2071– تُعَدُّ بمثابة نسخة أكثر طموحًا من رؤية 2021. وهذه المرة، تقول الدولة إنها ستستثمر المزيد في الرعاية الصحية والتعليم وصناعات التكنولوجيا لتنويع الاقتصاد. كما تقول أنها ستعمل بجهدٍ أكبر للابتعاد عن الوقود الأحفوري. وفي مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28)، ساعدت دولة الإمارات على إقناع ما يقرب من 200 دولة بالموافقة على التحوّل بعيدًا من الكربون. ومع ذلك، هناك خبراء يشككون في صدق دولة الإمارات. لقد التزمت الدولة بزيادة الاستثمار في صناعة الوقود الأحفوري في المدى القريب، وعندما يتعلق الأمر بمكافحة تغير المناخ، فإنَّ دولة الإمارات تستثمر بشكل شبه حصري في تقنيات مثل احتجاز الكربون، والتي تم تصميمها لإطالة عمر قطاع النفط. لجعل رؤيتها لعام 2071 حقيقة واقعة، ستحتاج دولة الإمارات إلى أن تكون أكثر جدية بشأن تغير المناخ. وسوف تحتاج أيضًا إلى القيام باستثمارات حقيقية في تحسين إنتاجية مواطنيها وتعزيز أمنها.

البقاء على قيد الحياة

إنَّ رؤيةَ الشيخ محمد بن زايد للمستقبل مُتَجَذِّرة في ضرورة بسيطة: الديمومة والبقاء. يُمثّل الشرق الأوسط بيئة أمنية قاسية لا ترحم، وباعتبارها دولة صغيرة، فإن الإمارات مُعَرَّضة بشكلٍ خاص للاضطرابات. وبالتالي فإن ضمان استدامة حكم الأسرة (وأُسَر الإمارات الست) وطول عمر دولة الإمارات قد يتطلب المزيد من الثروة والمزيد من القوة.

حتى الآن، لعب الشيخ محمد بن زايد دوره بفعالية. لقد أصبحت دولة الإمارات بمثابة دراسة حالة لكيفية قيام الدول الصغيرة بدور كبير في السياسة والاقتصاد الدوليين، مثلما فعلت عائلة “ميديشي” في فلورنسا . لكن عائلة “ميديشي” انهارت أيضًا حيث فقدت الأسرة وحدتها ورؤيتها المشتركة. ومع مرور القرون، أدت النزاعات على الميراث والخلافة، إلى جانب الفصائل المتناحرة الداخلية، إلى إضعاف سيطرتها. وفي الوقت نفسه، شكّل صعود عائلات قوية أخرى في إيطاليا تحدّيًا لسيادة “ميديشي”، واكتسبت دول المدن الأخرى المجاورة السلطة ما أدى إلى تقليص النفوذ السياسي لعائلة ميديشي. في نهاية المطاف، مع وجود قادة أقل موهبة على رأس السلطة، عانت الأسرة من خسائر مالية وسياسية كبيرة أدت إلى زوال السلالة.

قد يواجه الشيخ محمد بن زايد وإخوته (وأسر الإمارات الست الباقية) العديد من التوترات نفسها التي أدّت في النهاية إلى انهيار عائلة “ميديشي”. تتعايش الأسرة جيدًا الآن، لكن، لديها تاريخٌ من الاقتتال الداخلي. وهي مُحاطة بدولٍ إقليمية أخرى حازمة، وقد تمتد صراعات هذه الدول المحلية إلى حدودها. وتواجه الإمارات أيضًا تحديات لم تكن تواجهها عائلة “ميديشي”. وكما يعلم الشيخ محمد بن زايد جيدًا، فإنَّ الولايات المتحدة قد لا تكون دائماً شريكًا أمنيًا جيدًا. وفي المدى الطويل، يمكن أن يؤدي تغيّر المناخ إلى درجات حرارة شديدة وموجات جفاف تجعل شبه الجزيرة العربية غير صالحة للسكن.

إن تحقيقَ الإمارات لطموحاتها العالمية سيساعدها على التغلب على هذه التحديات، ولا سيما محورها بعيدًا من صناعة النفط. ولكن في نهاية المطاف، فإنَّ أفضل طريقة لبقاء وديمومة البلاد هي من خلال التصالح مع جغرافيتها. وعلى الرُغمِ من أنَّ دولة الإمارات قد تبدو مُتَقَدِّمة على جيرانها الآن، إلّا أنَّ دولًا عدة تُلاحقها وتحاول تقويض أمنها. ونتيجة لذلك، فبدلًا من محاولة الانغلاق على نفسها خارج المنطقة، فإن المصالح الأمنية والاقتصادية الطويلة الأمد للبلاد سوف تتحقق بشكل أفضل من خلال إطارٍ أمني إقليمي أقوى ــ وهي العملية التي تتطلب تكاملًا إقليميًا أعمق وآليات أكثر فعالية لحل الصراعات. قد يؤدي الاقتتال العائلي إذا حصل إلى إضعاف أو تغيير دولة الإمارات -فلا شيء يدوم إلى الأبد- ولكن ما لم تتمكن من السيطرة على جغرافيتها، فإنَّ العيشَ في جوارٍ قاسٍ يتضاءل أمام قوى مُهَيمنة من جميع الجوانب سوف يُؤثّر فيها أوّلًا.

في نهاية المطاف، هذا يعني أن دولة الإمارات العربية المتحدة يجب أن تقبل أنه بغضِّ النظر عن مدى قوتها ونفوذها، فإنها ستظل دائمًا مُحاصَرة من قبل إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا التي تغار من تقدّمها. ولا تستطيع الإمارات السبع الهروب من قيودها المادية، ولن يتمكن شركاؤها الخارجيون -مهما تعهّدوا بتقديم الدعم- من حماية البلاد إلى ما لا نهاية. ومَن يعلم، فقد يقارن مؤرخو المستقبل عائلة “ميديشي” بآل نهيان. لكن سيتعيَّن على الدولة أن تصلَ إلى العام 2071 ثم تتجاوزه أوّلًا.

  • نيل كويليام هو زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس” في لندن. وسَنام فاكيل هي مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس” في لندن.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى