التَكامُلُ الدفاعي للاتِّحادِ الأوروبي يَنتَقِلُ من الخيالِ إلى الواقع

يبدو أن حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا قد حفّزت دول الاتحاد الأوروبي على التكامل الدفاعي بعدما تكاملت اقتصاديًا وسياسيًا.

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين: حفّزت فكرة الدفاع الأوروبي المشترك

ألِكسَندَر كلاركسُون*

بعد أيامٍ قليلة على الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما كانت أوروبا لا تزال تُعاني من الصدمة، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أن الوقت قد حان لما أسماه “تسايتنويندي”، أو “تغيير البحر”، في كيفية تعامل البلاد مع الدفاع الوطني والجماعي. بالإعلان عن زياداتٍ ضخمة في موازنة الدفاع الألمانية، يُمثّلُ خطابُ شولتز أمام البوندستاغ –البرلمان الألماني– في 27 شباط (فبراير) الفائت تحوّلًا تاريخيًا في الأولوِّيات الإستراتيجية لألمانيا. لكنه عكس أيضًا إعادةَ تقييمٍ أوسع عبر الاتحاد الأوروبي حول كيفية الردّ على التهديدات العسكرية التي تواجه دول الجوار الأوروبي.

المُعضِلاتُ التي أثارتها إعادة التسلّح السريع لألمانيا كبيرة. بعدما أنهكته عقودٌ من نقص الاستثمار، أصبح الجيش الألماني الآن مليئًا بالاختلالات المؤسّسية التي ستتطلّب جهدًا كبيرًا لمعالجتها. إلى جانب المحاولات المحمومة لإعداد المجتمع الألماني للنتائج التي سيحملها إنهاء واردات الغاز الروسي على الشركات والمستهلكين على حد سواء، فإن المُعضِلات التي تواجهها ألمانيا وحدها الآن ستستوعب انتباه صانعي السياسة الألمان لسنواتٍ مُقبلة.

ومع ذلك، فإن حجمَ التحدّي الذي يواجه الاتحاد الأوروبي يتجاوز برلين، بطُرُقٍ تُعيدُ تَشكيلَ كلّ دولةٍ مُرتَبطة بنظام الاتحاد الأوروبي. على الرغم من إهدار الحكومات الألمانية وحكومات أوروبا الغربية الأخرى الكثير من الوقت، إلّا أن صدمة الاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم في آذار (مارس) 2014 أدّت بالفعل إلى تحوّلٍ في التصوّرات عبر الاتحاد الأوروبي حول التهديد الذي يُشكّله النظام الروسي العدواني في عهد الرئيس فلاديمير بوتين على التكامل الأوروبي. أثار استعداد روسيا اللاحق لنشر القوة العسكرية –مُباشرة في سوريا واستخدام المرتزقة في ليبيا ومنطقة الساحل ونقاط الضغط الأخرى حول حدود الاتحاد الأوروبي– غضب المسؤولين الإيطاليين والإسبان والفرنسيين الذين ربما كانوا أقل استعدادًا للنظر إلى بوتين على أنه خصمٌ خطير.

وفي الوقت الذي واجه الأوروبيون العدوان الروسي، تركت تصرفات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إرثًا من الشك حول استعداد واشنطن لحماية أوروبا. وعلى الرغم من محاولات الرئيس جو بايدن لاستعادة الثقة في مصداقية الولايات المتحدة، فإن المخاوف بشأن قوة الصين تجذب انتباه صانعي السياسة الأميركيين بشكل متزايد نحو التحدّي الهائل المُتمثّل في الحفاظ على الهيمنة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ونتيجة لذلك، لا يزال الأوروبيون قلقين من أن حماس واشنطن المُتجدّد لحلف شمال الأطلسي لدعم أوكرانيا يمكن أن يكون آخر حلٍّ لدور الولايات المتحدة في الدفاع عن أوروبا، وليس إحياءً مُستدامًا له. وحقيقة أن الولايات المتحدة أثبتت أنها ضرورية للغاية لجهود حلف شمال الأطلسي (الناتو) الجماعية لدعم أوكرانيا تُشيرُ إلى أنه خلال العقد المقبل على الأقل، سيكافح الأوروبيون لتعبئة جيوشهم بدون مساعدة الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى تحفيز “تغيير البحر” الألماني، أدّت هذه المخاوف المُزدوجة بشأن العدوان الروسي وموثوقية الولايات المتحدة إلى ثلاثة تحوّلات أساسية في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والتي تُمثّل الخطوات الأولى نحو ما يُسمى غالبًا بالحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي. إن قابلية الدول الأوروبية على حماية نفسها وجوارها من دون الاعتماد على المساعدة الأميركية لديها القدرة على تسريع التكامل الأوروبي بطريقةٍ من شأنها تحويل علاقات أوروبا مع العالم الأوسع.

يعكسُ التحوّلُ الأول إدراكَ الحاجة إلى تعزيز المرونة الاستراتيجية الأوروبية بطُرُقٍ تُقلّل الاعتماد على الولايات المتحدة. ألمانيا هي المثال الأبرز على كيفية إعادة الانخراط المفاجئ مع الاحتياجات الدفاعية للتغلب على عقودٍ من الخلل المؤسّسي في الشؤون العسكرية. لكن دولًا أوروبية أخرى مُذنبة بارتكاب إهمالٍ مُماثل –مثل إسبانيا وهولندا وجمهورية التشيك– أجرت أيضًا عمليات إعادة تقييم “وحشية” مُماثلة للمدى الذي يُهدّد فيه نقص الاستثمار العسكري بقاء نظام الاتحاد الأوروبي الذي ترتبط فيه ومن خلاله ثرواتها ارتباطًا وثيقًا.

كما أجبرت المخاوف من العدوان الروسي والشكوك المستمرة حول مصداقية الولايات المتحدة بريطانيا على إعادة الانخراط مع الأمن الأوروبي. لقد فتحت إعادة النظر في أولويات المشتريات والنشر البريطانية هذه مساحةً للحفاظ على علاقاتٍ وثيقة مع الحلفاء في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من التوترات المستمرة بين لندن وبروكسل حول إدارة تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

كان التحوّل الثاني في الأمن الأوروبي هو إعادة النظر في قيمة الحياد للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي غير المُنضَمَّة إلى الناتو. لقد قيل الكثير عن السرعة التي تخلّت بها السويد وفنلندا عن وضعهما المحايد لصالح عضوية الناتو بعد غزو روسيا لأوكرانيا. ولكن في حين أن الزيادة الأخيرة في الدعم للانضمام إلى حلف الناتو كانت رائعة، إلّا أنها كانت نتاجًا للنقاش في كلا المجتمعين والذي ظل قائمًا منذ العام 2014. إن الأسس المؤسّسية لهذا التحوّل السلس إلى الاندماج الكامل في هياكل الناتو هي نتاج سنوات من العمل، في بيئة أدى فيها العدوان الروسي إلى نفور معظم الناس في دول البلطيق والدول الاسكندنافية. نظرًا إلى أن السويد وفنلندا في طريقهما للانضمام رسميًا إلى الحلف، فإن غالبية دول الاتحاد الأوروبي هي الآن أعضاء في الناتو، مما قد يؤدي إلى دمجٍ تدريجي للأولويات الاستراتيجية لكلا المؤسّستين.

والأمر الأكثر أهمية هو إعادةُ تقييمٍ مماثلة في إيرلندا لأهمية القدرات الدفاعية في سياق التكامل الأوروبي. على الرغم من أن التخلّي عن الحياد لعضوية الناتو لا يزال يُمثّل خطوةً كبيرة جدًا بالنسبة إلى المجتمع الإيرلندي، إلّا أن شبح العدوان الروسي ضد مستعمرة سابقة أعاد إحياء المخاوف الاستراتيجية بين صانعي السياسة الأيرلنديين الذين يدركون تمامًا مدى اعتماد أمن دولتهم على التعاون غير الرسمي مع المستعمر السابق، المملكة المتحدة. على الرغم من عدم وجود شك في أن لندن ستستخدم نفوذها الأمني ​​للضغط على دبلن، إلّا أن التدهور في العلاقات بين أيرلندا والمملكة المتحدة بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية، إلى جانب زيادة نشاط الاستخبارات الروسية والصينية على الأراضي الإيرلندية، التي تستهدف عالمبًا أجزاء رئيسة في قِطاعَي تكنولوجيا المعلومات والأدوية،ا إلى تقديرٍ مفاجئ في إيرلندا لأهمية الموارد العسكرية والاستخباراتية.

والنتيجة هي زيادة غير مسبوقة بنسبة 50 في المئة في موازنة الأمن والدفاع في إيرلندا، من مليار يورو إلى 1.5 مليار يورو. وحسب أعلان 13 تموز (يوليو)، فإن الإنفاق الإضافي سيُعطي الأولوية لقدرات الفضاء الإلكتروني والبحرية والدفاع الجوي والقوات الخاصة بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين. يُمثّلُ هذا الأمر إعادةَ تفكيرٍ كاملة في الحدود التي يجب أن يضعها الحياد على مساحة إيرلندا للمناورة كجهة فاعلة أمنية، وهو أمرٌ لم يكن من الممكن تصوّره قبل بضعة أشهر فقط.

يتمثّل التحوّل الأخير في الأمن الأوروبي في الإنخراط المتزايد للمفوضية الأوروبية في سياسة الدفاع. على الرغم من أنها تحدث بوتيرة أبطَأ بكثيرٍ من العمليات الأخرى، إلّا أنها قد تُصبحُ بمرور الوقت أهم تغيير على الإطلاق. بتطويرِ الهياكل لدمج صناعة الأسلحة الأوروبية المُجَزَّأة، ووضع عقوبات واسعة النطاق ضد موسكو أكثر مما كان مُتَوَقَّعًا، والعمل مع الولايات المتحدة لتقديم مساعدة مالية حاسمة إلى كييف، بذلت المفوضية المزيد من أجل بثّ الروح في فكرة سياسة الدفاع الأوروبي المشترك في الأشهر الخمسة التي انقضت منذ الغزو الروسي لأوكرانيا مُقارنةً بالعقود الخمسة التي سبقتها. على الرغم من أن تطور هذا الأمر سيستغرق سنوات عديدة، إلّا أن احتمالية أن تتولى مؤسسات الاتحاد الأوروبي في الوقت المناسب الدور المركزي للولايات المتحدة في قيادة الاستجابات الأوروبية للتهديدات الأمنية قد تكون في النهاية تركة الحرب الروسية-الأوكرانية التي كان لها أكبر الأثر.

المناقشات الحالية حول الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي لها أوجه تشابه رائعة مع كيفية تشكّل التكامل النقدي الأوروبي في نهاية القرن العشرين. في بيئةٍ جيوسياسية مُتغيّرة شكّلها انهيار الاتحاد السوفياتي وتزايد التوترات مع الولايات المتحدة بشأن السياسة التجارية، تطوّرت فكرة العملة المشتركة لتأكيد طموحات الاتحاد الأوروبي في أن يصبح لاعبًا عالميًا بشكل تدريجي من عالم الخيال إلى الواقع الاقتصادي. هذه العملية، التي من خلالها تَبَلوَرَ مشروعٌ كان يُنظَرُ إليه في البداية على أنه غير واقعي بشكل ميؤوس منه حتى أصبح جُزءًا من الحياة اليومية الأوروبية، هي سابقة يجب وضعها في الاعتبار عندما يتعلق الأمر بطموحات أوروبا الإستراتيجية.

ومع ذلك، فإن ظهور اليورو يحمل أيضًا تحذيرًا لجيل اليوم من القادة الأوروبيين. حتى بعد إدخال اليورو في العام 2002، ظلّ العديد من الأوروبيين مُقتَنعين بأنه في عالمٍ يُفتَرَض أنه مستقر، فإن العملية اللازمة لتوحيد عملة مشتركة يمكن أن تستمر بوتيرة جامدة. ومع ذلك، بحلول العام 2010، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في صراعٍ وجودي لإنقاذ اليورو، حيث اضطرت المؤسسات غير المُكتملة فجأة إلى اتخاذ قرارات في غضون ساعات اعتقد القادة الأوروبيون أن لديهم عقودًا.

حتى مع بدء الزخم في التبلور تجاه التكامل العسكري الأوروبي، هناك علامات مقلقة على أن قادة الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة قد نسوا الدروس المستفادة من أزمة منطقة اليورو. عندما يتعلق الأمر بمسائل الحرب والسلام، لا يستطيع الأوروبيون افتراض أن لديهم عقودًا لتطوير القدرات التي هم في أمس الحاجة إليها، فقط للوقوع في أزمة حيث لا وقت لديهم لمواجهتها.

  • ألِكسَندَر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في “كينغز كوليدج لندن” (King’s College London). يستكشف بحثه التأثير الذي أحدثته مجتمعات الشتات عبر الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945 وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام الحدود في الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع الدول المجاورة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @APHClarkson
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى