روسيا – إسرائيل: حفلة عتاب!
محمّد قوّاص*
لا يجب وضع ضجيج موسكو حول الوكالة اليهودية في روسيا إلّا في سياق العلاقات الثنائية بين روسيا وإسرائيل، من دون أن تكون للأزمة أيّ أبعادٍ يمكن الركون إليها للتعويل على تغيّرٍ استراتيجيٍّ ما في نظرة روسيا الى إسرائيل ووجودها ودورها في الشرق الأوسط. والتوتر بين البلدين من عاديات مسار علاقات توطّدت بين موسكو وتل أبيب في مراحل مُعَيَّنة وشهدت برودة وتوتّرًا في مراحل أخرى.
يُرادُ لقضية الوكالة اليهودية أن تكون مُبرّرًا تتعلّل به موسكو لبحث ملفات أخرى أو التعبير عن امتعاضٍ أو غضب. وفيما تُقدِّمُ روسيا الأمرَ بصفته نزاعًا قانونيًا يتعلّق بطُرُقِ عمل الوكالة في روسيا وتتحرّك المحاكم للتعامل معه، فإن إسرائيل بدورها تشتغل على الرواية الروسية هذه، وتسعى إلى التعامل مع القضية تعامُلًا تقنيًا قانونيًا صرفًا، وتنتظرُ موافقة موسكو لإرسال “وفد قانوني” للتباحث بشأن النزاع مع السلطات القضائية الروسية.
ليست في الحدث سابقة تاريخية. سبق أن توتّرت علاقات البلدين ووصلت إلى حدّ قطع العلاقات الديبلوماسية تارة لأسباب ثنائية، لا سيما في العام 1953 عندما وصف ديفيد بن غوريون النظام السياسي السوفياتي بأنه “حظيرة للعبيد”، وتارةً لأسبابٍ تتعلّق بالصراع العربي-الإسرائيلي، لا سيما في العامين 1956 و1967. غير أن روسيا، السوفياتية المُندَثِرة أو الاتحادية الحالية، حرصت دائمًا على المحافظة على العلاقات مع إسرائيل وحتى دعم وجودها وتطوّرها.
الفلسطينيون في فلسطين يستنتجون بسهولة حجم الهجرة اليهودية من روسيا (تُقدَّر بمليوني مهاجر) التي طالما جرت تحت أعين موسكو. يعرفون أيضًا أن روسيا حتى في عزّ قيادتها للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في العالم لم تدعم “القضية الفلسطينية” بالمستوى نفسه الذي دعمت به الولايات المتحدة والمنظومة الغربية “المسألة اليهودية”، وصولًا إلى الدعم الواسع لدولة إسرائيل.
تُوَجِّهُ موسكو، من خلال “الاستفاقة” على دور الوكالة اليهودية في روسيا، رسائلَ إلى إسرائيل تكشف حجم غضب الكرملين والرئيس فلاديمير بوتين من موقف تل أبيب ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، بالذات، من الحرب في أوكرانيا.
لم تمسّ موسكو “الوكالة” ولم تهمّها أساليبها الساهرة على إرسال مئات آلاف اليهود إلى إسرائيل واستيطان آلاف منهم في الضفة الغربية. ولم تشعر “الوكالة” بأيِّ خطرٍ روسي “إداري” يتهدّدها طوال العقود القديمة والحديثة التي كانت تُمارس إسرائيل فيها الاحتلال والقمع والترهيب والفصل العنصري (الأبارتايد) ضد الشعب الفلسطيني.
وجب التذكير أن لروسيا حكاية في قيام دولة إسرائيل. حتى أن الكاتب اليهودي الروسي ليونيد مليتشين، أصدر كتابًا في موسكو في العام 2005، بعنوان “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟” قال فيه “لم تكن إسرائيل لتظهر إلى الوجود، لو لم يكن ستالين أراد قيامها”.
يستند الخبير في الشؤون الروسية سامي عمارة إلى وثائق سوفياتية في إصداره في العام 2021 كتابًا حمل عنوان: “موسكو- تل أبيب: وثائق وأسرار”. يقول الكاتب إن تلك الوثائق الرسمية تكشف أن “ما قدّمه الاتحاد السوفياتي من جهد ومساعدات كان العامل الرئيسي في تثبيت أقدام دولة إسرائيل، على النقيض من الشائع عن أن الوعد البريطاني (بلفور) الصادر في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، كان هو أهم عوامل قيام الدولة”.
ومن دون الدخول في حيثيات هذه الأدبيات وغيرها التي تستحق معالجات منفردة، فإنه حريّ عدم المبالغة في قراءة موقف موسكو من “الوكالة” وعدم الانجرار وراء آراء في منطقتنا اعتبرت أن الحدثَ يُشكّل تحوّلًا تاريخيًا مفصليًا.
لم تُرسل إسرائيل أسلحة فتّاكة إلى أوكرانيا، بل لوجستيات دفاعية (خوذات وسترات واقية) وطبية. لكن لابيد اختار، منذ أن كان وزيرًا للخارجية قبل أن يتولى منصب رئاسة الوزراء، أن يتّخذَ موقفًا يخرج إسرائيل من رماديتها وسعيها الركيك للحياد في الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، ويؤكد الانحياز للموقف الأميركي الغربي في إدانة الغزو ورفض الحجج الروسية.
والواضح أن روسيا، التي تُقارب العالم بتقسيمه إلى خصوم وأصدقاء في هذه الحرب، أدرجت إسرائيل في خانة البلدان غير الودودة التي تستحق تنبيهًا من نوع مضايقة “الوكالة” والتلويح بإغلاقها.
يصف لابيد وقف أنشطة الوكالة اليهودية في روسيا بأنه أمرٌ “خطير وسينعكس على العلاقات”. ترد المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عاتبة: “ألا يعتقد هؤلاء الأشخاص أن نشاطهم وتصريحاتهم في الأشهر الأخيرة قد أثّرت في العلاقات؟”. يشبه السجال عتاب الأحبة لا ردح الخصوم.
والحال أن الأمرَ يأخذ حتى الآن شكل “الحرد”. لم يصدر عن موسكو موقفٌ سياسي رسمي مباشر يُهاجِمُ إسرائيل ويَنتقِدُ “موقفها الأوكراني”. أما تل أبيب فإنها تزعم الاستغراب وادّعاء عدم الفهم وتتقصّد عدم تكبير حجم “الحرد” وضبط ردود الفعل بشأنه. حتى أن إسرائيل التي تتهيَّأ (وفق البروباغندا المحلية) لمنع إيران من إنتاج القنبلة النووية والاستعداد لحربٍ متعدّدة الجبهات ضد أذرعها في لبنان وغزة وسوريا ومناطق أخرى، وتستعد لخوض انتخاباتٍ تشريعية أخرى بعد أسابيع، لا تتعامل مع جديد روسيا كأمرٍ طارئٍ عاجل.
مفهومٌ أن تَتَّخِذَ موسكو أيّ إجراءٍ مع أيِّ بلدٍ ترى أن مواقفه من “العملية الخاصة” في أوكرانيا مُعادية لمصالح روسيا. وفق هذا، تحجب إمدادات الغاز عن دولٍ من دون أخرى مثلًا، ووفق ذلك، تقرر إحداث جلبة حول “الوكالة اليهودية” وأنشطتها مثلًا آخر.
لكن الموقفَ الروسي الاستراتيجي تجاه إسرائيل لم يتبدّل ولا أدبيات سياسية توحي بذلك. ولئن لم يُسجَّل في موسكو أيّ تطوّر يتعلّق بالقضية الفلسطينية لجهة التمسّك بديباجة حلّ الدولتين وحقوق الشعب الفلسطيني (وهو موقف غربي أيضًا)، فإنه أيضًا، بالأدلّة والوقائع الميدانية، لم يُسجَّل أي انقلاب صارم على تفاهمات بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو بشأن سوريا. وحين كشف وزير الدفاع بني غانتس عن نيرانٍ روسية أُطلِقت على طائرات إسرائيلية مُغيرة في سوريا قبل أشهرٍ اعتُبِرَ حدثًا عرضيًا. وفي الميدانين، الفلسطيني والسوري، فإن “إسرائيل تعمل كالمعتاد”.
أمر “النزاع” قد يُمثّل تدخّلًا روسيًّا في الانتخابات الإسرائيلية (لمصلحة نتنياهو)، وقد يتصاعد ويأخذ أشكالًا إسرائيلية أشدّ قسوةً في تبادل الإجراءات (تسرّبَ في الإعلام الإسرائيلي بعضٌ منها). لكن الخلافَ سيبقى تحت سقفٍ مقبول لا يمسّ أيّ مُقدَّس في علاقات موسكو “القديمة” مع إسرائيل ولن يُغَيِّرَ، خصوصًا، من أيِّ توازناتٍ في موقف إسرائيل من الشرق الأوسط (فلسطين وسوريا بالأخص).
وإذا ما كان اقتراب موسكو من طهران والاستعانة بمُسيِّراتها يتطلّبان موقفًا روسيًّا يحفظ ماء الوجه ضد إسرائيل، فإن الطَرقَ على أبواب “الوكالة” قد يكون أقلّ المواقف تكلفة وربما أنه المتاح الوحيد في هذا الشأن. يكاد دِميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، الذي يعتبر أن “لا حاجة لتسييس هذا الوضع وتصويره على أنه يتعلّق بالنطاق الكامل للعلاقات الروسية-الإسرائيلية”، يختصر الكلام.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).